العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية

فالعقوبات البديلة نعم, لكن ماذا نريد من العقوبة بشقيها التقليدي والبديل؟ و قبل ذلك يجب مقاربة العقوبة بشكل عام: مفهومها, أدورها و وظائفها و ما الى ذلك…….
اذن المدخل الأساسي للتعرف على العقوبات البديلة وفهمها و محاورتها و تلمس أدوارها و وظائفها, لابد من إعطاء تعريف للعقوبة بشكل عام أي لا بد من الاقتراب من العقوبة كشيء قديم لكنه غامض و مخيف حتى الان, نخشى الاقتراب منها رغم احتكاكنا و تعاملنا معها لقرون, وحتى التشريعات الجنائية تتحاشى إعطاء تعريف لها.
فالعقوبة عند الفقهاء الانطربولوجيين هي قديمة قدم الانسان , و هي في حقيقتها احدى تمظهرات الانتقام, أي أنه في بداية الخلق كانت العقوبة عبارة عن انتقام شخصي من طرف المجني عليه على الجاني , ثم تطور مفهومها ليتم تفويض هذا الحق-الحق في الانتقام – للجماعة , التي قد تكون العائلة او القبيلة أو العشيرة أو غيرها من المؤسسات الأولى أو الأولية , ثم تطورت العقوبة لتصلنا بالشكل الحالي حيث احتكرت الدولة إيقاع العقاب , و بالتالي رأينا معا كيف أن العقوبة ليست الا أحد أنواع الانتقام الذي تمأسس , و يبقى عنصره الأساس و المحوري هو إيقاع الأذى و الألم للجاني بشكل يتناسب مع الألم الذي حققه الذنب أو الفعل المجرم , ومن هنا جاء مبدأ التناسب الذي هو أحد المبادئ الأساسية في الفقه و القانون.
فالعقوبة والانتقام يتقاطعان في عنصر أساس وهو إيقاع الأذى و الألم بالجاني و ايلامه بما يكفي وبما يتناسب مع جعل الضحية , هذا الاخير الذي أصبح في اطار القانون بمفهومه الحالي هو المجتمع او ما يسمى بالحق العام , الا أننا غلفناه بنظرية تتسم بنوع من العقلانية و المتمثلة في تحقيق الردعين العام و الخاص , حتى لا يقال اننا لم نتخلص بعد من غرائزنا و حتى نبرر لأنفسنا سلوكا عدوانيا غريزيا كجزء من منظومة الضبط الاجتماعي , و أخيرا الاستدلال على أننا لم نعد متوحشين كما في السابق و ذلكم في إشارة الى ما قبل العصور الوسطى و العصور الوسطى بأروبا .
ويبقى السؤال مفتوحا هل نحن لازلنا بحاجة للعقوبة كألية ضرورية تساعد على استمرار العنصر البشري والبنيان الاجتماعي؟
هل وصل النضج للمستوى الذي نستطيع فيه استبدال العقوبات التقليدية؟
ومن هنا نستطيع فهم ردة فعل المجتمع من العقوبات البديلة, حيث أن هذه الأخيرة في الفهم الجمعي والشعبي هي نوع من الانتقام كغريزة متحكمة في الطبيعة البشرية وهو بذلك لازال يطارد العنصر البشري منذ الازل حتى الان وبالتالي لم نستطع حتى الان التحكم في هذه الغريزة, وما العقوبات البديلة و النقاش الدائر الان في المجتمع بهذا الخصوص الا ارهاص ومحاولة لإعادة تمثل العقوبة وقبل ذلك تفكيكيها بالاستعانة بالأبستمولوجيا حتى لا يتسرب الوهم الى وعينا وفهمنا ومعرفتنا و بعد ذلك إعادة بناء مفهوم العقوبة وأدوارها ووظائفها, حتى نتمكن من استدماجها في ثقافتنا بشكل سلس ومن ثمة خلق نوع من القدرة على استيعاب مفهوم جديد ليس على المجتمع المغربي بل على الانسان, وذلك اذا أخدنا بعين الاعتبار أن العقوبة في اشكالها الكلاسيكية أخدت ملايين السنين.
واذا استطعنا أن نعي صعوبة استيعاب المجتمع لثقافة جديدة, حيث يتطلب الامر وقتا طويلا, فاننا سنعي ونتفهم و نفهم النقاش الدائر الان في المجتمع بعد أن تم الإعلان عن جزء من هذه المعايير و لو بشكل مجزئ ومشوه.
ولكي نستطيع أن نفهم نحن كفاعلين أولا وكممارسين ثانيا و كمتلقين ثالثا مفهوم العقوبة البديلة, على المشرع أن يفتح نقاشا عموميا بهدف بلورة فلسفة ومدخل يبرز تبني المشرع لهذا النوع من العقوبات, هل ينظر اليها من الزاوية الوظيفية, أي هل ينظر المشرع – أي مشرع – للعقوبات البديلة كجزء من مؤسسة التجريم والعقاب وبذلك قد تقوم بوظائف وأدوار إعادة الادماج الاجتماعي, وهو الشيء الذي فشلت فيه جميع السياسات الجنائية التي تعتمد العقوبات الكلاسيكية فقط و دون غيرها والتي تستدمج في نظامها العقابي عقوبات مشددة وتتبنى عقوبة الإعدام والمغرب نموذجا, أم أن القائمين على الامر لجأوا لهذا النوع من العقوبة فقط من أجل حل معضلة بنيوية تعيشها سجون المملكة و هو الاكتظاظ؟
