قوّى التفاؤل بشأن الحد من التلوث والبحث عن بروفيلات جديدة لموظف المستقبل
هل ستؤثر هذه الفترة من العمل القسري عن بُعد بشكل دائم على إعادة تشكيل المجتمع وسوق العمل؟ أم أنها مجرد مرحلة عابرة؟
هذا هو السؤال الذي يطرح بنفسه بقوة على جل الموظفين المغاربة الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لـ”اقتحام” هذا الشرط الجديد الذي فرضه الانتشار السريع لفيروس كوفيد 19.
لقد أمضى الموظفون بالفعل ما يقرب من أسبوعين في العزلة الذاتية؛ وقد تغيرت العادات اليومية المرتبطة بالعمل إلى حد كبير. لم نعد نعاين مثل تلك الاختناقات المرورية التي ترافقنا كل رحلة صباح إلى مكاتب الإدارات ومقرات العمل، ولا ازدحام في الترامواي، ولا انتظار حد الضجر للطاكسيات، ولا ضوضاء، ولكن، مع اقتراب رفع الحجر الصحي، هل سنعود إلى ما كنا عليه بمجرد القضاء على الفيروس. ألن يدفع هذا “الاضطرار” إلى إعادة النظر في عادات العمل؟ وما هي التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للعمل عن بعد؟ وهل الموظفون المغاربة مهيأون، تقنيا وتكوينا ونفسيا، لهذا النوع من العمل؟
بروفة للمستقبل
لقد طالب منشور لوزير الاقتصاد والمالية وتحديث الإدارة بتمكين العاملين الراغبين في العمل عن بعد ما لم تقتض طبيعة عملهم ضرورة حضورهم إلى مقرات الإدارة. وحث على تمكينهم من الاستفادة من الرخص الإدارية والاستثنائية وفقا للمقتضيات الجاري بها العمل، مشددا على أهمية “تنظيم عند الاقتضاء عملية التناوب في الحضور بين العاملين بالمرافق العمومية الذين يقومون بنفس المهام في نفس المصالح، دون أن يؤثر ذلك سلبا على السير العادي للمرافق العمومية”.
منشور وزير الاقتصاد يطابق هذا “التحول التكنولوجي” الجاري بالفعل في مختلف بقاع الأرض، وبدأنا نعاين كيف تشجع شركات التكنولوجيا الجديدة موظفيها على البقاء في المنازل والعمل من هناك، وكيف عبأت المدارس والثانويات والكليات لتقديم دروسها عبر الإنترنت. كما لاحظنا كيف يتم تحويل المؤتمرات (قمة مجموعة 20) إلى شاشات كبرى تبث ما يجري مباشرة بين المشاركين في أطراف البلدان والدول. كما أن التظاهرات الرياضية، وحتى الفنية، تقام خلف الأبواب المغلقة، رغم إلغاء معظمها في العالم بأسره.
ووفقًا لـويل أوريموس Will Oremus ، المتخصص في اقتصاديات المنصة، فإن ما يجري الآن من تحول “يشبه من بعض النواحي بروفة ثوب لمستقبل كان جاريا بالفعل، حيث هناك المزيد والمزيد من الناس، وبدافع العودة إلى الطبيعة أو الالتزام البيئي، يعزلون أنفسهم طوعًا ويتفاعلون مع العالم الخارجي فقط من الشاشات”.
وفي فرنسا، ووفقًا للاستطلاع الذي أنجزنه “فيفاستريت”Vivastreet ، فإن من دوافع الحفاظ على العمل عن بعد لدى المستجوبين في المرحلة التي تعقب الحجر الصحي، إدارة الحياة الأسرية بشكل أفضل بالنسبة لـ (33٪) من الذين شملهم الاستطلاع، في حين للاستمتاع يرى (29٪) منهم أن الدافع هو الاستفادة من بيئة عمل أكثر متعة، فيما اعتبر(26٪) من المستجوبين أن العمل عن بعد سيجعلهم يتجنبون قضاء وقت كبير في وسائل النقل.
وفي المغرب، بدأ العديد من الموظفين يستأنسون بهذا النوع الجديد من العمل. يقول عادل (33 سنة. إطار بنكي): “صار الآن بالإمكان الحديث عن ثورة تكنولوجية في مجال العمل. كنا نسير إليها ببطء، لكن الآن، ومع الحجر الصحي، أرغمت العديد من الإدارات على هذا الاختيار. فما دامت العمل عن بعد يتيح استمرارية المرفق العام، وما دام القطاع الخدماتي والإنتاجي لن يتضرر، فلا أظن بأن الأمر سينتهي عند انتهاء مرحلة العزل”.
ويذهب أيوب (28 سنة. مهندس إعلاميات) إلى العمل عن بعد “شيء محبذ ومطلوب في المرحلة الراهنة لإيقاف زحف فيروس كورونا. إلا أنه يتوافق مع طبيعة عملي. فأنا لست مضطرا للذهاب إلى المكتب بانتظام، لأن هذا لا يؤثر لا على سير العمل، ولا على الأداء، ولا على المردودية”.
