الغرافيتيا من المادي إلى الرقمي أسئلة سوسيولوجية حول الكتابة والإبداع – درس افتتاحي لشعبة ماستر الرقمنة ومهن الكتاب بجامعة فاس

الثورة الرقمية لا يمكن أن تقضي على الثقافة الكلاسيكية فهي مستمرة كما القطائع بين الثقافتين أيضا مستمرة»

ألقى عالم الاجتماع المغربي ذ الدكتور أحد شراك درسا افتتاحيا تحت عنوان – الغرافيتيا من المادي إلى الرقمي – أسئلة سوسيولوجية حول الكتابة والإبداع – وذلك بعد ظهر الثلاثاء 24 دجنبر 2024 بقاعة العروض والندوات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس.
حضر هذا الدرس الافتتاحي الدكتور محمد مبتسم عميد الكلية ويسر فقرات الجلسة العلمية باقتدار رشيد الدكتور عبد الرحيم العطري والدكتور جمال بوطيب رئيس شعبة ماستر الرقمنة ومهن الكتاب محاضرا ونخبة من أساتذة الكلية والأساتذة الجامعيين والطلبة الباحثين من فاس وخارجها بالإضافة إلى طلبة شعبة ماستر الرقمنة ومهن الكتاب وفعاليات إعلامية وثلة من الإعلاميين والنسيج المدني.
كتاب عالم الاجتماع عميد السوسيولوجيا بالمغرب الدكتور أحمد شراك الصادر عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية المغرب طبعة أولى 2024. جاء في 90 صفحة من القطع المتوسط. ينقل القارئ والقارئة إلى عمق تجربة الغرافيتيا، من لحظة وقوع النقش مرورا بالرحلة إلى موقع الحرف، وصولا إلى تفاصيل دقيقة وعالمة حول بروز الرقمنة.
هذا الكتاب ليس مجرد سرد لوقائع وأحداث في عالمنا الراهن كما تبدو على منصات التواصل الاجتماعي، بل هو شهادة وثيقة تنبض بالحياة وعلامة فارقة في الدرس السوسيولوجي المغربي تنصهر داخلها علمية النظرة، دقة المنهجية وعمق النظرة الابتكارية. فضلا عن تأصيل المعنى بعد ولادته ثم تجنيسه” فديهة ” من الفيديو نموذجا.
شهادة تعكس نضج الجامعة المغربية وارتقاءها إلى مصاف الكوليج دو فرانس. أما تصميم الغلاف فهو مبتكر وبديع وأنيق يتماهي بموضوعية لافتة مع تيمته الجبارة.
اختيار الغلاف من طرف القسم الفني لمؤسسة مقاربات، وهندسة بياضاته ،ينم عن احترافية ورؤية فلسفية وتجسيدا لتيمة الغرافيتيا من أرقى شرفات الوعي بها.
وكتاب -الغرافيتيا من المادي إلى الرقمي- أسئلة سوسيولوجية حول الكتابة والإبداع – يجمع بين دفتيه عتبة وأربعة محاور المحور الأول: جدل مفاهيمي وإشكالي. وفيه نقرأ الغرافيتيا- الكتابة الأدبية والإبداعية –الورقية – الرقمية – مقدمات استشكالية بمثابة أطروحة. حيث يسهب البروفيسور أحمد شراك في شرح وتفكيك الغرافيتيا بوصفها أقدم خطاب ينتمي إلى مرحلة ما قبل الكتابة .حيث بدأ الإنسان يتطلع إلى التعبير عن ذاته بواسطة رسوم على الحيطان وجذوع الأشجار وفي كل مكان. إذ يمكن القول إن الغرافيتيا سابقة عن فعل الكتابة الألفبائية بشكل مخصوص. كما يوضح الأساس الذي انبنت عليه الأطروحة ،أو فكرته الرئيسية على تحديد مختلف العلاقات المركبة والمتراكبة بين الأضلاع الثلاثة -الغرافيتيا والأدب الورقي والأدب الرقمي . حيث يعيش العالم اليوم جذبة رقمية أساسها التكنولوجيا وما حفلت به من دهشات وقفزات . وما ستأتي به من إنجازات واختراعات بدءا من الربوات إلى الذكاء الاصطناعي وتداعياته على دور الإنسان وقيمه وابتكاراته.
