لا شك أن المرأة المغربية كانت دائما حاضرة سواء في مسار الظروف العادية للبلاد، أو في ظروفها الاستثنائية. نجد حضور المرأة قويا ومُميزا سواء في مكافحة الاستعمار، أو في النضال من أجل الديمقراطية، أو في مختلف المحطات الوطنية المفصلية في تاريخ المغرب
مرّ رُبع قرن على العهد الجديد، نريد من أُخوتك تقييما أوليا لهذا العهد انطلاقا من انتظارات جيلك ونضالاته في مجالات المرأةوالأسرة؟
إذا كان لي أن أصف هذا العهد،الموصوف جديدا وهو كذلك، فسأربطه بالانفراج السياسي في المغرب الذي تمّ تدشينه في السنوات الأخيرة من حُكم العاهل الراحل الحسن الثاني رحمه الله؛ الملك العظيم بلغة عبد الله العروي، ضمن كوكبة من ملوك المغرب العظام، كما ورد في كتابه، المغرب والحسن الثاني. وعندما أركز على الانفراج السياسي فلأنه كان شرطا وإطارا في الآن ذاته لانطلاق دينامية جديدة في البلاد وعلى كافة المستويات، تُوّجَت بحكومة التناوب والتوافقي وما نتج عنها من فتوحات بعد اعتلاء محمد السادس لعرش أسلافه، وضعت أسس ما أصبح يُعرف بالعهد الجديد. ولنا أن نفخر كمغاربة اليوم، أن بدايات هذا العهد استطاعت أن تُرمم الذات الجماعية للمغاربة، وأن تعطي انطلاقة عقد اجتماعي جديد في المغرب ضِمْنَ استمرارية هذه الذات وانطلاقها، ودون قطائع «مُعيقة»،ضَمِنَ تحولها الطبيعي والسلس والمستوعب لمختلف التلوينات التي تشكل عنصر غناها وتنوعها. انطلاق مسلسل المصالحة الوطنية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة، كان، بالنسبة لجيلي على الأقل، مناسبة لقراءة جديدة لتاريخ المغرب وشموخ المغاربة، وعراقة النظام السياسي المغربي وحيوية الحياة السياسية المغربية، بل وصخبها وتموُّجها، وقدرة المغربي والمغربية، من أي موقع، على تصحيح المسار، والاعتراف بالخطأ المتبادل، وجبر الضرر، وطي الصفحة، بعد قراءتها، والانطلاق نحو المستقبل الجماعي الواعد.
وفي هذا الإطار، تبقى الأسرة إحدى المؤسسات المعنية بهذا المناخ الذي وَسم هذا العهد، وجعله جديدا، والتي أعتبرها شخصيا النواة الصلبة لأي تغيير يطمح له أي شعب، عبر السياسات الموجهة للأسرة والقوانين المُؤطرة لها والمُمهدة لصُنع المجتمع الذي نريده ونناضل من أجله. لذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن نعتبر تناول المنظومة القانونية المؤطرة للأسرةترفا، والسياسات العمومية الموجهة للأسرة هامشيا. ففي قلب توازنات الأسرة موقع المرأة، يمكن أن نعتبر، في هذا السياق، أن العهد الجديد كان عهد التّمكين للنساء، لأن عاهل البلاد أعطى، بالنسبة للمرأة، ما يكفي من المؤشرات التي تؤكد بالفعل أننا كنا أمام بداية عهد جديد، فأعطى المثال من خلال حياته الخاصة، والخاصة جدا، مقارنة مع جاري الأمور في العصور السابقة، كما أعطى المثال من خلال موقفه التاريخي في إخراج مدونة الأسرة إلى الوجود، في رعايته لمختلف مبادرات إدماج المرأة في التنمية وفي الإنتاج؛ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وما حملته من أفق لمجموعة من النساء، في توجيهاته المتواترة لإيلاء المرأة ما تستحقه، ويجدر بها. فضلا عن مبادرته الواعدة لمّاكسّر الصورة «المذكرة» للتواجد في المجال السياسي، خاصة في المؤسسات المنتخبة عبر آلية التمييز الإيجابي، وغير ذلك مما نعتبره بالفعل مؤشرات على أن مغرب ما قبل 1999، يختلف بشكل كبير عن مغرب ما بعد 1999، إن لم يشكل قطيعة استمرار للمزيد من التمكين للمرأة منذ عهد المغفور له محمد الخامس إلى عهد حفيده محمد السادس.
لا بد أن نطرح معك القضية النسائية، باعتبار ما حظيت به من اهتمام عندك كمسؤولة اتحادية وفاعلة في المجتمع المدني وبرلمانية، ومثقفة، ونود رأيك في ما حققته هاته القضية في المرحلة الجديدة وما ينتظر النضال الحقوقي فيها من آفاق؟
لا شك أن المرأة المغربية كانت دائما حاضرة سواء في مسار الظروف العادية للبلاد، أو في ظروفها الاستثنائية. نجد حضور المرأة قويا ومُميزا، سواء في مكافحة الاستعمار، أو في النضال من أجل الديمقراطية، أو في مختلف المحطات الوطنية المفصلية في تاريخ المغرب ويكفي في هذا الصدد، أن نُذكر من تنفعه الذكرى، بمشاركة المرأة المغربية في المسيرة الخضراء لاسترجاع أراضيها المغتصبة، أو بمشاركتها الفعالة في مختلف الحركات الاحتجاجية، منها حركة 20 فبراير ضد الفساد والاستبداد،وفي التظاهرات الثقافية والعلمية والرياضية والأمنية وغيرها، وطبعا، مع مُرابضتها الدائمة والثابتة في المؤسسة الأسرية راعيةً وعائلةً…..هذا واقع مغربي لا يمكن أن ينكره أحد،او يقفز عليه، لكن أيضا الواقع الموازي يفترض الاعتراف بهذه الذات الفاعلة، والتمكين لها، بالنظر إلى العائق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي المتربص بها، وبفعاليتها. وهو ما كان وراء ميلاد الحركة النسائية المغربية، الذي كنا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أهم حِضن لها، وأكبر مُدعم لنضالاتها. وبذلك نتحدث عن «القضية النسائية» في ارتباطها بالمساواة بين الجنسين، بالإنصاف، وبالاعتراف، في أفق إعادة التوازن للمجتمع، من خلال إعادة التوازن للأسرة، رجلا وامرأة وأطفالا.
ومن تحصيل الحاصل القول، إن القضية النسائية هي قضية إنسانية، مطروحة على جميع المجتمعات وعلى سائر الأمم، ومن المسلم به أنها تندرج في إطار أكبر وأوسع يتعلق بمنظومة حقوق الإنسان، والتي لا يمكن فصلها عن المسألة الديمقراطية، وما يلزمها. وبالتالي فموقعة هذه القضية، وحجم المكتسبات التي يمكن تحقيقها بشأنها مرتبط بشكل كبير بمجموعة من البارمترات الدولية منهاوالإقليمية والوطنية. وبالتالي فبداية القرن الحادي والعشرين، بكل ما رافقه من متغيرات على هذا المستويات الثلاث، أعطى دفعة كبيرة للقضية النسائية في بلادنا، يمكن رصدها على مستوى الترسانة القانونية مثلا مع التحول من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة، بكل ما لذلك من دلالات عميقة، بمستجدات قانون الجنسية والاعتراف للابن من أم مغربية بمغربيته، وبمستجدات القوانين الانتخابية ودعم تواجد النساء في المؤسسات المنتخبة عبر اعتماد الكوطا تجاوزا للمعطى الثقافي المُمانع، وغيرها من النصوص الضامنة لتواجد النساء في الفضاء العام، بل ضمان التواجد الآمن لهن في هذا الفضاء نفسه؛ هل يمكن القول، بناء على ما تمّ تحقيقه في هذا المضمار، بأننا بلغنا الحالة المُثلى اليوم؟
بتصفحنا لوسائل التواصل الاجتماعي اليوم والتي أصبحت بديلا عن استطلاعات الرأي التقليدية، وبتتبعنا للحوار الذي كان بصدد مشروع مراجعة مقتضياتمدونة الأسرة، وما تبعه من صخب وتشويش و»مزايدات» ورهانات، وبالنظر لتقارير عدد من المؤسسات الدستورية، والتقارير الدولية، يمكن القول إن المسار ما يزال طويلا، والطريق نحو المساواة والإنصاف بين الرجل والمرأة ما يزال معقداً، لأننا نعيش اليوم نوعا من «الرّدة» إزاء مسألة المساواة بين الجنسين، ردة فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء، الأسقف الزجاجية فيما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، وهذا كما أسلفت، لا ينفصل عن السياق العام الذي نعيشه في بلادنا، ولا ينفصل على كون القضية النسائية مرتبطة عضويا بالبناء الديمقراطي في بلادنا، ورسوخ الثقافة «الذكورية» وهيمنتها في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع،وهذا يحتاج إلىمزيد من اليقظة والتعبئة والنضالوالنّفس للتمكين للمرأة…
يهمنا في السياق ذاته أن نثير معك مواقع المرأة في الحقول التي نالت اهتمامك، ولا سيما الميداني التعليمي، والأكاديميخصوصا، وفي المجال الديبلوماسي؟
