الطفولة أكذوبة مستعادة

 

حين دعاني الأخ مصطفى العراقي للمشاركة في كتابه « الطفل الذي كنته « ، وصلني السؤال بذبذباته زلزالا جوانيا، وتساءلت هل كنت طفلا ؟ أم ، أنني أعيش الآن مع طفلا ابتعد مني حين كنت صغيرا ، أو بالأحرى هل عشت طفولة بالمعنى الذي نتحدث عنه اليوم ؟ لا أحد من جيلي من الذين عاشوا في مدينتي ، وفي وضعية اجتماعية تقليدية ، و المغطاة بأحجية الفقر والدين و … ، عاش طفولته بشكلها العادي .
ثمة أمور تحرس الحواس حتى لا تنفلت من عقال الأب، ثمة حدود منفلتة يقتات منها الصغير، وكأن الطفل رجل لا يحق له البكاء ، ولا حتى اللعب بحرية، لا مكان للعب إلا في زمن تحرر من سلطة الأب والفقيه والمعلم، وكأن اللعب ممنوع، وكأن التربية تقليدية تروم الجدية، وعلم الزوغان في الحارة أو على جنبات الفرن، أو في الطريق إلى المسير أو المدرسة. هنا تتزوبع الكلمات في صدري، وتتزاحم في الحلق لتقول ولا تقول، هكذا يتعصى القبض على الطفل الذي كنته، أتذكره سهوا ويمضي في السحاب ليغيب بين سحابتين ماكرتين، هنا يحضر الطفل ويغيب، ولا أستطيع ملاعبته، والحديث معه هنا والآن، المسألة صعبت لأنها تفترض وضع هذا الجيل في مختبر التحليل النفسي، ليس لأنني أتقمص عبائة الكبار، بل في الكيفية التي ربينا بيها، وهي طريقة تسيد العمل والمسؤولية، إلا أن الحصار المفروض علينا في المكان والزمان، وهو حصار مأهول بالتخويف والترهيب، كالخوف من الظلام بما هو حامل خرافي للصعاليك، والجان والعفاريت، والخوف من الكبير منا داخل الحارة وخارجها، كل شيء مبني ومعجون بالخوف، والوعد والوعيد.
من هنا يغيب الطفل الذي كنته في بلازما الذاكرة، أحاول عبثا الحفر عن بقاياه، ولا أجد منه إلا ما أنا عليه الآن كيف ذلك؟ أنا الآن طفل أهدهده في دواخلي كي أعيش أفضل، أو كي أستر نفسي من نظام التفاهة .
لا مراء إذا أوجد بين خطين لامرئيين بين الطفل الذي كنته والطفل الذي أعيشه الآن، وبين هذا وذاك أعتاش من خطوط انفلات تخرق الحدود، وتفجرها لأسقط في صياغة فرويدية «الطفل أب الرجل».
لأبتعد قليلا عن هذه الصياغة، ولأقنع نافذة الطفل الذي كنته، وأبحث في الذاكرة عن قفشات تروم التحرر من العقاب الأليم.
في مدينة الخميسات الحاضنة لطفولتي، والمكسوة (أي المدينة) بجمالية فارقة، وصغر مساحتها، وحاراتها المكناة بقاطنيها كحارة بوخام، السرغيني، النصارى، دكالة، سواسا ، كومباطا، و الغريب، و الكورس، والجامع القديم، وأيت عبو … ، وهي حارات صغيرة لا حدود لقاطنيها، الكل يعرف الكل، والجميع يساعد الجميع، والتنافس القبلي بين الحارات طابع لم يكتتبه رواة المدينة، ولا حتى كتابها، الصراع على أشده بينها في مباريات كرة القدم، والنتائج الإشهادية في المؤسسات التعليمية، ينضاف الخوف على خوف يسكن المسامات . فالذهاب إلى المدرسة يفترض الدخول والخروج إليها بشكل جماعي، أو بحراسة فتوة الحي، المدينة صغيرة حتى وإن كانت ملتهبة بهذه الصراعات المنفلتة من القبيلة.
ثمة شخوص هامشية تؤثث أمكنة المدينة: حمقى، ومجانين، ومساخيط ، أذكرهم واحدا واحدا، وإن كنت لا أعرف مصيرهم الآن من قبيل باعشور هذا الجندي المحارب مع الفرنسيين، والذي تحرر من عقله، يسب المخزن والملك بالأمازيغية، كنا نتبعه، ولا نؤذيه، كان علينا حين كنا أطفالا إعادة ما يقوله «شعشع». هكذا كنا نسميه، وهو لا يرضى بهذا الاسم. يرمينا بالحجارة ويتنرفز إلى حد سقوطه على الأرض، ونحن نضحك ونضحك، مرة كنا الإسم وتبعنا بنعلاته ونحن نركض، حاولت الخروج من كوة كانت بالأمس مفتوحة إلا أنها أغلقت، حاصرني هذا الذي نسميه شعشع، وأشبعني ضربا وأنا أتودد بقولي «عفاك أعمي شعشع « ليزيد في ضربي إلى حدود انفلاتي من قبضته.
