الطفلة التي كنتها..ذاك نصيبي من تفاح الجنة

الطفلة التي كنتُها؟
إني أسمع طرْقا على الباب.
أسراب من العصافير تحط على كتفي.. تنقر زجاج النافذة الهش.
كيف أزور طفولتي، ومن أي الأبواب سأدخل؟
حنيني، فقط، سيكون دليلي. وهل يكذب الحنين؟
ياه ! إنه النداء القادم من أقاصي البياض.. المُنْبَثثُّ من الجهات الأربع لسِفر التكوين… رائحة المنازل الأولى والبدايات الطازجة.. التمرين الأول للعين الرائية والقلب البكر والذاكرة الندية، على فك شفرات هذه العلبة الملغزة بالأسرار والمفاجآت التي كلما كبرتْ، انفك خيط من كُبة العمر مأسوفا على انفراطه بسرعة، انفراطَ الثواني من الدقائق، والدقائق من الساعات والساعات من عمر يسمونه تجاوزا: الحياة.
ها أنا أعيد عقارب ساعتي إلى رمل أربعين سنة أو قُلْ أربعين درجة من حرارة العاطفة، أتكئ على ذاكرتي المجروحة والسعيدة في آن. أنقل النظرات إلى أعلى وإلى أسفل، متتبعة يد والدي وهو يرفع إبريق الشاي المنعنع قبل أن يستقر في بطن الكأس..أنا الآن أستعيد ذلك الصوت بجِرْس الخرير وأستلذ نفس المذاق الذي كانَهُ الكأس في الشتاءات الباردة، وقبلهما أستعيد صوت أبي الدافئ مثل الحنين، ذلك الصوت الذي لايزال يخفرني بالضوء حتى بعد الرحيل. حقا، وحده الصوت لا يموت، كما حكمة أبي التي أنارت لي طريق الحرف، وأسبلتْ على جسدي حرير اللغة.
أستحث حافظتي لاستعادة ملامح هذه الـ»كنتُها» رغم يقيني أنني سأنهكها في البحث عن طفلة عمرها الآن ست وأربعون سنة.. طفلة ترفض أن تجفف ورد طفولتها لتضعه بين دفتي كتاب وتغلق الباب. امرأة تكبر بين طفولتين. قاومت كل العواصف والعواطف حتى تظل تلك الطفولة متيقظة في الحواس، ويظل الندى يجلل الياسمين في حقولها.
صعب أن أتذكر أنني كنـ»تُ» طفلة، فأنا أقيم في الطفلة أبدا وهي تقيم فيّ. وكلما أحسستُ أني أغادر طفولتي، أبني بيتا وأسكن قصيدة.
لماذا تسحبني يا أبي إلى روابي الطفولة وقد هَجَرْتَها؟
لم أَكْبرْ بعد يا أبي. مازال قلبي معلقا على نخلتك مثل تميمة عاشق.
نسائم الصباحات الصافية مثل سريرة الثلج، الامتداد الأخضر الذي يطوح بي في سماوات الخيال، فإذا أنا سحابة في يد الريح تأخذني أنى أشاء لا كما تشاء، وإذا بي هنا فراشة تَعُبّ من رحيق الأزهار البرية الممتدة على حد البصر، وإذا بي هناك دُوريٌ يدرب جناحيه على الحلم وحنجرته على الغناء..أقصى مناه أن يضاهي الأفق في لا منتهاه. يتعب الجناح ولا يتعب الخيال، يرتفع الخيال وينخفض سقف السماء، فأرفعه بأصبعي الصغير كي أرى أبعد من الغيمات.
تأخذني الفراشة إلى طريق الحرير فيغويني نداء الرحيق، أستعير ألوانها فتتحول الطفلة إلى قوس قزح. تأخذني النحلة إلى طريق القفير فأعود محملة بجِرَار العسل المقطر من نايات الرعاة.
تأخذني أراجيح الطفولة إلى مدرستي الأولى..رائحة الورق الصقيل النفاذة أثناء الدخول المدرسي تملأ خياشيمي الآن..باص المدرسة أمام منزلنا في الصباح ( الاستثناء الوحيد الذي يكسر قواعد الحياة في القرية»، ظفائر «شارب القدح» التي تجهد أمي نفسها في تصفيفها كل صباح فيما أنا أتأفف من طول الانتظار… الحقول الخضراء المترامية الأطراف… حمرة شقائق النعمان وبياض زهرة البابونج يأسرانني ويتآمران على خيالي الصغير، فيما تَراسُلُ الحواس يُفَعِّل كيمياءه وينذرني سليلة للعنة الشعراء منذ سنواتي التسع الأولى..بردة البصيري وألفية ابن مالك ومجذوبيات سيدي عبد الرحمان زادي من والدي كلما جلسنا سويا بدكانه…
ياه كم هو شهي مذاق الطفولة في فمي بعد كل هده السنين!.
أنا الآن أخطو باتجاه البيت البسيط ذي البابين، المطل على نهر أم الربيع..موقد الفحم وقد تحلقنا حوله وأيادينا تُراقِص الجمرات. أحدق في الجمرة فإذا بها تبكي أمَها الغابةَ. أطوي جناحي على صدري عطفا على الجمرة أو الغابة.. الأمر سيان.
قطرات المطر في الشتاءات الباردة لم يكن لها دائما نفس الوقع. لما تملأ برميل الماء في باحة المنزل، كانت تحدث نقرا موسيقيا يشبه تَكات ساعة معلقة على جدار الصمت، وعندما تلامس وجهي تقتفي كفي أثرَها، أرمم وجهي بمائها كي لا أشبه وجه باقي النساء. .
الجرس الخاص بالمكتب الوطني للماء، والذي لم يكن مجرد إيذان بدخول وخروج الموظفين بقدر ما كان إنذارا لي ولأخواتي لنسرع في البحث عن نعالنا حتى لا يقع علينا عقاب الأخ الأكبر الذي يغادر عمله هناك في السادسة مساء..أحاديث ووشوشات أمي مع الزائرات من الجارات ممن خلصتهن «الكبانية» من محاصرة ورقابة الأزواج، وتلك كانت فرصتي الأثيرة لإصاخة السمع لحكايات لا تكاد تنتهي، تبدأ بتفريغ هموم الأزواج والأبناء وتنتهي بنمائم صغيرة، تجتهد أمي بكل ما أوتيت من أدوات غمز ولكز في ثنيي عنها، وأجتهد أنا بكل ما أوتيت من براعة تمثيل بالتظاهر بأنني ساهية، لاهية عن تفاصيلها التي تحضرني بقدرة قادر، من ألفها إلى يائها، في حضور الوالد، وهو ما دفع أمي لتطلق علي اسم «المسجلة» وتحذرني مرارا وتكرارا من الجلوس مع زائراتها، وربما من هذه الجلسات تولد اهتمامي بالتفاصيل الصغيرة في كل شيء.

