يشكل الغش في الامتحانات المدرسية والجامعية والمهنية إحدى الاهتمامات الكبرى التي تشغل بال المسؤولين التربويين بمختلف درجات مسؤولياتهم الإدارية و التربوية , كما يؤرق ذلك بال المدرسين و جنود المراقبة التربوية المنتشرين والموزعين في كل فضاءات الإجراء الخاصة بالامتحانات والمباريات , أما الآباء والأمهات وأولياء أمور التلاميذ فيتخوفون أن يصيب لهيب الغش فلذات كبدهم, فينتهي مصيرهم إلى الضياع والمجهول أو دهاليز المحاكم .
عند حديثنا عن ظاهرة الغش لا نستحضر إلا مسطرة قانون التهديد والوعيد كما لا نوظف إلا لغة « ويل للمطففين ؟» لتتحرك بعد ذالك لجان التقصي و الإقصاء من الامتحان , ولا يدان أمامها إلا التلميذ « الغشاش « فتستغرب كيف أن كل الأطراف المشاركة والحاضرة في العملية التقويمية لا تستدعى للمداولة وإصدار الحكم ولا تستفسر فيما دون ووقع من تلك التقارير والمحاضر بعد ضبط التلميذ المتلبس «بالغش» .
الشخصية الضعيفة والوحيدة التي تدان بتهمة «الغش» ,هو التلميذ , هو وحده مصدر المتابعة والتلبس في كل المذكرات الوزارية والقوانين الزجرية المتعلقة بالغش في الامتحانات المدرسية, بل وحتى في الملتقيات والمنتديات التربوية الخاصة بموضوع التقويم والامتحانات لا نستحضر إلا ذالك التلميذ العاق للقانون , فهو مصدر الإزعاج, والعنف, والتحايل والغش واغرب ما في هذه المذكرات والقوانين أنها تذهب مباشرة إلى عقاب التلميذ بالاقتصاص والاقتطاع من حياته المدرسية من غير أن يتم التوجه إلى مكمن الداء أو على الأقل إقامة العدل في القصاص بما يحمي حق الدفاع وحق المثول أمام لجنة التقصي والبحث و تطبيق نفس المسطرة العقابية على الكل : كل الغشاشين .
جاءت المذكرة الوزارية رقم 99/3 الصادرة بتاريخ 08 مارس 1999 ووضعت اليد على الجرح لكنها عوض أن تشخص هذا الاعتلال التربوي , وتقترح سبلا تربوية, وأساليب العلاج والتوعية بمخاطر هذا الفيروس الفتاك المهدد لنظامنا التعليمي وقيمنا التربوية والاجتماعية والأخلاقية إلا أن المذكرة تحمل التلميذ وزر خطئه وطيشه حين يختار طريق « التحايل والخداع والغش « فتحيله على المجالس التأديبية وحتى المحاكم المختصة لزجر الغش ومعاقبة الغشاشين بعد أن يحرر المراقبون على الامتحانات تقارير ومحاضر يبعثون بها إلى المصالح الأكاديمية ليعرض التقرير المرفوع عن المتهم بالغش على المجلس التأديبي أو على السلطات القضائية في حالة جنحة أو جناية.
وآخر قانون صدر لمحاربة الغش ومعاقبة الغشاشين هو الظهير الشريف رقم 126/16/1الصادر في 25غشت 2016بتنفيد القانون رقم 13/02 المتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية وهو القانون الذي عرف بموضوع الغش ومجال التطبيق في بابه الأول, وعرض حالات التأديب في بابه الثاني وإحالة كل حالات الغش على اللجنة التأديبية و تراعي في قراراتها طبيعة الأفعال المرتكبة والمثبتة في المحاضر المحررة من قبل المشرفين على مركز الامتحان . أما الباب الثالث فخصص للعقوبات التي يمكن أن تصدر من السلطة القضائية استنادا إلى مجموعة القانون الجنائي .