وتجدر الإشارة الى ان هناك مجموعة من الدراسات أجريت سواء على مستوى مقارنة جدوى وفاعلية العقوبات الكلاسيكية في الدول التي تطبق هذه الأخيرة دون غيرها مع جدواها و فاعليتها وكذا الوضع في الدول التي استدمجت هذا النوع من العقوبات, ويظهر ذلك من تبيان عدة عناصر, أهمها نسبة الجريمة, عدد ساكنة السجون في المغرب ثم نسبة حالة العود, وهو العنصر الذي ينقط العقوبة وقبلها نظام التجريم ثم المساطر الإجرائية و بكلمة السياسة الجنائية برمتها, وما هو مفترض ان تحققه؟
لكن علينا أن نطرح سؤالا أساسيا وهو: ما هي الوظائف التي نتوقع – فيإطار سلسلة التوقعات – من العقوبات البديلة؟
فهل لا زلنا نفكر في الانتقام أم اننا أصبحنا مقتنعين الان بانه يتعين التفكير في وظائف أخرى للعقوبة سواء التقليدية او البديلة.
فاعتقد أننا يجب تبني فلسفة واضحة فيما يخص «ما هي الوظيفة او الوظائف التي نتوقع ان تقوم بها العقوبة؟
وهنا يتعين أن نفرق بين مفهوم الادماج INSERTION والذي هو ادخال او اقحام ووضع شخص معين أو جماعة معينة ضمن بنية أو جماعة أخرى من الأشخاص.
وهناك الاندماج INTÉGRATION الذي يختلف عن الادماج , و هذا النوع تشتغل عليه الدول و مؤسساتها في اطار سياساتها العمومية الاجتماعية ACTION SOCIALE, ولهذا عندما نتحدث عن الادماج نتحدث عن الاجتماعي ونتحدث عن المسألة الاجتماعية والخدمة الاجتماعية.
ثم هنا إعادة الادماج RÉINSERTION ويتداول بشدة إعادة الادماج الاقتصادي الا أن هذا المفهوم تعرض للنقد أيضا بحيث أنه يحيل بشكل أو باخر للضبط الاجتماعي، الذي هو شكل من أشكال الارغام، وهناك إعادة الادماج الاجتماعي RÉINTÉGRATION; وهذا المفهوم الأخير ان كان من المستحسن عدم استعماله في ميادين أخرى كسوق الشغل وإعادة الادماج المدرسي أو الجامعي, وبالتالي يصبح إعادة الادماج الاجتماعي وسيلة لإقحام غير المنتجين عنوة في الدورة الاقتصادية وروابط الشغل, وبالتالي, الا أنه مشروع ومستحب في مجال الضبط الاجتماعي باعتباره شكل متقدم لتحقيق الردع «الانتقام» وفي نفس استعماله كألية من اليات العمل الاجتماعي, وهناك الاستيعاب STIMULATION وهو وسيلة ترمي الى تهميش كل الثقافات وكل ما يراه المجتمع انحرافا وتخليص الأفراد والجماعات منها وتلقينهما الثقافة السائدة , الا أنها أبانت عن فشلها في الدول التي طبقتها في فترات محددة.
ثم هناك أشكال جديدة للإدماج منها الادماج عبر التعدد الثقافي والمقصود به هو ادماج الأشخاص في المجتمع مع الاحتفاظ لهم بالخصوصية الثقافية للأقليات بالحفاظ للأشخاص على حقهم في التعبير الاجتماعي والثقافي وحقهم في انشاء المؤسسات ومنح ثقافته وضعا مساو للوضع الذي تتمتع به الثقافة السائدة.
وهناك نوع احر من الادماج أكثر تقدما وهو الادماج عبر التداخل الاجتماعي وهو الشكل الذي تجاوز بعض نواقص الادماج عبر التعددية الثقافية وبمعنى أن المجتمع لا يحمي الثقافة وبل أنه يشجع الثقافات وعلى التفاعل وذلك لبناء الهويات المشتركة ومنها بناء هوية مشتركة تلتقي فيها الثقافات.
وبالتالي, المطلوب هو برامج ومؤسسات الهدف منها تحقيق الاندماج الهيكلي البنيوي, وهو الاندماج الذي هو في الواقع الاندماج الهيكلي, حيث أن الجانحين والجانين يحتفظون بثقافات الأقلية وهي الثقافة التي تمنعهم من المشاركة الكاملة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مجتمع الاستقبال, حيث أنه لا ينحصر في الثقافي و لكن في متغيرات أخرى و أهمها الاقتصادي.
حيث أنه جانب من علماء الاجتماع اعتبروا أنه كادت السوسيولوجيا أن تكون علم من أجل إعادة الادماج الاجتماعي, ذلك أن المجتمعات الحديثة تفتقر لمؤسسات وسيطة التي يمكن أن تقوم بأدوار ووظائف الادماج الاجتماعي, ونستطيع أن نتكلم على مجتمع مندمج فقط عندما يكون أعضاء المجتمع يمتلكون وعيا مشتركا ويقتسمون نفس المعتقدات والممارسات وثانيا عندما يتفاعلون فيما بينهم وثالثا عندما يستشعرون أن لهم هدفا مشتركا يسعون اليه حسب دوركهايم.
ومعلوم أنه تتحقق هذه الأهداف عندما تتعزز روابط الافراد مع مختلف التنظيمات المشكلة للمجتمع, وأهمها الروابط الاقتصادية, عندما يشارك الفرد في الدورة الاقتصادية وانتاج الثروة الى المدرسة والتعليم ثم الصحة وأخيرا الشغل والسكن اللذان يقويان الروابط بشكل كبير.


الكاتب : الأستاذ عبد العالي الصافي

  

بتاريخ : 27/05/2023