تُعد العيطة الحصباوية من أبرز التعبيرات الغنائية الشعبية المغربية التي ارتبطت بمنطقة عبدة وآسفي، إذ مثلت لعقود طويلة مرآةً للذاكرة الجماعية ووعاءً لحكايات الناس وقصصهم ومشاعرهم. فهي ليست مجرد غناء، بل ممارسة اجتماعية وثقافية تنقل القيم والعلاقات وتُرسّخ الهوية المحلية. وقد ساهم باحثون ومؤرخون مثل الدكتور علال ركوك في إنقاذ هذا التراث من براثن النسيان، من خلال جمع وتوثيق نصوصه وألحانه، وتأكيد قيمته الفنية والاجتماعية ضمن الثقافة الشعبية المغربية.
منذ بدايات القرن العشرين، برزت أسماء شكلت الركيزة الأساسية لهذا اللون الغنائي. ويعتبر الشيخ أحمد البدري واحداً من أوائل الرواد، إذ كان عازفاً بارعاً على الكمان والكنبري وحافظاً لجميع عيوط الحصبة، حتى اعتبر مدرسة مستقلة بذاتها. وبعده جاء المصطفى ولد الضوء الذي عاش في فترة الحماية وشغل منصب أمين الشيوخ بآسفي، وترك تسجيلاً غنياً من القطع المميزة مثل “كبت الخيل” و”حاجتي في كريني”، رفقة طاقم من الشيخات البارزات مثل الزروقية والمرينية والبوكدراوية. وهذه الأخيرة كانت فنانة استثنائية من ثلاثاء بوكدرة، أسست فرقة نسائية في الأربعينيات وظلت وفية للعيطة حتى رحيلها سنة 1982.
غير أن الاسم الأكثر التصاقاً بالعيطة الحصباوية يبقى الشيخ الدعباجي، الملقب بأب العيطة العبدية. وُلد سنة 1910 بدوار الدعابجة بعبدَة، وتمكن من نشر العيوط في آسفي ومراكش والشاوية ودكالة، وسجّل أغلبها باستثناء القليل. تميز بأسلوب بسيط يعتمد العزف على وترين فقط مع أصوات قوية وجهيرة، وكان رفقة طاقم ضم أسماء مثل عبد السلام والشهب، والشيخة عيدة التي كانت القلب النابض لفرقته. وقد شكلت هذه الأخيرة ثنائياً فنياً متكاملاً معه، وواصلت بعد رحيله الحفاظ على جزء من التراث رغم التهميش الذي لحقها هي وأمثالها.
ومن بين الأسماء الأخرى التي ساهمت في حمل مشعل الحصبة، برز الشيخ الداهمو الذي تتلمذ على يد الدعباجي وورث عنه القدرة على أداء جميع العيوط، إضافة إلى مولاي عبد الرحمان البصير، العازف الكفيف من جمعة سحيم الذي حفظ أنماطاً نادرة وظل معروفاً بخفة ظله وروحه المرحة. كما ساهم آخرون في إثراء هذا التراث مثل الخماري ولبيض، والثنائي لعرج ولغليمي، ومجموعة المحجوب وميلود العسري، إلى جانب شيخات بارزات كالشيخة الهداوية والبيحية وبنت القرمودي.
لقد عُرفت مدرسة الحصبة بغزارة إنتاجها وتنوع مواضيعها، حيث جمعت بين الغزل والفروسية والنقد الاجتماعي والحنين، مع تميزها بعذوبة الألحان وقوة الإيقاع الذي يعتمد على الطعريجة والكمان والكنبري. كما استوعبت هذه المنطقة أنماطاً غنائية من خارجها مثل المرساوي والحوزي، في وقت اختفت فيه من مواطنها الأصلية، وهو ما يجعلها محطة فنية فريدة تتلاقى فيها مختلف الأشكال الموسيقية المغربية.
ورغم التهميش الذي طال هذا الفن لسنوات طويلة، ما تزال هناك طاقات تعمل على إعادة إحيائه وحفظه من الاندثار. ويأتي في مقدمتها الفنان جمال الزرهوني الذي يسعى إلى تقديم العيطة الحصباوية للأجيال الجديدة في قوالب تحافظ على أصالتها وتواكب العصر. وهكذا تبقى العيطة الحصباوية، بما حملته من أصوات وأسماء وتجارب، ذاكرة حيّة تختزن تاريخ عبدة وآسفي، ورمزاً من رموز التراث المغربي الذي يستحق الاعتناء والاحتفاء.