…لنبدأ بمؤشر أولي راهنودال في سياق سؤالك؛ يتعلق الأمر بنتائج الباكالوريا لهذا الموسم في دورته الأولى، إن نجد أغلب الناجحين أو الناجحات، وأعلى المعدلات كان مؤنثا، وهو ما يؤشر على «ثورة نسوية آتية بهدوء ووثوق. فالنساء قادمون/ات، إحالة على الفيلم المصري الشهير. وفي هذا الأفق،فالمرأة المغربية اليوم متواجدة بقوة لدرجة تأنيث بعض القطاعات خاصة الاجتماعية، مثلالتعليم والصحة. وفي التعليم العالي، أصبحتالمرأة أكثر تواجدا وحضورا وفعالية، وأتوقع أيضا أن «يتأنث» قطاع البحث العلمي أيضا، بناء على عدد الأطروحات المنجزة، والدراسات والأبحاث التي تنتجها النساء وتنشرها في المجلات المحكمة كل هذايؤشر على حضور نوعي وواعد. أما بخصوص الشق الثاني من السؤال، المتعلق بحضور النساء المغربيات في السلك الديبلوماسي، فيَشْرُف هذا السلك البالغ الأهمية، وبأفق دولي، وعلى سبيل المثال لا الإحاطة،بالآداء الراقيلعدد من سفيرات المملكة في عدد من الجغرافياتالحسّاسة، وفي تواجدهن بعدد من المنظمات الدولية الوازنة، فضلا عنآداءبرلمانياتنا في إطار الديبلوماسية البرلمانية، وهي مجالات أثبتت فيها المرأة نجاحها وتفوقها بعيدا عن أي تمييز إيجابي، أي وفق الدينامية العادية للولوج للمناصب بمنطق الاستحقاق والكفاءةمما غير صورة المغرب وتمثله عند كثير من الدول.
عرفت البلاد العديد من المبادرات، الاجتماعية بالخصوص، في مجال التنمية البشرية، أي حصيلة نسائية في هذا الباب من حيث حظ المرأة المغربية من الاستفادة من المشاريع المعروضة(المبادرة الوطنية، الدعم المباشر. الخالخ ..).
لا يمكن بحال، في سياق الإجابة عن هذا السؤال الإشكالي، التغاضي على أن العامل الاقتصادي هو أحد الأسس التي قام عليها تاريخيا التمييزضد النساء، على اعتبار منطق القوامة الذييستند على النفقة، أي تملك الثروة، وبالتالي فالولوج لأسباب اكتساب الثروة، أو ما نصطلح عليه اليوم التمكين الاقتصادي للنساء يشكل إحدى البوابات الأساسية لضمان تمتعهن بحقوقهن، وبالتالي النظر لهن ك»إنسان» «كامل الإنسانية». ولعل المقاومة التي عرفتها خطة إدماج المرأة في التنميةزمن المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، في نظري، إنما كانت بعلة الدفاع على منطق القوامة واستدامته في مقابل منطق المشاركة الذي لم تستسغه بعض القوى المحافظةالتي استغلت منطق الكم والحشد وآلية التهييج والتكثير في مسيرة الدار البيضاء. ومن هذه الزاوية،اعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من منجزات العهد الجديد التي أسست للتطبيع مع ولوج النساء للكسب، في أفق الولوج للثروة، وما يؤسس له من مساواة وإنصاف. ويكفي في هذا الصدد، التذكير بالجائحة(جائحة كرونا 19)، وإكراهاتها، وواقع المجتمع وسيرورته. فكانت شهادة مفارقة صارخة، إذ إن أغلبالنساء اليوم في المغرب من يعلنالأسر، أي أنهنمنيوفر لقمة العيش، في تعايش مع منظومة القوامة التقليدية والتي سيترجمها الدعم المقدم خلال هذه الفترة ل»رب الأسرة» (دون ربة الأسرة أو ربّا الأسرة. أو أُمّا الأسرة وعائليها معا).فالدعم المباشر اليوم يعرف جملة من الاختلالات التي رافقت وترافق تنزيله.فمن مهمات الدعم المباشر هو إدامة استقرار الأسر لا زعزعة استقرارها، وترسيخ عامل الثقة في المؤسسات، وأن يكرس دور الدولة في حماية المواطنين الأقل حظا في المنظومة، فتأهيلهم للخروج من دائرة الخصاص إلى دائرة الإنتاج، وتقليص الفوارق بين الطبقات التي تشكل اليوم تهديدا كبيرا لمجتمعنا. هذا ما يحيلنا على مشروع الدولة القوية العادلة والمجتمع الحداثي المتضامن الذي يشكل صلب رؤيتنا كاتحاد اشتراكي لمغرب نحلم به ونناضل من أجله، ومن مواقع مختلفة، برلمانية ودبلوماسية ومدنية ونقابية وثقافية…
ابتدأ العهد الجديد بإصلاح المدونة ويتواصل مجهوده في هذا الباب أي أثر على الواقع المعيش، وأي أثر على تفعيل الاجتهاد؟
ننتظر اليوم ما ستؤول إليه الأمور بعد محطة المجلس العلمي الأعلى في موضوع (مشروع)مدونة الأسرة. صحيح أن صدور هذه المدونة سنة 2004، ودخولها لأول مرة للبرلمان في مسطرة تشريعية كان من معالم العهد الجديد. ومن المؤكد أن هذا النص القانوني قد أعاد ترتيب العلاقات في الأسرة المغربية، لا من المنظور الضيق للواجبات والحقوق، ولكن من المنظور الأشمل للثقة والاطمئنان الذين يفترض أن يسودا الأسرة المغربية.
وبالمناسبة، من القضايا «الزائفة» و»المضللة» التي يتم اليوم إلصاقها بالمدونة وترويجها، ارتفاع نسب الطلاق، وبالضبط التطليق، الذي كان شبه مستحيل قبل اعتماد المدونة. وإذا كنا ننتصر في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للأسرة المستقرة والمتوازنة، فإننا نعتبر الأمر طبيعيا،بالنظر لحجم الخلافات المعلقة التي كانت تسود واقعيا في الأسر المغربية والتي كانت تحيل على حالات «طلاق» فعلي لا تتيح الإمكانات القانونية آنذاك تأطيره. بمعنى أن مدونة 2004، فقط حاولت تسهيل عملية الانتصاف في حال الضرر القائم بمناسبة العلاقات الأسرية، وإذا كان عدد طالبي وطالبات الانتصاف في ارتفاع، فإن الأمر يحيل على مجموع الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية ولكن بالأساس الثقافية التي تؤطر حياة الأسرة المغربية وتحكمها. ودعوة جلالة الملك لإعادة النظر في مقتضيات مدونة الأسرة في سياق الأوراش الكبرى التي فتحتها المملكة وعلى رأسها ورش الحماية الاجتماعية، هو تكريس لموقع ملك راع لتوازن أسري هو صمام أمان الذات المغربية الممانعة لكل اختراق سواء من الغرب أو من الشرق. وهي الذات المغربية القائمة على التضامن والتآزر، والكرامة والأنفة، والتي لا يمكنها التسامح مع أي امتهان لا لرجالها، ولا نسائها، ولا أطفالها، ولا أي استيلاب لمقوماتها الثقافية التي تجعلها قابلة لاستيعاب المنجز الإنساني في كونيته، وصد كل دخيل مهما تغلّف بالقداسة.
سؤال شخصي: ما هي الصورة التي تعبر، في نظرك عن البصمة الخاصة لمحمد السادس من زاوية اهتماماتك؟
على صعوبة الأسئلة الشخصية وحَرجِها، وجوابا على سؤالك «،تحضرني مجموعة «صور» أو لحظات، أعتبرها ذات دلالات عميقة واستشرافية، تحيل على قراءات متعددة للعهد الجديد وتؤشر عليها، سأوجزها في خمس مراعاة للسياق والمقام، وهي للتأمل: صورة الملك/رمزا للاستمرار، حاملا نعش والده في جنازة مهيبة، ونظرة حزن عميق على الفقد، وأمل في البناء والسير نحو الأمام…، صورة الملك/الزوج فوق العمّارية في اقتسام لحظات فرح وتكوين أسرة صغيرة،على غرار الأسرة المغربية في أصالتها وانفتاحها… صورة الملك/ الأب والأم، وهو يستقبل أمهات لاعبي المنتخب الوطني بعد فتوحاته في كأس العالم بقطر الشقيقة… صورة الملك/ الوطني، وهو يعود المرحوم سي عبد الرحمن اليوسفي ويُقبل رأسه… صورة الملك/ الزعيم، أثناء الالتحاق بالاتحاد الإفريقي بعد طول غياب وقطيعة…ملك جديد لعهد جديد…
* عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
برلمانية
أستاذة جامعية وكاتبة
نشر أيضا في 29/07/2024