رغم صدور هذين القانونين الزجريين وأعداد أخرى من المذكرات والمراسلات التحذيرية و التحسيسية إلا أن هذه الظاهرة ما تزال في نمو مطرد بل استفحل أمرها أكثر من أي وقت مضى بحيث تطورت تقنياتها وأدواتها وتفوقت على كل وسائل الرصد الموجودة بشرية كانت أو تقنية وتحدت كل الإجراءات الاحترازية وكل ألأدوات اللوجيستيكية المسخرة لمحاربة ظاهرة الغش , فبرع الهاوون والمحترفون في الغش في اختراق وسائل الرصد البشرية والتقنية وانظم إلى – جرمهم – وشغبهم أطراف آخرون يتحركون «فيسبوكيا» و أثيريا و» بلوتوتيا» و.. و.. إما تقربا من التلميذ أو انتقاما من الوضعية التعليمية . أما المتاجرون في بورصة الاستنساخ « المغشوش» فيقدمون لطالبي الخدمات المغشوشة قبل إجراء الامتحانات آخر الصيحات والموديلات من – الأحجية- البلاستيكية وغير البلاستيكية السهلة الاستعمال في كل الأمكنة والأوضاع , و أحيانا يأتي التشجيع من الآباء والأمهات والأولياء فينخرطون في مستنقع التنافس والسباق غير الشريف على حساب القيم والأخلاق وتكافؤ الفرص .
لذا ينبغي تغيير -أكثر ما يمكن- من مظاهر الزجر القمعي وجعل الامتحان (مناسبة للتنافس الشريف, والتحصيل العلمي المفيد , وتحفيز التلاميذ على العمل في شروط الشفافية والوعي حتى لا يشعر التلميذ بأنه محاصر و مهمش , ومنبوذ من طرف المجتمع , وذلك يؤدي في أكثر الأحيان إلى الانحراف والعنف في مظاهره المختلفة)
إن المتأمل للظاهرة سيدرك بسهولة أن أسباب انتشار ظاهرة الغش لا تعود فقط للتلميذ المشاكس بقدر ما تعود إلى أمور كثيرة يمكن إجمالها في :
التنشئة الاجتماعية :
فالمجتمع يمد التربية بكل ما يحدد منظورها وتوجهاتها, والتربية بدورها تسعى إلى ضمان استمرار هذا المجتمع من خلال تبليغ خطابه إلى الأجيال اللاحقة وان كان أن التربية أحيانا تنتج خطابا مغايرا أو مناقضا لخطاب المجتمع.
إن التلميذ يجد نفسه أمام نماذج اجتماعية – مغشوشة – وصلت إلى الرقي المادي والاجتماعي عن طريق الغش ضدا على القانون و الأخلاق, ولنا في أنواع الرشوة واستغلال النفوذ والسلطة والتسلط والمعاملات التجارية الربوية أكثر من أدلة حتى أصبحت موضوعات للتفاخر في الوسط العائلي فحملها معه إلى المؤسسة التربوية ويعمل على تمثلها أو استنساخها , مما زاد تنامي ظاهرة الغش كظاهرة اجتماعية .
الأهداف التربوية:
بقيت أنظمة التقويم دون أن تعرف تطورا نوعيا يغير من أساليبها وأدواتها وأهدافها إذ لا زالت تركز على الانجاز الشكلي وتخزين المعلومات وتستعمل وسائل غير ملائمة لأهدافها فتترك نصيبا كبيرا لعامل الحظ في نجاح التلاميذ ورسوبهم وتستعمل الامتحانات كوسيلة لإصدار أحكام نهائية ولا تستعمل قط للتغذية الراجعة وللمساعدة على تحسين عمليتي التعليم والتعلم ويرجع ذالك إلى هيمنة الاهتمام المؤسسي في عملية التقويم على حساب حاجات التكوين والتنمية
المحتويات و الطرق البيداغوجية:
فيما يتعلق بالمحتويات والطرق البيداغوجية فهي تشكو من هيمنة الطابع الأكاديمي أي غلبة الثقافة النظرية العامة على حساب الدراسات التقنية والمهنية والتي تلجها أعداد قليلة جدا من التلاميذ , أما الطرق البيداغوجية فيهيمن فيها الدرس الإلقائي والكتاب المدرسي وتعتمد على تلقين المعلومات أكثر من اعتمادها على تكوين طرق التفكير ومعالجة المشاكل ذالك أنها تركز في عملية التلقين على الوقائع وعلى البنيات المعرفية للمواد.
