الطفرة الإبداعية للواقعية السحرية في الأدب الأمريكي اللاتيني المُعاصر

 

يشير الكاتب الأمريكي إليوت وينبيرغر في هذا الشأن: أنّ الناس دأبوا على القول بأنّ هذا البّووم هو من إنتاج سوق الأدب الأمريكية الذي انتشر منها إلى مختلف أنحاء العالم، وإن الثوب الذي قدّمت به نفسها هذه المجموعة من الكتّاب الذين لا يجمعهم رابط مشترك سوى أنهم كانوا برمّتهم من أمريكا اللاتينية، لم يكن في الواقع حركة جمالية، بقدر ما كان حركة أدبية حظيت بترجمات متوالية في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت الترجمات فيها من قبل قليلة جدّاً لكتّاب ينتمون كلّهم إلى لغة واحدة ومنطقة واحدة من العالم، بخاصّة وأنّ هؤلاء الكتّاب قد أبدعوا في الفنّ الرّوائي بشكلٍ خاص، والذين مهّد لهم من قبل مبدعون آخرون كبار مثل الأرجنتيني بورخيس، والتشيلي نيرودا، والمكسيكي باث، والتشيلي نيكانور بارّا وسواهم .

مئة سنة من العُزلة

لقد كان لهذا البّوم ميل كبير للخيال، ولهذا اعتُبرت «مئة سنة من العُزلة» للراحل غابرييل غارسيا ماركيز في هذا السّياق من أكثر الرّوايات تاثيراً في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، إلاَّ أنّ هذا الكاتب الأمريكي يرى أنّ الشّعر كان له تأثير أكبر وأوسع في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يتوانَ كبار الشّعراء في هذا البلد في ترجمة الشّعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر. وقد صادف هذا البّوم الأدبي ظروفاً تاريخية خاصّة حرب الفييتنام، وظهور حركات الحقوق المدنية إلخ ونجح هذا البّوم لأنّ الناس كانوا متعطّشين لآفاق ثقافية أخرى أسيوية، وهندية، وإلى تقاليع كانت في بعض الأحيان محظورة، وقد وجدوا ضالتَهم في المخدّرات، أيّ كان الناس عطشى لثقافة مُضادّة للثقافة الأمريكية التي كانت سائدة، ولم يتمثّل ذلك البديل في الواقعية السحرية وحسب، بل في أمريكا اللاتينية بأسرها التي كانت تشكّل عالماً جذّاباً جديداً للأمريكيّين، وعليه فالّبوم الأدبي الأمريكي اللاّتيني كان أكثرَ أهميّةً في الشّمال أكثر ممّا هو كان عليه في الجنوب .
وأما الكاتب الأمريكي جون لي أندِرسَن فيرى أنّ أقربَ الكتّاب والرّوائيين إليه في هذه الحركة الأدبية هو الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، إذ منذ أن قرأ روايته مائة سنة من العزلة عالم 1977 فتحت هذه الرواية أمامه آفاقاً جديدة لرؤية العالم، وفهمه بطريقة تختلف عن السّابق، ثم كان لقاؤه بعد ذلك مع كورتاثار، والبرازيلي خورخي أمادو ثم مع ماريو بارغاس يوسا وآخرين. وحسب منظوره فقد تالّق وانتشر هذا الأدب لأنه عُني في المقام الاوّل بالنّاس العاديّين مثل السكّان الأصلييّن، والمُولّدين، والسُّود، وسكان البوادي الذين كانوا مُهمَّشين تماماً، ومن ثمّ أكتسب أهميتَه، وقيمتَه وبُعْدَه الأدبي والإنساني العميق، لقد حققت هذه الحركة الأدبية طفرة نوعية في بابها ليس في أمريكا اللاّتينية وحسب، بل وخارجها كذلك، وأفسحت المجال لعالمٍ أكثرَ شموليةً، وعالميةً، وديمقراطيةً، أكثر مِمَّا كان عليه الأمر من قبل.

