الظاهر والغابر قراءة في « خط الزناتي» لشعيب حليفي

 

في مقالة سابقة، وعن رواية سابقة للروائي شعيب حليفي بعنوان» لا تنس ما تقول»، ونحن أمام احتمالات ما أسميته « الجذمور» في الرواية، كان الاحتمال الثالث فيها حالة المركّب حيث الخطاب المتعالي، والقول الذي لا يمكنه أن يُنسى أبدا عند الأتقياء المؤمنين بخلود السماء المملوءة بالأسرار المستعصية على التفسير، المؤبّدة من تلقاء نفسها، في مقابل اندحار الأرض بكل مكائدها العمياء، وهو الاحتمال المطلق أمام كل الاحتمالات النسبية، فلا أغامر إن قلت إن رواية « خط الزناتي» هي تكملة ضمنية لسبيل هذا الاحتمال في تشعباته الكبرى. رواية تحملنا منذ عتبتها الأولى الى الاحتمال الأرجح في صيانته للخطاب المتعالي، صاحب الزمن الما فوق تاريخي، بكل حمولته العجائبية حيث يتكلم الشجر، وتنطق الحشرات، وتتجاوب الطيور، ويصرخ الحجر. فإذا كانت لرواية « لا تنس ما تقول « شمسها وغروبها عند « شمس الدين المسناوي، تلك الشمس التي لا تشرق الا مرّة واحدة، و وبعدها تتدلّى في بئر الغروب المجهول (ص57)، فإن لـ»خط الزناتي» أيضا شمسها وغروبها الذي برع في إدراك كنهه الشيخ عبدالله الزناتي، نسبة الى زناتة، حوالي1230م، في كتابه « الفصل في أصول علم الرمل»، والذي كان له تأثيره الكبير في الشرق العربي، وعدد من الدول الإفريقية، في مجال السحر والتنجيم، أو ما عُرف بعلم الرّمل، وسُمّي لاحقا باسم متداول في الثقافة الشعبية المغربية حتى الآن بالخط الزناتي في إشارة للتنبؤ بالغيب. وسيظهرفي نفس الفترة التي سيظهر بالجزائر الشيخ البوني (توفي سنة 1225م)،والذي اشتهر لدى الفقهاء أيضا بالسحر وهو يرى في الأرقام والحروف قوى سحرية ترجمها في كتابه «شمس المعارف الكبرى»، وكان الزناتي متصوفا زاهدا، ومنقطعا، وغريب الأطوار، وقيل إنه استوعب تأثيرات الهرمسية والغنوصية في ما كتب.، وقد ذكره عبد الرحيم الجوبري الدمشقي ( ت 1264م) في كتابه “المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار”؛ كما ذكره ابن خلدون( ت 1406م) في المقدمة، في الطبعة المترجمة إلى الفرنسية سنة 1863 من طرف سلان والتي وجد فيها فقرة تشير إلى اسم الزناتي أثناء حديثه عن علم الرمل، وهي الفقرة التي لا توجد إلا في طبعة بولاق فقط. حيث يقول عن هذا العلم إن عددا من الناس يكسبون لقمة عيشهم من هذا العلم ومن الكتابة فيه ومنهم الزناتي..
لا تكتمل هذه العجائبية السحرية، المستنطقة لمحيطها في الرواية إلا بتوزيع السرد بين ما هو واقعي مقبول، عادي ومبتذل، وبين ما يفوق الإدراك، ولا يتبناه صدقا إلا من رأى الأشياء من خلف الحجاب مكلّما صمتها الحكيم. ألم يقل السارد في الفصل السابع ما يشبه الحكمة المستقاة من التجربة: « عقلنا لايستقيم في التعرف على الشيء الا بنقيضه، ليتنا كنا في عالم لا نحتاج فيه الى ذلك النقيض» (ص115).
بهذا تنقسم رواية « خط الزناتي» الى خطين سرديين ملتحمين: خط سردي بشري، وآخر ما فوق بشري يستدعي النظر، ومعاودة النظر. وقد يكون من السهل سلوك سبيل تأويل هذا التمييز لنجعل شرخا بينهما، فنفصل الرواية الى جزأين، واحد مكتوب فيها بخطّ مضغوط، والآخر بخط عادي، فنجعل الأول للعالم الذي يقوق بكثير العالم السفلي الذي يمرح فيه الإدراك البهيمي» عالم الباطن»، والذي قال عنه السارد:» الذي لا يؤتى إلا لأهله الموكلين بخوض مجاهله الصعبة» (ص121) ، في حين نجعل من الثاني عالم البسطاء الذين يعيشون حياتهم بين الأحلام وخيباتها»عالم الظاهر»، مرتكنين في ذلك الى ما قاله السارد في الصفحة 23، حين قال : « وجد الشيخ الزناتي في الجبل خلوته التي ابتنى فيها بيديه عشة من خشب العرعار والقصب والتبن والقنب «، فنطمئن لهذا التقسيم بين قمّة الخلوة ، وما يجرى أسفلها، غير أن اللعبة السردية في تقديري، والتي حكمت إنتاج الرواية، والتي في آخر المطاف ترمي الى المزج بين العالمين في رؤية حادّة للعالم، تخلق التوتر لدى القارئ، وهو يتابع أطوار الحكي، إنّما تكمن في لعبة استبدال الأزمنة بين الطفل الذي كانه موسى الزناتي، الحفيد، وبين الرجل الذي أصبحه، وقد توحّدا من حيث لا يدريان في الجدّ الأول عبد الله الزناتي. يقول السارد، واضعا كلامه بين قوسين في الصفحة 52: « تبخّر الفاصل بين الزمنين، هو هنا، وأنا هناك في نقطة ولحظة واحدة…غير أن الطفل الذي كنته، أحسّ بي…يخطّ بسبابته خطوطا على التراب بعدما سوّاه براحته «،وأيضا حين تسأله سوسو قلقة:
– أين أنت الآن ياموسى؟
يجيبها:
– أنا في الحلّ والترحال، في الظاهر والغابر» (ص150)
حينها ينقلب الزمن الى زمن واحد، فنرى السارد في العتبة الثانية من الرواية « كائنات الرواية» أول ما يبدأ به» الزمن»، فيقول: مأوى أسرار يوم واحد « وفاء لما درج عليه الشيخ في البحث في مصائر العباد بتطابق مع عدد ساعات الليل والنهار داخل الكهف البشرى الغامض المسمّى الضمير ، أو الـ»أنا « المغيّب، والذي حضر داخل النص الديني باسم أهل الكهف، والذي حاكاه السارد بالحديث عن جلسة «الدويدو النمس» و»السارح الحيمر» و»عبو الريح» المشتغل في البناء العشوائي، تحت القنطرة الآيلة للسقوط ، وأضاف لها رابعتهم كلبته السلوقية» (ص43). فعن هذا الضمير المختفي ، يقول السارد: « الضمير، تأمّلَ الشيخ وهو ينطقها، الخط الزناتي هو منطق الخروج من ظلمة الكهف، والأنا الغامض الى وضوح الضمير السابح، خط الرمل» (ص51)، هذا الخروج المستعصي، الذي يقابله الوجود الملتبس هو الذي أجّج، في تقديري، اللعبة السردية، وطبع الرواية بالكتابة المفكّر فيها، وجعل العنصر العجائبي يشمخ فيها، حيث داخل المقطع الواحد، بل داخل الجملة الواحدة، يتقاطع لسانان : لسان الطفل، وهو يستنطق داخل حقل الحصاد، وفدّان العنب، عالم الحشرات الدابة على بطونها، كما التي لها جناحان وقوائم ( بوصرندل، السحلّية، جوقة الكلاب على أشكالها، بوعميرة، بوجعران، الأرنب، الخنفساء، الدودة، القنفذ، الصرار، اليعسوب، الفأر…)، ولسان الرجل العارف بالأسرار، المدرك لخبايا النفس البشرية، حتى أننا في الكثير من الجمل التي سمّاها السارد في الصفحة 53 « نبرة استعارات لساني» يتشابه الأمر علينا، فلا ندرك أهو لسان الطفل أم هو لسان الرجل؟ غير أنه كلما تعلّق الأمر بالعالم السفلي عالم الحشرات والدواب، فهو لسان الطفل في حين أنّه كلّما تعلّق الأمر بالجمل الملغومة ذات الشحنة الفلسفية العميقة، فالأمر بدون شك يتعلّق بحفيد عبد الله الزناتي، ذاك الذي في جناح بالمكتبة الوطنية أفرغ قلبه من أهله، وتفرّغ لعلم جدّه، وسار كائنا سماويا، حتى أنّه ينطبق عليه ما قاله، هو نفسه، عن نشيد البرغوث: «يحبّ أن يفتح بابا يصعد منه عاليا قبل أن يعود الى أرض السافلين وكلامهم» (ص101)، وقد نستشف هذا من تلك الجمل الواردة على لسان السارد، وهي تختزل عصارة التجربة من مثل:
– المجد لليل وحده (ص 108)
– أنا قلب من كان، وروح من سيكون(ص120)
– النقطة هي البدء والمنتهى (ص 135)
– الغوص يرتمي إليه مَن عجز عن مجابهة العوم في البر(ص150)
فهل «الحكاية بسيطة، لكن راويها اختلط عليه الأمر»؟ (ص69) تماما كما يقول السارد بخصوص قصة دويدو، لا أعتقد.
تنتهي رواية « خط الزناتي « وبالنفس ظمأ للمزيد، غير أنها تكتفي بالنزر القليل من العلامات التي يختلط فيها نابل الأرضي بحابل السماوي، مصداقا لقول السارد في الصفحة 123: « من يقول الحقيقة فهو ينوي الرحيل»إلى أن يقول: « الكتمان ثلث عقل القدر» (ص97). فهل كان موسى الزناتي يعلم مصير الحلاج الذي قال له شيخه وهو في طريقه للمقصلة « ألم ننهك عن العالمين؟!تلك التي استوعبها أيضا ابن رشد حين قال: « الحكمة لا تعطى للجمهور».
ومع ذلك تستطيع رواية «خط الزناتي» أن تجيبنا بحذر شديد عن الكثير من أسرار حياتنا، غير أنّها تشترط علينا ما اشترطه الأولون في قراءة «خط الزناتي»:
«صدق نية السائل وعدم استهتاره بهذا العلم».


الكاتب : عبد الإله رابحي

  

بتاريخ : 29/12/2023