المحور الثاني : الغرافيتيا والأدب الرقمي – تحديدات وتأملات- الغرافيتيا والأدب – أسئلة الكتاب والإبداع – اللغة – النقد – القراءة- المقروئية والاقتصاد الثقافي – الكتاب الورقي -على صعيد القراءة –الكتاب الرقمي- الاقتصاد الثقافي الرقمي- بعض خصائص الاقتصاد الثقافي الرقمي – الرأسمالية-اقتصاد معولم- اقتصاد قائم على المعلوميات وعلى المعرفة- تصنيفات الأدب الرقمي- كتاب بصري- كتاب صوتي- الاتحادات الادبية- المآل والمصير : وفيه يناقش البروفسور شراك الاقتصاد ومردوديته وما له من ملموسية حيث استقطب وسائل التواصل الاجتماعي كثيرا من الفاعلين بتسميات عديدة والذي تعتبر فيه المردودية هي أساس النجاح والحضور . فكلما كان المحتوى واسعا وعريضا ومقبولا، إلا وحظي بمردودية مالية تجاه صاحبه. فضلا عن انتشاره الواسع بين المتلقين من مختلف الأعمار . لأن المتلقي قد يلتصق بهاتفه ساعات طوال ،وهو يتردد من محتوى إلى آخر دون كلل أو ملل. بل ،ويجد في ذلك متعة وجاذبية تجعل الوقت يمر سريعا ويعيش حالة زمن سيكولوجي هارب من المسؤولية سواء تجاه تحضير دروسه إذا كان متعلما، أو تجاه التواصل مع عائلته . فضلا عن تعطل ملكات القراءة الكلاسيكية وممارسة العمل الذهني والفكري والعلمي. ولعل هذا الانتشار جعل الاقتصاد الثقافي الكلاسيكي وتحديدا الورقي يتوارى رغم المجهودات التي تقوم بها وزارة الثقافة من خلال معارض الكتاب الوطنية .
المحور الثالث: الكتابة والكتاب في وسائل التواصل الاجتماعي – تمهيد الغرافيتيا-السرود- قصص واقعية فديهة من الفيديو الرحلة – التعريف بالأمكنة –الغرائبي والعجائبي – التفاضؤ- الكتاب في وسائل التواصل الاجتماعي-الكتاب المقدس- الكتب الدينية والتراثية. وفي هذا المحور يؤكد الدكتور شراك على الدور الهام لوسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل أحد العناوين الكبرى لتجليات الثورة الرقمية هنا والآن وما بعد . ولقد أبانت عن قدرتها الفائقة خاصة على صعيد التواصل والتقاسم والتشارك. حيث شكلت منبرا لا يضاهي على صعيد التعبئة والتحريض في مناسبات عدة كالربيع العربي وما بعده من احتجاجات اجتماعية ومقاطعات اقتصادية. والسؤال المطروح هو : هل هذه الوسائل قادرة على استجلاب الناس بتلك الكثافة التي كانت في الربيع العربي ؟ ومن تم هل هذه المنابر لها حضور أكثر فيما يتعلق بالسياسة والدولة والنظام ؟ بينما يتوارى هذا الحضور ويخفت عندما يتعلق الحال بالثقافة والكتابة .
المحور الرابع : مقاربات الرقمية – وفي هذا المحور يفصل المحاضر بين المقاربات المتعددة للممارسات الرقمية على صعيد الأنظار والأفكار .وهي متفاوتة في المنهجية والمنهج والمقاربة. ويمكن توزيعها إلى أربع مقاربات 1-سجالية 2- تمجيدية و3 – موضوعية نقدية. 4- مقاربة سوسيولوجية.
ولما كانت المقاربة السجالية تقوم على تتفيه وتنقيص الرقمية واعتبارها ممارسة تنشر الرداءة والاستجلاب الواسع إلى ثقافة السهل المتداول . فهي لا ترى في التطور الذي عرفته البشرية إلا الوجه السلبي ،بل هو الوجه الوحيد .وتقدم في ذلك نظاما حجاجيا يركز على عناصر كثيرة منها استهلاك الوقت اللامجدي للناس ،حيث أصبح الهاتف المحمول ملازما لكل الفئات الاجتماعية من أطفال وراشدين وشيوخ رجالا ونساء . كما بينت هذه المقاربة السجالية كيف أن الرقمية تنشر التفاهة في الناس .ومن تم فإن التعليم الرصين المبني على القراءة الرزينة والعميقة لم يعد متاحا، لأن المرء يظل مشدوها ومشدودا إلى شاشة الكمبيوتر أو شاشة الهاتف دون كلل أو ملل. وأن جل وقته في هذه الحالة المدهشة. أما القراءة فتقتصر على الخفيف والسريع بعيدا عن قراءة الكتب العميقة والدسمة.