شخصية ثالثة «ولد غزيل» نسجت عنه حكاية غريبة مفادها أنه كان يضرب أمه، وكان يمتطيها كبغلة هذا المسخوط الذي تربع في ذاكرتي طفوليا نضربه بالحجارة ونحرق متلاشياته ، ولا نتركه ينام كأننا ننتقم لأمه لأفعال قام بها، وأخيرا امرأة شحاذة نسميها « جكوار» تجلس القرفصاء وتشحذ في الشارع الكبير. نمر أمامها ونقول الاسم ونطلق أقدامنا للريح لترمينا بالحجارة، والرصيف عامر بالمشائين، ولا نعرف الحصيلة إلا في ما بعد. زوبعة نخلق تفاصيلها في الشارع لتعم الفوضى، ولا نستريح من هذه النداءات … ثمة شخوص أخرى أثثنا بها حكاياتنا الطفولية كما لو كنا ننتقم من حصار الخوف والترهيب .
لأعد مرة أخرى للطفل الذي كنته في تلك المدينة التي علمتني الخطابة والاحتجاج، في سنة 1971 كنا نقطن بالشارع الكبير، واحتفالا بعيد العرش كان زمنه أقواس النصر والحفلات والأغاني الشعبية والمدينة وسكان المدينة يخرجون إلى الشارع ليسهروا مع الليل، وهو مضاء بالأبيض والأخضر والأحمر، لكن مظاهرات التلاميذ بالشعارات المحتجة على كل شيء قائم إلى حدود إحراق أقواس النصر، العسكر والبوليس ورجال المطافئ التفوا على المتظاهرين بالقوة المعهودة. كنت في الخارج أردد الشعار ولا أدري كيف أفلتُّ من ضربة قاتلة وهربت إلى البيت لأعاقب مرة أخرى، العقاب هو الناظم الذي يستقيم عليه الجميع. الكل يضرب الكل من داخل هذا العنف المرئي واللامرئي. خرجنا للوجود وعشنا مع الندوب الواضحة في الجسد و الروح. تخرج العفاريت ليلا لتقدم البول على الفراش قربانا لها، وتستفيق على العقاب صباحا، بهذه الطريقة يكون الكذب بوصلة الهروب من عقاب إلى عقاب، إلى حد أن أضحى الكذب خيمتنا الأولى والأخيرة . لاعجب إذن أن أربط الطفولة بالكذب، وكأننا عشنا كذبة تسمى الطفولة، هل كنت أكذب أو كنت طفلا ؟ الأمر سيان لكن الحكاية واحدة لطفولة مقهورة، ومقموعة إلى حد كبير لذا تعلمنا الكذب وأبدعنا تفاصيله، نتقنعه في تمثيل الحكاية التي نسمعها من راو يتقن تلاوة سيرة «إبن دي يزن» و « عنترة بن شداد «، و «ألف ليلة وليلة «. تشدنا الحكاية ، ونقوم بتمثيلها في الواقع لتقتات في الخلاء وعلى الفراش بمفاعيل الكوابيس التي ما زالت تزورني الآن حين أقبض على الطفل الذي كنته في المنام . هل كنت طفلا أم أكذوبة ؟ الأمر سيان بين هذا وذاك بهذا المعنى تتناسل الأعطاب التي نحياها اليوم، ولا نحتج عليها إلا لماما، نتركها للغياب، ونقفل عليها في الذاكرة، ولا نود استردادها إلا في السهو، أو اللعب مع الطفل الذي صرته الآن، أنا الآن طفل يستعيد أكذوبته في الاستعارة، ويرمي قولة فرويد « الطفل أب الرجل « على عتبة الحمقى والمغفلين، أحتاج إلى غيبوبة كي أتنفس الطيب والساذج فيّ، أنا الآن طيب وساذج لهذا اتركني نشيد المرحلة في زاوية مغلقة ألاعب النجوم و القمر، وأترك الليل يستجيب لنداءات اللغوية والتخويف والترهيب وما إلى ذلك .
هل قلت شيئا عن الطفل الذي كنته ؟ لا أعتقد، ربما لأني مخاتل كما الكذب تماما، اللغة تكذب أحيانا، والطفل الذي كنته أكذوبة مستعادة ، تتكرر باستعارات مختلفة، تطفح على السطح، وتبتسم لليل كي يحسب النجوم لينام ، بينما أنا أغرتني هذه الأكذوبة، أحاول الحفاظ عليها في دواخلي كي أتوازن، وفي التوازن فصل ووصل، تذكر ومحو ، موت وحياة، الأكذوبة حقيقة، والحقيقة في معجم الفلاسفة حجاب، أو هي مرأة لعوب تظهر وتختفي كالأكذوبة تماما، هل كتبت عن طفولة هربت من أكذوبتها أم عن حقيقة طفل غيبته المدينة في أحيائها المحروسة بأسماء أصحابها ؟ أو أن الأمر ينتهي في تبدل الأسماء والأحياء والساكنة والحمقى … هنا يبدو المكان وهما والزمن حقيقة، وبينهما يحلو الجلوس مع الطفل الذي كنته في المنام أو على صفحات بيضاء.


الكاتب : حسن إغلان

  

بتاريخ : 21/10/2022