استيقظ على وقع سعاله القوي، ولولا سعاله هذا، لظن أنه ميت، ذلك أن التاريخ البارز أمام عينيه من شاشة هاتفه المضيئة يشير إلى الرابع من شهر ماي، في حين أنه وضع رأسه على الوسادة في التاسعة ليلا قبل ثلاثة أيام، أما ما بين نومه واستيقاظه فلا يتذكر شيئا. لا جرم أنه تساءل حول هاتفه الذي لم يفقد من شحن بطاريته سوى القليل، وحول بطنه التي لا تنبئه أنه جائع رغم معرفته الضليعة بكونها أكولة وملحاحة في الأكل.
اختتم سعاله بنحنحة خفيفة صعد معها بلغم إلى فمه فتفله في المنديل الورقي المتربع على المنضدة المجاورة للسرير. جال ببصره في أرجاء الغرفة.
لا شيء يربطه بهذا المكان سوى تواجده المستجد فيه، فهو لم يسبق أن حل هنا، أو هكذا يعتقد.
خلّف على السرير بقعة مقعرة وولج بجسده الضخم إلى الحمام، ألقى بثيابه عند الباب وعدل تدفق الماء على الدرجة الدافئة وضم يديه إلى صدره تاركا للماء حرية التصرف، انسكب الماء على جسده وتخلل إبطيه وما بين قدميه. أحس بالانتعاش، سكب بعض الشامبو في يده ودلك شعره، تصاعد البخار حاملا إلى خياشيمه رائحة النعناع، أقحم أصابعه في خصلاته المتشابكة، ثم فرك لحيته، فانشطفت الرغوة عن جسده، تابع تسربها بين ثقوب البالوعة إلى أن اختفت.
***
«أين أنا؟»
أحاول أن أحشو هذا السؤال في رأسه، أن أضعه في فمه، لكنه يأبى، كأنما اكتسب وعيا خاصا خارج ما أفرضه، ما هذا؟ هل أنا أمام بطل متمرد؟ أم أنني فقدت زمام السيطرة؟ فقدت قوة العلم بكل شيء؟
كل تصرفاته تبدو اعتيادية، رغم أنني عهدته -قبل ثلاثة أيام- فقيرا يستجدي لقمة تقيم صلبه.
إن ما يحدث يصيب سردي بلوثة الشك، لأني بصفتي ساردا عليما (بحسب عقدي مع الكاتب) يجب أن أحيط علما بما للبطل وما عليه وما بداخله وما بخارجه، إلا أن خللا قد تسلل أثناء إجازتي الأخيرة، وكأني بتوقفي عن السرد سلمت المهمة -دون وعيي- إلى سارد آخر، سارد خفي عني، سارد تلاعب بخيوط الحكاية ليشتت علمي ويفقدني الثقة بسردي. أحس أنني مطالب بالتعديل في افتتاحية القصة، لأن جهل البطل بالمكان والزمان غير مؤكد، ربما هو جهلي فقط، لكن الأمر ليس بيدي، ثم إني، يا للكارثة ! كيف غاب عني أن الرجل كان هزيلا جدا؟ هل يمكن أن يكتسب ضخامته خلال ثلاثة أيام؟
تركت الرجل لاستحمامه ووقفت أفكر في معضلتي، وكم أود لو أن القارئ يشاركني هم السؤال، وينبري بأدواته العقلانية وغير العقلانية للتحري معي. أفكر في أن غيابي لهذه الأيام قد ضيع عليّ تطورات الحكاية التي لم تتوقف كما افترضتُ، وما أحسبها استمرت لحدود أيام إجازتي، فأيام السرد ليست نفسها أيام الحكاية، ولعل هذا مربط الفرس.
أجدني مضطرا إلى تأجيل التفكير ومواصلة السرد كي لا تضيع مني الجزئيات المتبقية من القصة، وسأحاول خلالها أن أقدم ما استطعت من معلومات كي تساعد القارئ على فك عقد الأحجية.
***
الغرفة مؤثثة بشكل أنيق، سرير وثير يدعو المستلقي عليه إلى الانغماس في أحلامه، وأريكة رمادية فاخرة تحيط بطاولة زجاجية صقيلة عليها مطفأة تبغ تحتوي رمادا وأعقاب سجائر.
***
أعقاب سجائر؟ متى بدأ يدخن؟
***
تواصل تدفق الماء لدقائق تجاوزت الخمس عشرة، طال استحمامه.
ذراعاه ممدودتان، كفاه على رخام الجدار، رأسه منكس، جسمه يرتعش والماء ينساب فوقه.
رفع رأسه فدفع الماءُ شعرات تائهة عن وجهه، ليكشف عن ندبة تشق جبينه. أمنع عني كل تساؤل حول ندبته وأتابع تساؤلاته: «ما الذي دهاني حتى قبلت؟ هاقد شبعت البطن وجاع الضمير». أغلقَ الصنبور وجفف جسده ثم ارتدى ملابسه.
