الطريق إلى الأمين الخمليشي

 

غاب عن مرآي قبل أكثر من عقدين. العلاقات الانسانية، مثل نوبات المطر، حالنا اليوم، تقبل بغزارة، ثم لا تلبث أن تكف. وإن ليس للمرء عذر في عدم السؤال عن تواري بعض الوجوه العزيزة، إلا أن الاستمرار في استقبال طائف منهم، خلال لحظة استرجاع نوستالجية مشرقة، قد يخفف من بعض الانسحاق الإنساني، الذي نتعرض الى قوته التدميرية، بفعل انشغالات الحياة اليومية، وإكراهات الواقع المتواترة.
يحضرني، الآن، خيال من الأمين الخمليشي: الكاتب، والأستاذ، والصديق. قبل أن ألتقيه، قرأت له. وقبل أن أصادقه، درست على يديه. بالمدرسة العليا للأساتذة، وفي منتصف التسعينيات، بالضبط، قضيت سنتين طالبا في فصله.
لطالما سحرت بأسلوبه الأدبي، وبخاصة بعد قراءة «اشتباكاته». عرف عن كتاباته الأدبية، أنه مقل في الإنتاج حد الندرة، مثل عدد من كتابنا المغاربة. الإقلال في الكتابة، له معان عدة، هي إلى الجدة، والدقة، وتحاشي الإطناب أجنح.
وإلى نباهته الأدبية، ظل الخمليشي يتميز بحسه النقدي العالي، على الرغم من أننا لم نعرف له مؤلفا نقديا في السرد. دروسه، التي ظلت عبارة عن ملاحظات وخلاصات، في نقد الرواية العربية والغربية، لو كتب لها أن تجتمع، لكانت قد ألفت كتابأ بذاتها. الكتب الملهمة، غالبا تلك التي يرويها طلبة عن أساتذتهم. لم يكن ليفوتنا عندئذ – نحن طلبته- إدراك سعة مقروئية الاستاذ في مجال الرواية. سرعة الانتقال، من مقارنة إلى مقارنة، أو من استنتاج إلى استنتاج، عد الفضل فيه إلى تلك المقروئية الواسعة، والخبيرة بالتأكيد.
حصصه في سنتنا الأولى، كانت تجري بعد الظهر مباشرةً. قبل أن يبدأها، اعتاد الأمين أن يسألنا: هل قرأتم الرواية الفلانية؟ في الغالب، كان جوابنا بالنفي، استدراجا له في ما نحب أن نسمع من استعاداته السردية الشفهية تلك، لأهم المؤلفات في الرواية العالمية. الاستمتاع باستعاداته لأحداث بعض الروايات وتفاصيلها، ظل بغيتنا من حصة ما بعد الظهر، وهو الفنان المقتدر في صناعة المتعة. كما أن القدرة على استرجاع التفاصيل، وإعادة تركيبها مجددا، كان يصنع من الرواية المروية شفهيا، على لسانه، عملا أدبيا آخر أحيانا.
الخمليشي، إنسان هادىء ولطيف، وكريم. ثقته بنفسه، وتواضعه مع أصدقائه وطلبته، كانا داعيين إلى الابتعاد عن كل تبجح أو ادعاء. غير أن ثورة خابية، لا تكاد تخفى لديه أحيانا، وهو القادم من مفترق لقاء بين الجبل والبحر. إنه مزاج خاص، ومزيج فريد. الإقبال على قراءته مثل الإقبال على الاستماع إليه. إنه في كليهما مبدع. ولقد كنت محظوظاً أن أوثرت منه، بالمقارنة مع باقي الزملاء في الفصل، بكثرة اللقاء به خارج المدرسة. وكلما صفت العلاقة، كثرت اللقاءات وطالت، ثم راقت وطابت. قدم إلي في المحمدية، من أجل قضاء غرض عابر، فمكث ببيتي أياما. الأيام ولت بسرعة مثل خاطف برق، حيث انقضت عجلة، بالانتقال من مقهى إلى آخر.
الخمليشي، ذاكرة جيله من الكتاب المغاربة. استعاداته الودودة لمشاهد بعض كتابنا، في لقاءاتهم الخاصة، والتي لم تكن تخلو من طرافة ومشاغبة، كانت مدعاة إلى الإنصات بشغف. ومن جميع هؤلاء الكتاب، كانت تثيرني أحاديثه عن المجاطي: كيف كان يكتب جمله الشعرية على علبة كبريت، ثم لا يكف عن مراجعتها وتنقيحها. الخمليشي أقرب إلى المجاطي في أسلوب الكتابة، ولو أن مجال الكتابة لديهما مختلف. إنهما من عبيد الصنعة معا، حسب تقديري الانطباعي.
غاب عني شخصه، باستثناء طيف زائر منه، بين الفينة والأخرى. ولو أن اقامته بالرباط، إلا أن الأخبار، التي يمكن أن ترد عنه، باتت شبه منقطعة. وإن أدركت عدم إقباله على كثرة مخالطة الناس، منذ بداية اتصالي به، إلا أن سماعي بمرضه منذ زمن، يدعو إلى تجديد السؤال عنه اليوم.
يا ترى،
كيف السبيل إلى الخمليشي؟


الكاتب : عبد الدين حمروش

  

بتاريخ : 22/09/2023