الغرب والقرآن 10 – سياقات تشكل النص القرآني

 

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

تنتقد الباحثة الألمانية أنجيليكا نويفيرت، قي مؤلفها “القرآن بوصفه نصاً من العصور الكلاسيكية المتأخرة: قراءة أوروبية” القراءات اللاتاريخية للنص القرآني كما نعرفها من الثقافة العربية ـ الإسلامية، التي نظرت وما زالت تنظر إليه كنص مفارق للزمان والمكان.
وترى أنجليكا، بحسب ما ذهب إليه الباحث رشيد بوطيب في دراسة له بعنوان: “آنجيليكا نويفيرت والقرآن الكريم … آفاق القراءة وحدودها”، أن “القرآن هو نتاج جدل لاهوتي مع الثقافة أو الثقافات التي ظهر فيها. ومن جهة ثانية يؤكد كتاب نويفيرت بما لا يدعو إلى الشك، عبر دفاعه عن انتماء القرآن إلى المجال الثقافي للعصور الكلاسيكية المتأخرة، تأثيره وتشكيله للثقافة الأوروبية. فمن شأن التركيز على السياق التاريخي الذي نشأ فيه القرآن أن يساعدنا على تجاوز التناقضات والفوضى التي تسود القراءات المعاصرة لهذا الكتاب. إنها قراءة نسقية تضع القرآن في سياقه الذي نشأ فيه وتعني كلمة السياق هنا الثقافة الشرق أوسطية للعصور الكلاسيكية المتأخرة، وبلغة أخرى إنها لا تنظر إلى القرآن، كنص ينتمي إلى التراث الإسلامي فحسب، ولكن كنص تاريخي، ووثيقة لتكون جماعة جديدة في فضاء تسوده أفكار مسيحية ويهودية وأفكار فلسفية أخرى. إن من شأن هذا الطرح أن يجعلنا نعيد النظر بالرؤية التي ترى القرآن نصاً إسلامياً خالصاً، ومن جهة أخرى تقودنا أيضاً إلى الاعتراف به كجزء من التراث الأوروبي. أو كما كتبت نويفيرت في شجاعة نادرة: «كنص يشترك فيه الأوروبي غير المسلم والمسلم». إن قراءتها تنطلق من مفهوم مختلف للقرآن. فليس شكل النص القرآني ما يهمها ولكن سيرورة تشكله، أو تلك السابقة على تشكله، وبلغة أخرى التبليغ الشفوي للقرآن وليس النص المدون”.
ويذهب بوطيب إلى أن أنجيليكا نويفيرت “ترى أن قراءة القرآن كنص شفوي، سابق على تدوينه تؤكد أن القرآن ليس فقط نصاً إسلامياً، بل هو جزء لا يتجزأ في رأيها من الثقافة القديمة المتأخرة والنقاش الذي كان محتدماً بين تياراتها المختلفة. إن نويفيرت تفهم القرآن كسيرورة تواصل، وبلغة أخرى كجواب على أسئلة عصره. وهي تطمح إلى ردم الهوة القائمة بين البحث القرآني في الغرب ونظيره في الثقافة الإسلامية. وهو أمر يتحقق في رأيها عبر ممارسته لنوع من النقد الذاتي داخل مبحث القرآن في الثقافة الغربية. إنها تصف بدءاً مقاربتها بالأوروبية، ولا تعني بذلك فقط مناقشتها المواقف المختلفة في السياق الغربي من القرآن ولكن خصوصاً المقاربة التاريخية. فالنص القرآني وفقاً لهذه الرؤية هو نتاج لثقافة العصور المتأخرة. إنه جزء من الوصية التي تركتها تلك الثقافة لأوروبا. وبلغة نويفيرت، إن من شأن هذه القراءة الجديدة أن تفتح مجالاً جديداً أمام القارئ الغربي في علاقته بلاهوته وتاريخه الفكري وتجعله ينظر إلى القرآن كجزء لا يتجزأ من تاريخ نصوصه الدينية. وفي هذا السياق ينتمي القرآن إلى التقليدين الإسلامي والغربي”.
ويضيف “إن سيرورة التبليغ ستؤدي إلى ولادة كتاب جديد بكل ما يرافق هذه الولادة من لغة وثقافة ونظرة إلى العالم وإلى ولادة جماعة جديدة، هي جماعة المسلمين. لكن القراءات الغربية للقرآن، بحسب نويفيرت، تلك القراءات السانكرونية، تغفل التطور المزدوج للنص والجماعة. وهي تغفل بذلك البعد الدياكروني للنص القرآني كما تغفل أنها جماعة تعرف الثقافة القديمة المتأخرة وإلا لما كان بإمكانها أن تفهم لغة القرآن ورمزيته. فقد جاء القرآن جواباً على تلك الثقافة أيضاً. إنه، بحسب نويفيرت، نص شفوي. وشفويته تؤكد حواريته مع الزمن. إنه ليس نصاً شفوياً فحسب ولكنه نص تم تبليغه أيضاً بشكل شفهوي وما زالت بنيته الشفهوية هي الغالبة حتى عصرنا هذا. إنه ليس بنص عذري أو نص خارج السياق وهو ليس مجرد تعويض عن الإنجيل أو كتابة عربية له، كما تزعم القراءة السانكرونية. ولهذا يمكن اعتبار محاولة نويفيرت استمراراً لنولدكه وكتابه «تاريخ القرآن» لكن في تجاوز لرؤيته لهذا النص كنص أحادي الصوت وليس كنص حواري بين النبي والجماعة، النبي والتاريخ. لكن القراءة النقدية ـ التاريخية تنسّب أيضاً مفهوم الجاهلية كما تشكل داخل التقليد الإسلامي، وهي بذلك تضع التصور القائم عن القرآن كأسطورة مؤسسة أو كأسطرة للتاريخ موضع سؤال. وهي محقة لا ريب حين تؤكد أن البعد والبنية الجدليين للقرآن قد اختفيا في التقليد الإسلامي اللاحق على التدوين، لأنه تقليد سكت عن النقاش الثقافي للعصور القديمة المتأخرة”.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 06/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *