جاءت أغنية «العيون عينيا» لفرقة جيل جيلالة نتيجة لتشكل المجموعة سنة 1973، ولإلهامها الكبير من مسرح الهواة. غنت الفرقة جزءا من الأغنية في صيف 1975 بمدينة طنجة، قبل الإعلان الرسمي عن المسيرة الخضراء، فلامست مشاعر الجمهور المغربي، وخلدت لحظة وطنية استثنائية.
تأسست مجموعة جيل جيلالة في الدار البيضاء، بعد تجربة فنية مسرحية في مراكش خلال ما عرف بالعصر الذهبي لمسرح الهواة، حيث كانت المسرحيات تتخللها أغنيات تراثية ملتزمة، وجدت صدى واسعا لدى الجمهور. من رحم هذا التفاعل وُلدت الفرقة التي ضمت أسماء وازنة مثل محمد الدرهم، مولاي الطاهر الأصبهاني، مولاي عبد العزيز الطاهري، حميد الزوغي، محمود السعدي وسكينة الصفدي، لتصبح بعد سنوات قليلة رمزا للفن الملتزم.
وعندما ألقى الملك الراحل الحسن الثاني خطابه التاريخي الداعي إلى تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الأقاليم الصحراوية، كان لا بد للفن المغربي أن يعبر عن انخراطه في هذا النداء الوطني. فاجتمعت جيل جيلالة، من التاسعة ليلا إلى الرابعة صباحا، لتصوغ واحدة من أجمل الأغاني الوطنية في تاريخ المغرب، أغنية كتبت ولحنت وسجلت في ظرف قياسي، لتتحول إلى نشيد جماعي للمسيرة، يرددها الكبار والصغار على السواء:
«العيون عينيا والساقية الحمرا ليا، والواد وادي يا سيدي…»
يقول أعضاء الفرقة إنهم أدوا جزءا من الأغنية في حفل بطنجة قبل الإعلان عن المسيرة، وكأنهم استشرفوا بحسهم الفني ما سيحدث بعد شهور قليلة. الكلمات كانت مفعمة بروح صوفية مستلهمة من القيم الدينية والوطنية التي طبعت أجواء المسيرة، فيما صيغ اللحن في تمازج بين الإيقاعات الشعبية والتراتيل التعبوية، وسجل العمل في استوديوهات عين الشق بالدار البيضاء.
ولم يكن غريبا أن تصبح الأغنية، منذ بثها الأول، عنوانا للحماس الوطني، توازي في قوتها الوجدانية خطاب الملك نفسه، إذ رافقت البث المباشر لأطوار المسيرة، واحتلت مكانتها بين الخالدات التي تؤرخ لذاكرة المغرب المعاصر.
ورغم النجاح الكبير، لم تخل التجربة من مواقف أثارت الجدل. فبعض الجهات رأت في الأغنية انحيازا سياسيا، فيما اعتبرها آخرون انتقالا من لغة الاحتجاج إلى لغة الموالاة. ومع ذلك، ظلت «العيون عينيا» تتجاوز التأويلات لتستقر في وجدان المغاربة باعتبارها ملحمة وطنية صادقة.
يحكي مولاي الطاهر الأصبهاني أن المجموعة، خلال مشاركتها في مهرجان تيمكاد بالجزائر سنة 1983، فوجئت بوجود فرق من جبهة البوليساريو، فقررت الانسحاب ما لم يسمح لها بأداء «العيون عينيا». المفارقة أن الجمهور الجزائري، الذي لم يكن يعرف خلفية النزاع، تفاعل بحرارة مع الأغنية وردد كلماتها من البداية إلى النهاية، في مشهد أثار الدهشة والتأمل.
وفي مقال للزميل العربي رياض بجريدة الاتحاد الاشتراكي، نقل الكاتب ما جاء في كتابه «القسبيجي صوت بصم مسار جيل جيلالة» حيث يروي الفنان عبد الكريم القسبيجي تفاصيل ولادة الأغنية قائلا: «كان على جيل جيلالة، التي أصبحت في السبعينيات رمزا من رموز الفن المغربي، أن تعبر عن موقفها الوطني. بعد خطاب الحسن الثاني الداعي إلى تنظيم المسيرة، اجتمعنا في منزل مولاي عبد العزيز الطاهري وقررنا إعداد أغنية تعكس قناعتنا الوطنية. كتبت الأغنية ولحنت في وقت وجيز، وشارك في تأليفها الطاهري وشهرمان والدرهم، وسجلناها في اليوم الموالي بالإذاعة الوطنية في عين الشق، ليس بغرض الربح، بل تعبيرا عن موقف وطني خالص. شارك في الكورال أصدقاء من بينهم مصطفى الناصري والزين وشهرمان ومجد وآخرون، فيما غابت سكينة لأنها كانت تشارك فعليا في المسيرة الخضراء.»
ويضيف القسبيجي:»بعد بث الأغنية، تمت المناداة علينا لتسجيلها في دار البريهي، وأصبحت ترافق كل نقل مباشر للمسيرة الخضراء. غير أننا واجهنا انتقادات من بعض المنظمات التي لم تستسغ أن نغني للوطن. حتى بعض منظمي الحفلات بالخارج حاصرونا لأننا أدينا أغنية وطنية. لكن المفارقة أن الجزائر نفسها، التي استدعتنا لمهرجان تيمكاد، سمحت لنا بأداء الأغنية وسط تصفيق جمهورها، بينما كنا نهاجم في الداخل من طرف منظمات مغربية. وهنا تساءلنا: هل صار هؤلاء جزائريين أكثر من الجزائر نفسها؟»
ويتابع قائلا: «بعد شهور من صدور الأغنية، استدعينا إلى القصر الملكي لإحياء حفل فني، ولما سلمنا على الملك الحسن الثاني، قال لنا بالحرف: تبارك الله عليكم، شرفتم بلدكم، «العيون عينيا» أغنية جميلة أحبها المغاربة، وموالين الدار يرددونها. وقد أديناها مرة أخرى في القصر ضمن ملحمة أخرجها الطيب الصديقي بمشاركة كبار المسرحيين المغاربة.»
بهذه الشهادة، يتأكد أن «العيون عينيا» لم تكن مجرد أغنية وطنية، بل كانت تجسيدا فنيا لمرحلة بكاملها، ولصوت شعب آمن بالوحدة الترابية وبالارتباط الوجداني بين العرش والشعب.
وبعد مرور خمسين سنة على المسيرة الخضراء، لا تزال هذه الأغنية تصدح في الإذاعات والاحتفالات، كأنها كتبت بالأمس، لأنها ببساطة خرجت من القلب، فدخلت إلى وجدان الأمة دون استئذان.
«العيون عينيا».. أغنية خلدت المسيرة وسكنت الوجدان المغربي
بتاريخ : 06/11/2025