التقويم الأكاديمي :
منذ الشروع في تطبيق نظام الأكاديميات سنة 1987 تحول الامتحان إلى ضغط رهيب وعمل مرهق ,حيث سلسلة متواصلة من فروض المراقبة المستمرة واختبارات الامتحانات الموحدة الوطنية و الجهوية لا تتيح للمدرس أن يؤدي دوره التربوي على الوجه الأكمل, ولا تمكن التلميذ من استيعاب المواد التي يتلقاها بشكل تدريجي , فاللحاق بمحطات الامتحانات المتعددة يتطلب من المدرس الإسراع في انجاز المقررات وفق جدولة زمنية محددة دون مراعاة مستوى التلقي , ومن التلميذ اللجوء إلى التغيب أسابيع عديدة(مبررة بالشواهد الطبية أو غير مبررة ) للتحضير للامتحان , وكل ذالك فيه إهدار للوقت وإضاعة لفرص التكوين والتلقي التربوي السليم .
إن التقويم الأكاديمي ما يزال مكرسا لمهارات الاستذكار والاسترجاع فيلجا التلميذ إلى عمليات الاجترار والتكرار وفق نماذج مستنسخة مملة, أو يرغم على ممارسة التحايل والغش متخليا بذالك عن العلم والتربية والتكوين و الأخلاق قصد الحصول على أعلى النقط واكبر المعدلات لولوج المدارس العليا والجامعات التي تفرض معدلات مرتفعة للقبول .
الامتحانات .. الكابوس الذي يؤرق التلاميذ والأسر
ما يزال الامتحان مصدر خوف وتهديد ومحاكمة شخصية , حيث ما يزال هدفا في حد ذاته بالنسبة للتلاميذ وللآباء و الأسر والمؤسسة التربوية والمجتمع عامة. وهذا يجعلنا نطرح تساؤلات محرقة : هل الامتحان هو أكثر أولوية من تكوين التلميذ وتأهيله لسوق الشغل ؟ هل الامتحان هو مكافأة اجتماعية للمتفوق وعقاب شخصي للمتعثر؟ من هو الضحية في الامتحان : التلميذ – المؤسسة – الأسرة- النظام الاجتماعي والأخلاقي ؟ لماذا في الامتحان تحضر العلاقة الصدامية بين المدرس (القوي بسلطته ) و التلميذ الممتحن (الموجود في الوضعية الدنيا )؟ لماذا تزداد كوابيس الامتحانات و الأحلام المزعجة خلال هذه الفترة فتزيد في إضعاف شخصية التلميذ وتدفعه بالهروب من واقعه ومحيطه , بل تكون أحيانا هذه الكوابيس المزعجة أكثر سادية رغبة في تحطيم الآخر(المدرس – المؤسسة ) أو مقاومة محيطه الصادم ؟.
يعيش الممتحن أجواء الامتحان وهو تحت تأثير الضغط مع إحساسه بمخاطر الفشل . انه يكون في حالة اختلال أو غير متزن , يعيش عدم استقرار نفسي لشعوره بالقلق والتوتر الناتج عن تعرضه لضغوطات اجتماعية ونفسية وإحباط وخوف من الفشل .
إن الخوف من الفشل يزيد من التوتر والتعصب , كما أن العوامل الثقافية المتوارثة ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام ,,, كلها قد تساعد في تنامي وثيرة الخوف والقلق وكذلك التنشئة الاجتماعية وأساليب المكافأة والعقاب التي يتلقاها التلميذ المراهق في حياته إما من خلال : القوانين التربوية الزجرية أو قوانين السلطة الاجتماعية الأبوية والمؤسساتية.
إن العلاقات السيكو دينامية السوية بين (ألهو) و(الأنا ) و(الأنا الأعلى ) تهتز في حالة الشخصية الواقعة تحت سيطرة الضغط أو التعصب أو التوتر: فا (الأنا) هذه الشخصية الضعيفة التطور لدرجة انه يعجز عن الاستيعاب الناجح لمطالب (ألهو) و(الأنا الأعلى)ويكون ضعيفا جدا لدرجة انه لا يوائم بين دوافعه ومطالب (ألهو) بيركمان – bergmann (1994)
إن الصراع الذي يحدث بين (الأنا والانا الأعلى) أي بين تمثلاتهما الداخلية (الأب – الأستاذ – الجماعة -) يقود إلى ما يسمى بالصراع الاوديبي الذي يتميز بمشاعره المتضاربة (ازدواجية المشاعر) فالخوف من الفشل أو الإحباط أو الألم الذي يحدث خلال الصراع مع الآخر أو يحدث حين الفشل من الامتحان قد يتحول إلى عدوان أو يسبب الشعور بالكراهية تجاه الآخر (السلطة – ) كما أن هذه المشاعر تتعرض باستمرار إلى الكبت أو تتحول بسبب أن مصدر الخوف يكون قويا جدا وان العدوان ضده سيجلب العقاب آو قد يكون بسبب أن الشخص ينظر إليه باعتباره صاحب انفعالات متضاربة (خوفه من والده على الرغم من حبه له ) الدكتور احمد زايد .
عند اقتراب الامتحانات تزداد معاناة التلاميذ من كثرة القلق و الاضطراب و قلة التركيز الناجم عن الخوف من الفشل مع ارتفاع درجة الإعياء والإنهاك إلى مستوى الانهيار النفسي والجسمي والذهني , فالتلميذ ينهك كل قواه الذهنية والنفسية والعقلية والجسمية خلال المراجعة الشاملة بشكل فردي أو جماعي وفي فضاءات مختلفة (الشوارع –المقاهي – المقابر – البيوت – الحدائق – القاعات -….. )
فتزداد وتيرة الخوف والقلق والفزع والكوابيس المزعجة عند التلميذ والطالب الممتحن , أما الآباء و الأمهات وأولياء الأمور فيعانون من ضغوطات اجتماعية ونفسية , ومن تخوفات لا تمكنهم من مساعدة فلذات أكبادهم من التخفيف عليهم من هذه الكوابيس الامتحانية .
وهكذا يضاعف نظام التقويم الأكاديمي من معاناة التلاميذ وحتى الأساتذة والأطر الإدارية التربوية والآباء والأمهات وتتكرر هذه المعاناة في كل سنة خلال فترة الامتحانات فيزداد الإرهاب النفسي والقلق الذي يعيشه التلميذ من جراء هاجس البكالوريا – مثلا – و الذي ما يزال شبحا مخيفا وهاجسا مسيطرا على النشاط الدراسي للتلميذ .
إن التقويم التربوي عليه أن يعمل على قياس مدى التقدم الحاصل في اكتساب المعارف والمهارات اللازمة لموقف تعليمي معين مع جلب الفائدة والإمتاع دون توتر أو معاناة من الأجواء القمعية , لان تامين الجو النفسي الملائم يزيح الأحلام المزعجة والكوابيس المرعبة ويخفف الضغوطات النفسية عن الممتحن ويقلل من تخوفاته وتوتراته .
فأهلا بالامتحان المجلوب للفائدة والإمتاع ولا أهلا ولا سهلا بالامتحان المجلوب لأجواء الكآبة و التأزم .
* مدير ثانوية بالدشيرة الجهادية