أما المقاربة التمجيدية فيمكن اعتبارها قراءة مساندة ،بل ومتماهية مع الممارسة الرقمية على كل الصعد. خاصة على صعيد الكتابة والأدب. فهي تعتبر أن الممارسة الورقية ممارسة كلاسيكية لا تريد التزحزح عن منطلقاتها ومناهجها ومفاهيمها. وأنها لا تلائم العصر عصر ما بعد الحداثة ،وتطور العقل الإنساني إلى بنيات بل إلى معمار جديد أساسه التقنية والثورة الرقمية .
أما ثالث هذه المقاربات ،فهي المقاربة الموضوعية النقدية. وهي مقاربة برأي الدكتور شراك متعددة الاختصاصات. تحاول أن ترصد الجوانب الإيجابية للثورة الرقمية، وفي ذات الوقت تعرض للجوانب السلبية.
أما الإيجابيات فيمكن اختزالها في الانتشار الواسع للتواصل بالمتصلين إلى أكثر من مليارين من البشر في العقد الأول من القرن العشرين. وإلى الارتفاع عدد المشتركين في الهاتف الخلوي إلى أكثر من 5 مليارات والرقم قابل للارتفاع. إحصائيات 2013. أما اليوم فلا شك أن العدد قد ارتفع بشكل لافت. لأن الأسرة اليوم أصبحت تتوفر على هاتف محمول بكامل أعضائها. بل وأن الأبوين قد يمتلكان هاتفين ورقمين في نفس الوقت . وقد امتدت رؤية الباحثين في سرد ما هو إيجابي في عصر التقنية وماهو سلبي . ومن هنا لا يخلو الكتاب من محاذير التطور التقني وفي نفس الوقت ما يقدمه للبشرية من إنجازات تهم جودة الحياة من حيث الإيقاع والانتفاع. حيث لم يعد الإنسان عاريا على المستوى الظاهري أفعالا وممارسة سلوكية، بل أيضا على مستوى الحياة الداخلية والباطنية. كما أن التطور التقني له كثير من المخاطر والضياع على الصعد السياسية والإعلامية والتعليمية بالنسبة لكل الفئات العمرية من أطفال وراشدين وبالنسبة لكل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية .. ”
المقاربة السوسيولوجية. وهي الأكثر أهمية برأي الدكتور شراك على صعيد المنهج كما على صعيد الموضوع ، كما على صعيد الاستراتيجيات . من حيث الأشكلة والاستشكال كعلاقتها بالثقافة في الخط الأول. إحالة على كتاب الباحث السوسيولوجي الفرنسي ريمي ريفيل وسؤاله الهام” هل الثورة الرقمية ثورة ثقافية؟ هناك ملامح أخرى لهذه الثورة الثقافية على صعيد الأفراد والمجتمعات. حيث أثرت على العقول والنماذج السلوكية للأفراد والجماعات. هنا تجاوزت الرقمية بمختلف تطوراتها التقليد إلى الحداثة. كما تجاوزت البينية- مزيج من التقليد والحداثة- كما هو الحال اليوم في العالم العربي. وبمعنى آخر فإن الثورة الرقمية لا يمكن ان تقضي على الثقافة الكلاسيكية. فهي مستمرة كما القطائع بين الثقافتين أيضا مستمرة..” يضيف الدكتور شراك.
وفي المجمل، يهدف هذا المنجز القيم إلى ملامسة هدفين مركزيين اثنين نطالعهما على ظهر الغلاف:أما الهدف الأول: فهو مفاهيمي إن لم نقل مَفْهَمـي، لثلاث كتابات وهي: الغرافيتيا، والأدب (الورقي)، ثم الأدب الرقمي في علاقاتهـا مـع الجمهور والتسويق والحضور أو ما يسمى بالاقتصاد الإبداعي أو الثقافي، وعندما أمَفهم هذه الكتابات عبر عرض محدداتها ونواميسها واستراتيجياتها، ابتداء من الغرافيتيا.
أما الهدف الثاني فهو تبيان العلاقات المضمرة والمظهرة فيما بينها من تشاوجات أو تعارضات أو علاقات التواصل وعلاقات التفاصل.