أما سميرة (35 سنة. موظفة بإدارة عمومية)، فتوضح أن العمل عن بعد سيصبح مطلبا بعد انتهاء كورونا. فالعمل من المنزل يتيح مجموعة من الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها. فهو غير مرتبط بساعات الدخول والخروج، بل بالمردودية التي يمكن قياسها تقنيا بسهولة. إن الحضور إلى العمل لا يكفي إذا لم يعتمد على المردودية وقوة الأداء. أعتقد أننا سنشهد مع هذه التجربة ثورة في مجال العمل”.
ويشترط مصطفى (46 سنة، موظف عمومي) أن يُفتح حوار وطني من أجل اعتماد “العمل عن بعد”، وأن يكون مسنودا ببرنامج إطار وميثاق أخلاقي للعمل قائم على تكافؤ الفرص. وهذا يقتضي من وجهة نظره تأهيل وإعادة تأهيل الموظفين، وأن يكون هذا التأهيل طوعيا حتى لا تهضم الحقوق وتصفى الحسابات.
ويعتبر مصطفى أن جميع الموظفين ليسوا مؤهلين، كما بينت التجربة، للعمل عن بعد عبر الأنترنت أو المنطات الإلكترونية. مؤكدا أن “الأهلية وحدها لا تكفي إذا لم يواكبها عمل جبار على مستوى اللوجستيك، وعلى مستوى تعميم الأنترنت على جميع المرتفقين، في القرى والحواضر. وهذا أمر صعب حاليا، حسب تعبيره”.
وبالنسبة لأنصار الطبيعة والمحافظة على البيئة، فإن تجربة العمل عن بعد قوّت التفاؤل بشأن الحد من التلوث، ذلك أن الحجر الصحي ساهم في تقليص تدفق السيارات في شوارع المدن، فضلا أننا أصبحنا نرى عددا أقل من المشاة في الأرصفة والأزقة التي أصبحت أكثر نظافة، لأنها تخلصت من حركة الملوث الأكبر (الإنسان). بل أصبحنا نلاحظ في الأيام الأخيرة زيادة وجود الحياة البرية بالقرب من المنازل، كما رأينا في أيت اورير؛ حيث رأينا الخنزير البري يتجول في الأزقة الفارغة.
تغيير الحدود
يتوقع الخبراء أنه بعد انتهاء فترة الحجر الصحي، سيتم تغيير الحدود بين الاختيار والمعيار والتوقعات والحاجة إلى العمل عن بُعد، وستدرك الشركات كم عدد رحلات العمل التي يمكنها الاستغناء عنها يوميا. كما أن بإمكانها تحقيق العديد من المنافع الأخرى، مقل تقليل إيجارات المقرات والمكاتب والفروع الأخرى، من خلال تعزيز العمل عن بعد. فقد أوضح مدير الموارد البشرية لـ “تويتر” أنه بعد انتهاء فيروس كورونا “ربما لن نكون كما كنا على الإطلاق”، وفق تعبيره.
وتابع: “سيجد الأشخاص الذين كانوا مترددين في العمل عن بُعد أنهم يزدهرون حقًا بهذه الطريقة. وسيكون لدى المدراء، الذين لم يعتقدوا أن بإمكانهم إدارة الفرق عن بعد، منظور مختلف للعمل”.
ويرى آخرون أنه نظرًا لأن العمال المنخرطين في العمل عن بعد لن يضطروا إلى التقيد بمكان عمل معين ستكون الشركات والمقاولات وأرباب العمل بصفة عامة منفتحين للعثور على الكفاءات في أي مكان في العالم، وليس داخل بلاد مؤطرة بمدونة الشغل. كما سيسمح ذلك للعديد من الشركات بالعمل على مدار الساعة، مما يضمن نشاط موظفيها في مناطق زمنية مختلفة. وهذا يفترض الانتقال إلى قانون جديد للشغل لحفظ المصالح والحقوق. إنها لغة المستقبل، ولا بد من الإنصات الجيد لإملاءاتها. ذلك أن العمل عن بعد، كما نراه حاليا، لا يتيح للموظف الاستفادة من أنظمة ”التقاعد” أو “التغطية الصحية”. فإلى حدود الساعة أغلب الدول العربية لا تعترف بالعمل من الانترنت ولا توفر ضمان اجتماعي لهذه لفئة العاملين عن بعد.
المخاطر الأمنية
وتأسيسا على استدعاء مستقبل العمل عن بعد، يستحضر الخبراء المخاطر الأمنية ونقاط الضعف التي يحملها هذا النوع من العمل التي يعتمد على البرمجيات، وعلى المنصات الإلكترونية. ذلك أن القراصنة سيمضون وقتًا ممتعًا في ملاحقة ما تخفيه الشركات، وعرقلة سير العمل، والابتزاز، والمتاجرة في المعلومات لحساب المنافسين.