بنت مول الحانوت

طفولتي، عوالم في عالم: دكان أبي الصغير بكل ركن فيه أحفظه، أحفظ ترتيب السلع المرصوصة على رفوفه، كناش «الديْن» الخاص بموظفي المكتب الوطني للماء الصالح للشرب المحاذي لمنزلنا، وصنوه الخاص بكل «طالب معاشو»، والتحذيرات من مغبة تسجيل دين بهما بعد نهاية الشهر، إلا بعد أداء ما بذمة صاحبه..والأسئلة الكثيرة والكبيرة التي يضيق بها رأس الطفلة الصغيرة ويأبى أن تظل بلا جواب:
لمادا لا يؤدي غير الموظفين ما بذمتهم ويتماطلون يا أبي ؟
فيأتيني الجواب: «ما فحالهمش آبنتي. قبح الله الفقر» .
ولأنني ورثت الهشاشة عنه، فقد كان يخجل، بل يضعف أمام من جاء يسأل حاجة من متجرنا خاصة إذا كان طفلا. لَكَمْ أحببت هذا الضعف النابع من قوة أبي وسماحته.

أصابعي تحترق:

كان شغفي بالقراءة يكبر معي، وكان أخي الأكبر يغذي هذا الشغف. كان تردده على مدينة الدار البيضاء القريبة من مقر سكننا كل أحد، مغنما وفيرا لي من مجلات «المزمار» العراقية، «ماجد»، قصص عطية الأبراشي، كلها أثثت عوالم قراءاتي في الطفولة، وبها كنت أغزل صوف وحدتي. فبيتنا المنعزل عن بقية المساكن لم يكن يسمح بربط صداقات كانت تنتهي عند باب المدرسة. فقط أيام العطل كانت فرصي للقاء بعض بنات الجيران أو الأقارب ممن كانوا يزورون بيت العائلة في عطلتي الربيع والصيف.
وأنا أقرأ، كنت أنخرط في تشييد معمار الحكايات وأعيد اختيار فضاءات الحكي وأحاور الشخصيات، وقد لا أتفق مع بعضها، لكن ما كان يأسرني حقا أكثر من الكلمات، كان تلك الصور التي أرسمها في خيالي للمقروء. ورويدا، رويدا، تسلل إلى روحي ذلك الوحي الغامض القادم من فلوات العتمات المضيئة أن هزي عليك جذع ورقة، فاستجبتُ فإذا هي تتساقط علي حرفا نديا، ابتدأ خربشات ووشوشات يُسِر بها إليّ الليل، أدوّنها وأقرأها على أبي فأرى فخرا يلمع في عينيه، لا يضاهيه إلا فخرُ ثناءِ أساتذتي علي أنا المتفوقة في دراستي.

اسمي: فلسطين

طفولة خضراء تنفلت فجأة مني وتسرق كل السنابل التي ربيتها تسع سنين تحت جفن الغمام. وأول الجرح الذي يخدش الروح الصغيرة جاءت به ريح الشرق:
«أنا فلسطين، أنا الأم المحرومة. فأينكم يا أبنائي يا فلذات كبدي أنقذوني أنقذوني، وفي يد العدو لا تتركوني؟». المشهد بموسيقاه الحزينة وبالقيود حول معصمي ما زال شاخصا أمامي. الكلمات مازلت أحفظها حرفا، حرفا.. نبرة الصوت..كل شيء لا يزال محفورا في ذاكرتي.
هكذا رمت بي معلمتي خديجة في الصف الثالث ابتدائي في أتون الحريق. وفي العينين اللتين سكنهما الورد، حط حزن كثير كثير سال من جرح اسمه فلسطين.
تكرر المشهد لثلاث سنوات متتابعة في كل حفل مدرسي، يا آ الله، لقد خلع علي القدر اسما وحزنا يفوق قلبي الصغير. تحولت الطفلة إلى بلد، وتحول البلد إلى جرح أخضر يزهر في القلب كل الفصول.
استطابت الطفلة الإقامة في الجرح، وهاهي تبحث عن منافذ يدخل منها الهواء.
يحتاج الجرح، كما وليدٌ، إلى من يرعاه، حتى يظل طريا، نازفا، وها قد وجدتني وأنا ابنة التاسعة، أقلب صفحات مجلة «الوطن العربي» و»المجلة» التي كان أخي الأكبر مواظبا على قراءتها، أحاول فهم ما يقع خارج سمائي الضاحكة. الصراع العربي – الإسرائيلي، نكسة حزيران، الحرب الأهلية اللبنانية، بشير جميل، أمين جميل، سمير جعجع، ياسر عرفات، جورج حبش، منظمة فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مخيمات صبرا وشاتيلا، .. صور المذابح ودخان الحرب الأهلية وشهداء فلسطين، دموع الأمهات…
ما هذا العالم الحاد القسمات؟ ولماذا كل هذه الحروب؟ لماذا لم يجد العرب حلا لقضية فلسطين؟
أسئلة كثيرة كانت تزدحم في صدري قبل عقلي، لكن لم أجد لها أجوبة لحظتها.
طفلة في سني آنذاك، كانت عوالمها خارج معادلات السياسة وصفقاتها، ولا تستوعب التوازنات الاستراتيجية التي توجهها القوى العظمى، لكنها كانت تصر على معرفة كل شيء. وربما بدأت، لحظتها، تعي أنها جزء من هذا العالم الكبير الذي يتخطى جغرافياتها الصغيرة.
وسط هذه الحيرة والضباب، كان الفطام.
في 1985، كان على الطفلة ذات العشر سنوات، أن تودع حليب الطفولة وتترك أناشيدها للريح.
ستستقبلها المدينة بصخبها وعنفها..بضجيجها وبطواحين الوقت والفراغ واللهاث. كان عليها أن تستجمع أنفاسها وتحافظ على دفء الشمس الذي ربّته بالخيال.
في سنتها الأولى بالمدينة الغول، كان لها وبفضل شقيقتها، حظ الانخراط في حركة الطفولة الشعبية. هناك سيكتب لبذرة الحلم أن تمارس حقها في الحياة .. للطفلة أن تستعيد نسيم الجنة الذي ضيعته.. للروح أن تكسر ما علق بها من قيود، وللكلمة أن تتعرى أكثر وتشهر شبقها على البياض.
وبينما كنت مشغولة بتطريز سماء الخيال، بقصائد تنسيني سُخام الوقت، التفتُ فإذا عصافير الطفولة طارت من بين أصابعي، واحدا، واحدا ولم يزل منها على الشجرة إلا لحن ذائب يشبه اللهاث..ذاك نصيبي من الطفولة، ذاك حظي من تفاح الجنة.
ومازالت الطفلة، إلى اليوم، تحرق أصابعها.. ترفع السحاب كلما ضاقت الأرض، تتلهى بالغيم حين تزحف الصحارى على روحها.. تغفو أحيانا لكنها لا تنام، وتستيقظ كلما داهمها الليل.

مساهمة في كتاب «الطفل الذي كنته» عن إصدارات حركة الطفولة الشعبية تكريما للرئيس المؤسس الطيبي بنعمر الذي أْعده الزميل مصطفى العراقي


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 06/02/2023