إن الهدفين معا يحاولان رسم حدود الثورة الرقمية وانعكاساتها على هذه الكتابات، وإلى أي حد حققت هذه الثورة الرقمية، ثورة جمالية في هذه الكتابات أي علاقة الجدوى واللاجدوى في الرقمية خصوصا ؛ فإلى أي حد مارست التجاوز والقطع على صعيد فلسفة الكتابة وماهيتها وجماليتها. كل ذلك دون أن ننسى عرض مختلف النقود (ج. نقد) سواء تلك النقود المضادة أو تلك النقود التمجيدية أو تلك النقود الباردة والموضوعية أو النقود السوسيولوجية.
تأسيسا على ما فات ،فإن استراتيجية هذا الكتاب تروم التقريب بين المفاهيم عبر عرضها وتحديدها في هذا العصر، عصر الرقمنة بامتياز.
ويخلص عميد السوسيولوجيا في المغرب في منجزه العلمي إلى أن ” الكتابة عرفت قطائع وامتدادات، وهكذا إذا كانت الكتابة الحروفية أو اللغوية قد شكلت مرحلة تالية للغرافيتيا في تاريخ البشرية، لأن الغرافيتيا في نظرنا- أصل ونقطة بدء لأن الأميين – حتى ولو لم يتعلموا- فقد مارسوا الغرافيتيا دون أن يمتلكوا ناصية اللغة، ومن هنا يمكن القول بأن الكتابة الأدبية خصوصا قد قطعت (بالمعنى الإيبستيمولوجي) دون أن تلغيها أو تقتلها، فلقد استمرت الغرافيتيا بمختلف الألوان والأشكال والوسائل والركائز، وعندما ظهرت الكتابة الأدبية الرقمية أيضا لم تلغ وجود الغرافيتيا كمعمار وكمنطق، بل أن هذه الكتابة قد استنشقت هواءها وهواها والأمر يعود إلى الماهية الجوهرانية للإنسان، الذي قد تتغير ابتكاراته ومنظوراته، حيث يهدف دوما إلى مستقبل منافس لأنطولوجيته، كما هو الحال الآن أي الإنسان الآلة والروبوات والذكاء الاصطناعي.. وقد يُدهش الوجود طويلا بفعل المخترعات والمبتكرات لكن إلى أي حد تندثر ماهية ذلك. الإنسان في الكتابة ؟ فالكتابة لا تنتهي والإنسان – ولو كان آلة فهو حيوان كاتب، لا شك في أن نقول هذا الآن ونستشرف الآن دون أن نعرف التطورات المدهشة التي يمكن أن تطرح أسئلة استفهامية واستشكالية حول الإنسان، خاصة الإنسان الكاتب وصفته كممارس لمهنة الكتابة، فضلا عن مصير الكتاب سواء الورقيين، أو الرقميين، لأن الإنسانية في دهشة مستمرة وسرعة الحركة ووقت جاذب إلى الترفيه والمتعة والاستكشافات المدهشة….”
هاهنا تصبح أسئلة قادمة حول الكتابة وحرفتها في وحول الكتاب وتسويقه ومدى جاذبيته للقراءة والتلقي غنى عن الصوت والصورة والآلة من الروبو في المعرفة وقضاء الحاجات في ممارسة الحياة خاصة وأن الروبوات أصبحت خزانا وافرا للمعارف والثروة الرمزية، بل أن هذه الروبوات يمكن أن تطلب منها أي موضوع أو فكرة أو بحث إلا وتمد الباحث بمختلف المراجع، بل وبهندسة الأفكار في صورة مقالات أو أبحاث بل وحتى كتب، حيث كثر التلاص في الأطروحات الجامعية فضلا عن الترجمات، حيث يمكن أن تعطي للروبو أي نص وتطلب منه ترجمته باللغة التي ترغب، فهو يقوم بذلك. إن الذكاء الاصطناعي بقدر ما هو إنجاز فهو أيضا لا يخلو من مخاطر، وعلى رأسها السرقات وثقافة السهل والكسل، لأنه يكفي أن يكون لك تطبيقا للذكاء الاصطناعي في هاتفك النقال، حيث تكفي نقرات من أجل الوصول إلى المبتغيات….”
وممتن وشاكر أستعير هنا توصيف من الكبير د عبد الرحيم العطري حول أستاذ الأجيال وعالم الاجتماع المتميز البروفيسور أحمد شراك الذي “يمنح الدرس الافتتاحي معناه الحقيقي، مقدما بذلك نصا مكتوبا ومنشورا لهذه الغاية في كتاب، ضدا على الشفاهية واللاأثر. فشكرا سي أحمد شراك على المتعة والإفادة، وشكرا سي جمال بوطيب على الفرادة والتميز في كل شيء. كل المحبة والتقدير”.


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 03/01/2025