طفرة من المحليّة
إلى العالميّ

ترى الكاتبة الإسبانية كريستينا فرنانديز كوباس أنّ أوّلَ مَنْ استرعى انتباهها، وشدّها إلى هذه الحركة وروّادها هوالكاتب المكسيكي خوان رولفو برائعته بيدرو بارامو، ثم جاء في ما بعد الكتاّب الآخرون المنضوون تحت فضاء هذه الحركة الذين أعطوا نفساً قويّاً، وضخّوا دماً جديداً في الرّواية المعاصرة في أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص.ويعترف لنا الكاتب التشيلي لويسْ هاسْ أنّ الرّوائي الاوّل الذي سيطر على مجامعه ضمن هذه الكوكبة من الكتّاب كان هو خوليو كورتاثار. وقد عملت هذه الحركة، أو الطفرة في نظره، على نقل الأدب الأمريكي اللاّتيني من المحليّة إلى العالمية، وعمّمت، وعمّقت المفهومَ البورخياني في عملية الإبداع، وهو أنّ الكاتب الجيّد في العُمق هو كلّ الكتّاب، إذ بواسطة هذا الأدب لم تعد الأسطورة، والمعجزة مجازاً أو استعاراتٍ أو أوهاماً بل أصبحتا حقائقَ كلّ أيامنا المعاشة. ويؤكّد هذا الكاتب أنه لا ينبغي أن يعزبَ عن بالنا الدّورالمِحوري الذي لعبته مدينة برشلونة بالذات في نشر، وذيوع هذه الحركة الأدبية، كما لا ينبغي أن ننسى أنّ المترجم الإنكليزي غْريغُورِي رُوبَاسّا الذي عُني بهذه الحركة عناية فائقة وهو ابن مواطن كاتالاني، كما أنّ الناشر الذي عُني بهذا البّووم في الأرجنتين هو بَاكُو بُورْوَا ويرجع أصله إلى منطقة غاليسيا جلّيقة بإسبانيا . وفي رأي الكاتب الإسباني خوان كروز، فإنّ هذه الحركة الأدبية شكّلت نوعاً من الانتشار والتنوّع للإبداع الأدبي ليس لهما نظير، فالبّوم يعني الانفجار الذي قلب موازين الإبداع الأدبي بتلك الهالة الخلاّقة التي تمثّلت في الواقعية السحرية التي انصهرت داخل هذا الحركة نفسها . ويرى الكاتب الأمريكي شَارلزْ باكستر أنّ أوّلَ ما وصل إليه من الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر العائد لهذه الحركة كانت قصص بورخيس، وكورتاثار، ثمّ اكتشفَ في ما بعد الكولومبي ماركيز، إلاّ أنه ما لبث أن مال في ما بعد إلى الأديب التشيلي خُوسِّيه دُونُوسُو خاصّة كتابه طائر الليل الفاحش الذي لم يتمكّن من التخلّص من آثاره، وتأثيره إلى اليوم. ويشير هذا الكاتب الى أنّ هذه الحركة الأدبية تقتنص اللحظات اليومية المعاشة وتصفها بحماس كبير، وترصد حتى الأوهام، وتلتقط الشّطحات، وتشخِّص الأطيافَ، والكوابيسَ، والشخصيات. هنا تكمن قوّة، وزخم هذه القصص، ويعترف هذا الكاتب صراحة – حسب رأيه – أنّ هذا النّوع من الأدب يبقى ضعيفاً إلى حدّ مّا في الولايات المتحدة الأمريكية.