ظل جسده يرتعش رغم الجو الدافئ في الغرفة، يقبض كفه اليمنى ويبسطها دافعا الهواجس المتكالبة على ذهنه. توقف ناظرا في زجاج الطاولة، وبحركتين خاطفتين نظر ذات اليمين وذات الشمال برعب باد على محياه، أحس أن أحدا يراقبه، اقترب من النافذة وكشف جزءا منها متلصصا على الخارج، الشارع فارغ إلا من سيارتين سوداوين مركونتين على جنبه. انتقل إلى النافذة ذات الشرفة حيث يحب تناول فطوره.
***
توقفوا، توقفوا، توقفوا… كيف أعلم أنه اعتاد تناول فطوره على الشرفة وأنا الجاهل بالتقلبات التي طالت أحواله، فلا أستطيع ملء الفجوة الفاصلة بين فقره وغناه، بين كرطونة الزقاق وغرفة العمارة؟ من أي ثغرة تتسرب هذه الأشياء إلى سردي؟ من أي ثغرة؟ أعلم أني أثقل عليك أيها القارئ، لكني مضطر، لأن إعصارا مدمرا يبلبل دماغي، وكأن نفس الرجل القلقة من المراقبة سكنتني، أنا لامناص لي من السرد، لكني أرغب في معرفة الحقيقة، سآخذ نفسا عميقا، وسأسرد على نفَس واحد، لهذا، أرجوك مرة أخرى، سجل عندك كل مايبدو غريبا وغير منطقي، وحاول أن تربط بين خيوط معضلتي كي تفكها، سأحاول أن أعود إليك -أيها القارئ -كي تنبئني برأيك وترشدني بنصحك، فأرجو أن تساعدني إذا ما أحسست أن أحابيل القصة تتلوى عليّ وتجرني نحو ضفاف أجهلها.
***
فتح الثلاجة وأخرج زجاجة الحليب، مدّ يده نحو درج الأكواب، سحبه، لكن يده ظلت معلقة في الهواء لثوان، كان ينظر إلى مسدس محشور بين الأكواب، تلمسَه، ثم أخرج كوبا أبيض وأغلق الدرج بسرعة. تصاعدت نبضاته إلى رأسه مرفوقة بألم متواصل؛ لم يكن سؤاله عن الذي وضع المسدس هناك، بل عن الذي تلقى رصاصة من هذا المسدس. تذكر حين وقف عليه الرجل الأسمر الطويل، مد إليه ظرفين، أحدهما يحوي المسدس، والآخر أوراقا نقدية بلغت عشرة آلاف درهم، ظل خيال المال يتراقص في ذهنه لأيام: «ماذا سيحدث إن ارتكبت جريمة واحدة؟ فحتى الرجل المطلوب للقتل قد بلغ من العمر عتيا؛ فلا بأس إن غادر الحياة من بوابة يديّ».
أفرغَ زجاجة الحليب في جوفه بينما الكوب الفارغ في يسراه، وضع الزجاجة على الطاولة، نظر يمنة ويسرة، نظر إلى السقف، توزعت نظراته في كل الاتجاهات باضطراب ظاهر؛ لازال يحس بالمراقبة. نهض من الأريكة بحركة خاطفة فقذف بالكوب نحو باب الحمام، فتشظت من ارتطامها بالهامش الرخامي. هلع نحو الدرج وأخرج المسدس، أسند ظهره على المجلى ومد يديه القابضتين على المسدس نحو الأمام: «اخرج ياهذا أيا كنت إن أردت النجاة بنفسك»، لم يظهر أحد أمام كلماته المطوحة في الفراغ.
تصبب العرق غزيرا على جسده فتبلل قميصه الخفيف، الغرفة هادئة إلا من زفراته. تقدمَ ببطء. دفع باب الحمام بقوة ووجه المسدس داخله، لا أحد، أَولى الحمام ظهره ،تقدم ببطء، نحو النافذة، اصطدم تقدمه بألم فظيع اخترق قدمه اليمنى. انحنى بثقله متوجعا، تأكد من خلو الأرض من الشظايا ثم جلس، وأخرج الشظية البيضاء الملطخة بالدم من قدمه. ضغط على الجرح بيديه ولعن بدانته المعيقة، لعن جسده، هذا الجسد، الذي كان مبعثا لأمانه من الشبهات، فمن سيعتقد أن رجلا سمينا قد يكون قاتلا مأجورا؟
ظل على حاله لدقائق؛ يداه قابضتان على قدمه النازفة، الدم يتحرر من عبودية الجسد نحو حرية الأرض، المسدس بين فخذيه، الدموع تطفر من عينيه السارحتين في المسدس، وفكره يعرض صورا متتالية لجرائم ارتكبها منذ أول يوم استلم فيه الظرفين.
فوهة المسدس في فمه، عيناه مغمضتان، أراد التحرر من كل شيء، من وجوده، من حياته المشيدة على أرواح الآخرين، لكنه كان يقول، هم من اختاروا، كان مرتاح البال، لأنهم هم، من اختاروا، بعد أن بلغوا أعمارا أحسوا فيها بتفاهة وجودهم، اختاروا أن يموتوا على يديه، وهو اختار أن يحيا على أرواحهم.
ضغط على الزناد: «شلاق»؛ تلاشى الصوت في الجو. «شلاق» للمرة الثانية، «شلاق شلاق شلاق». طوّح بالمسدس بعيدا عنه، صرخ فيه: «طالما لبيتَ حاجات الآخرين في الموت، وحين احتجتك أنا صاحبك ورفيق دربك، تأبى أن تلبي رغبتي»، تعالى نشيجه وصرخ صراخا عاليا، لكنه انتفض لإحساسه بالحركة الداخلية مجددا، عاد إحساسه بالمراقبة يسيطر عليه، رغب في الموت نعم، لكنه لا يرغب أن يموت على أياد غريبة، يريد أن يختار موته مثلما اختاره زبائنه.
وقف مخدَّرا بتوجسه، دافعا كتلته الهلامية متخبطا مثل خذروف في لحظات دورانه الأخيرة، قذف بمطفأة السجائر نحو الحائط، قلب الطاولة الزجاجية، شخصت عيناه كأنما تريدان مغادرة المحجرين، وفي لحظة خاطفة، اندفع نحو الشرفة، وهوى.
***
ألم تنته مهمتي؟
لا زلت أنظر إلى الفوضى المخلَّفة في الغرفة، إلى بركة الدم المتخثر، والرطوبة العالقة بجدران الحمام، أنظر دون القدرة على متابعة سرد القصة؛ مما يعني أنها انتهت بسقوط الرجل، لكنني هنا، كما لو أنني مكبل داخلها. أسمع هسهسات وهمسات، يتعالى وقعها، يشتغل منبهي الداخلي المنذر بالخطر، يتشتت ذهني، أبحث عن المسدس الذي أعلم أنني كنت أعلم أين موضعه، إلا أن تفاصيل سردي بدأت في التلاشي من ذاكرتي، لم أعد أرى سوى الشرفة بينما الأصوات صارت أكثر وضوحا: «هذه هي الغرفة المقصودة، اقتحموها». ماذا لو وجدوني هنا واعتقدوا أنني ذاك الذي هوى، عليّ أن أنفذ بجلدي، علي أن أفر. أدفع نفسي نحو الشرفة، وأقفز.
***
ملفات شرطة السرد
قضية: المندس
مقتطفات من تقارير مختلفة ]بتصرف أدبي[
– تقرير1:
إن توافد شكايات الساردين حول انفلات خيوط السرد من أياديهم، وفقدانهم لمواقعهم السردية داخل نصوصهم، أفضى بنا إلى تخلينا عن الاحتمال الأول القاضي بأنهم يتنصلون من مهامهم الموكلة إليهم بتوكيل غيرهم مقابل أثمنة بخسة.
– تقرير2:
الفخ المنصوب لهذا السارد المندس قد بدأ يؤتي مفعوله، حيث لمسنا تخلخلا في قصة المشرد التي أوكلناها لشرطيّ متخف استطاع ببراعته وحنكته المهنية أن يحدد عددا من الثغرات حيث يمكن لأي سارد التسلل منها واقتناص فعل السرد.
– تقرير3:
تعمدنا نسج فضاء قصة القاتل المأجور حتى نمنع هروب المندس إذا ما تسلل لسرد القصة، وقد استطاع شرطينا المحنك أن يحول مخارج القصة لتصب جميعا داخل سجوننا في البعد السردي، وبهذا، عندما زرعنا الأصوات الخارجية مثيرين رعبه كنا متيقنين أنه لن يفر إلا من أحد ثلاثة أبواب: درج المنضدة، البالوعة، الشرفة.
– تقرير 4:
لازال ينكر التهم الموجهة إليه، يقول أن لا دخل له بأمر تواجده في القصص التي واجهناه بها، وأنه لم يكن المسؤول عن تغير سرد أغلبها، وأضاف بأنه أحس بأمور غير عادية أثناء سروده، وأنها شاهدة على براءته لأنه يكسر خلالها الجدار الرابع، لذلك يطالب بأن نجعل القارئ شاهدا في القضية.
– تقرير 5:
بحثنا عن عقده المبرم مع الكاتب المذكور أثناء الاستنطاق، لكننا لم نجد عقدا يحمل اسم الكاتب مع هذا السارد، قد يكون كاتبا باسم مستعار، وقد تكون مجرد كذبة من السارد المندس.
ملاحظة:
لاتزال القضية مفتوحة لأجل التحقيق المعمق.