فبالنسبة لجيروم بيلوا Gérôme Billois ، خبير الأمن السيبراني في شركة Wavestone للأبحاث، فإن الخطر الأول بالنسبة للشركة هو الإعداد اليومي للعمل عن بعد، دون أن يكون لديها الوقت الكافي للتحضير، وبالتالي دون أن تتوفر على الحد الأدنى من تدابير الأمن السيبراني.
ويرى بيلوا أنه كلما زاد استخدام الكمبيوتر لأنشطة مختلفة غير تلك التي يتطلبها العمل (تنزيل الأفلام أو الموسيقى) ، زاد عدد المبادلات وأبواب الوصول إلى البيانات الحساسة للشركة. ذلك أنه أثناء وجودنا في المكتب، فإننا نتجنب تصفح الويب بحرية. أما في المنزل، فسيكون لدينا هواجس أقل حول فتح جميع أنواع الصفحات. وبدون التركيز بنسبة 100٪ على ما نقوم به وما ننقر عليه، فمن السهل أن ننخدع بفخ وضعه قرصان عبر “محاولات التصيّد العشوائي المكثف” أو عبر “الرسائل الإلكترونية الاحتيالية”. إن خفض حذرنا يعرضنا للقرصنة والاختراق”.
وغني عن القول إن الشبكات الشخصية أقل حماية من الهجمات الإلكترونية من شبكات الشركات الخاصة. ولذلك، فإن أحد الحلول لتأمين البيانات بشكل أفضل هو استخدام تطبيق يسمح للموظف بالاتصال بجهاز الكمبيوتر الخاص الشركة، من جهاز الكمبيوتر الشخصي الخاص به (مثل VPN ، أو تطبيق Teamviewer على سبيل المثال). إذ بهذه الطريقة، ستظل البيانات مخزنة على جهاز الكمبيوتر الاحترافي، ولا يمكن الوصول إليها رغم عيوب جهاز الكمبيوتر الشخصي.
تجنب الهجمات
في ما يلي بعض النصائح للحفاظ على أمان بياناتك قدر الإمكان وتجنب الهجمات الإلكترونية:
– تحسيس العاملين عن بعد بمخاطر تكنولوجيا المعلومات هي بالفعل خطوة أولى لتجنب أخطاء المبتدئين قدر الإمكان. سيساعد توفير إجراء يجب اتباعه في حالة حدوث هجوم عبر الإنترنت (من الذي يجب الاتصال به وإجراءات الطوارئ وما إلى ذلك) على توقع أسوأ السيناريوهات.
– للسماح للموظفين بالوصول إلى حواسيبهم المهنية من المنزل، من الممكن المرور عبر VPN آمن لكل موظف (شبكة خاصة افتراضية ، شبكة كمبيوتر افتراضية).
– إعداد مصادقة ثنائية للوصول إلى مساحات العمل (على سبيل المثال إرسال رمز عن طريق الرسائل القصيرة للاتصال).
– للتبادل بين الزملاء، إعطاء الأولوية للرسائل الهاتفية الآمنة وأدوات التعاون عبر الإنترنت، وليس رسائل البريد الإلكتروني لمشاركة المستندات.
– تقييد الوصول إلى البيانات الحساسة لأقل عدد ممكن من الأشخاص.
– عند العمل على الجهاز الشخصي الخاص، ينبغي حفظ بيانات الشركة في قسم مخصص على محرك الأقراص الثابتة.
– تعزيز الأمان في المنزل: تأمين شبكة Wi-Fi ، وتعزيز كلمة المرور، واستخدام كلمات مرور مختلفة لكل خدمة ، والتحقق من أن برامج مكافحة الفيروسات يجري تحديثها باستمرار ، وما إلى ذلك.
– إقفال الشاشة بمجرد أن تكون بعيدا.
مساوئ العمل عن بعد
إذا كانت للعمل عن بعد منافع، فإن لها أضرارا أيضا، وعلى رأسها تعزيز عزلة الفرد وعرقلة تواصله مع العالم الخارجي وعزله عن بناء علاقات اجتماعية، عكس بيئة العمل التقليدي التي تسمح له بالالتقاء بزملائه والتعرف باستمرار على عملاء وزبناء جدد.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا النوع من العمل قد يلهي الموظف في كثير من الأحيان عن العائلة، بل قد يؤدي المكوث في المنزل طوال الوقت إلى الاحتكاك والمشاجرات مع الزوجة أو الأهل، وهو ما قد ينعكس ذلك بالسلب على سير العمل.
ويرى أخصائيو الصحة أن العمل من المنزل يؤدي إلى مشاكل صحية وخيمة في المستقبل ناتجة عن عدم الحركة، بل وأكثر من ذلك يؤدي إلى الشعور بالعزلة والملل ومشاكل أخرى لا حصر لها.
لقد جعلت فترة “الحجر الصحي” من “العمل عن بعد” حقيقة جديدة، فهل يتحول إلى حقيقة مغربية ثابتة؟