الخيال الأمريكي
اللاّتيني الجديد

ترى الكاتبة الأمريكية مَارِي أَرَانَا التي ينحدر أصلها من البيرُو، أنّ هذه الحركة الأدبية لم تكن ظاهرة أمريكا اللاّتينية وحسب، بل كانت ظاهرة أمريكيّة بكل المقاييس نظراً لِمَا كان يحدث حولها من مخاض بين قرّاء لم يكونوا على علم أو دراية، بل إنهم لم يعيروا أدنى اهتمام لما كان يجرى في أمريكا اللاّتينية من ثراءٍ أدبيٍّ راقٍ، وإبداعٍ رفيع، وخيالٍ مُجنّح، كما أنهم لم يكونوا على علمٍ بَعْد بالتراث العظيم للأدب الإسباني، وكان هذا البُوم نوعاً من المُوضة، أو ضرباً من البدعة، التي لا يمكن مناقشتها. وطفق الأمريكيون ينظرون من خلال عيون أخرى مختلفة غير عيونهم، ودخلوا في جلد آخر.. وقالت الكاتبة : إنّ هذا البّووم لا يمكن اعتباره حركة موحّدة، مثل حركة الرّومانسيين الفرنسيّين، أو مثل حركة الطلائعيّين الرّوس، كما أنّ هذا البّووم الأدبي لم يكن حركة كتّاب، بقدر ما كان حركة قرّاء، فقد أفضت هذه الحركة إلى زيادة عدد القرّاء بشكل لم يسبق له نظير، وذلك ترحيباً بالخيال الأميركي اللاّتيني الجديد . وتؤكّد الكاتبة من جانب آخر أنّ أحد الصحافييّن الأمريكيين الكبار، وهو جيمس ريستون، كان مُخطئاً عندما قال إنّ أمريكا بمقدورها أن تفعل أيَّ شيء من أجل أميركا اللاّتينية، ولكنّها لا يمكنها أن تقرأ شيئاً لها أوعنها!.ويؤكّد الكاتب الهولاندي سيس نوتيبوم في خضمّ هذه الآراء المُتعدّدة أنّ هذه الطفرة الإبداعية، قد أقنعته أنّ الرّوائي الكولومبي الرّاحل ماركيز قد اكتشف قارّة، ولقّننا كيف نحكي الحكايات، ونقصّ القصص، هذا البّوم الأدبي عرّفنا كذلك بسوداوية، وعمق الكاتب الأوروغواني أونيتّي، كما أطلعنا على عالم بورخيس المسحور، ووضعَ نصب أعيننا ألمعيةَ، ولمعانَ، وبريقَ بِييُّو كاسَارِيسْ.
وفى معرض هذه التقييمات، والتحليلات لهذه الحركة، نختم بما أشار إليه الكاتب الإسباني خوسّيه ماريا إيفانكُوسْ، حيث يؤكّد أنّ هذه الحركة أسهمت بقسطٍ وافر في عولمة اللغة الإسبانية، وثقافتها، وعرّفت بالأدب المكتوب في هذه اللغة على أوسع نطاق، كما أنّها نقلتْ هذا الأدب وترجمتْه إلى مختلف اللغات العالميّة الحيّة، وكانت أولى قراءاته لهذا البّوم الأدبي رواية المدينة والكلاب ليُوسَا، ومائة سنة من العزلة لماركيز، ورَاجْوِيلاَ لكُورتاثار. فبواسطة رُولفُو أدخِل إلى الأدب العالمي السّرد الهيكلي، مروراً بفولكنر، وقدّم يُوسا السّرد الذي يَرْصُدُ الواقعَ بواسطة الخيال، وتقريب الرّواية من التاريخ الجماعي، واستعاد كاربينتييرأجملَ التقاليد الباروكيّة السّردية في اللغة.

* كاتب، وباحث من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا .


الكاتب : د . محمد محمد خطابي *

  

بتاريخ : 01/10/2020

أخبار مرتبطة

  لاشك في أن كتاب «الرواية البوليسية التأصيل والتحول» للكاتب محمد الكرون يسد فراغا في المكتبة المغربية خصوصا والعربية عموما،

أُسَمَّى الزاهية، وهو اسم من أصل عربي، ومعناه «المبتهجة». انفجرت من الضحك يوم عَرفْت ذلك، ففي داخلي، توجدُ دموعٌ أكثر

شفشاون تنصت لأصوات نسائية يستضيف المعرض الجهوي للكتاب بشفشاون في دورته 12 التي تنطلق من 27 يونيو إلى 4 يوليوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *