«الفتّان» بأسرار المحبة

لن أتحدث اليوم عن سعيد عاهد الشاعر والمترجم والصحافي، فأغلبنا يعرف ما راكمه هذا السعيد بصمته وحكمته، من كتابات لا تشذ عن الانتصار للقيم وللجمال وللحقيقة.
سأحكي عن سعيد الطفل ذي الواحد والستين عاما، الذي تمردت فراشاته على حدائق مدينة الزهور وحلقت أسرابا نحو عشها بمازاغان.
من لا يعرف ابن مازغان، العشق الأول والأخير، مسقط الرأس والهوى، لا يعرف أن الشعر مدرسة قلقه، القلق الذي يجعله يكتب ويمحو، يشذب وينقح، غير معني بالظهور السريع الذي لا يلبث أن ينفجر مثل فقاعات الهواء.
هو «الفتان» بأسرار المحبة… يربي المحبة في أعشاش الصداقات الشاهقة، ولا يهمه أن تحلق بعيدا بعد أن تصير لها أجنحة وأشرعة. المهم أن يظل بنفس الحدب يحنو ويربت على قلبه الضاحك رغم الوجع.
يكتب سعيد عاهد ، هذا الولد الذي يحيا بذاكرة متشظية، يكتب «بسؤال وهَمّ وجوديين» من أجل بلوغ لذة المعنى، في الشعر كما في الترجمة كما في الصحافة…يحفر عميقا في النص ليستغور ذاته ومعها ذواتنا، فتتكشف روحه وتشف فيتبدى سعيد عاهد الإنسان: القوي بهشاشته، البليغ بصمته.
عرفته في نهاية التسعينات زميلا صموتا بلا عداوات، يعبئ كلماته في قارورة محكمة الإغلاق ربما لغد ما، لا يعرفه إلا هو.. كأنه يُنضج اللحظات والمواقف على مهل لتليق برجل خبر الحياة من باب السياسة الى جرح الكينونة قبل أن يوقن بكيمياء الاستحالة…أو لكأنه غير معني بكل هذا الضجيج الذي اسمه: الحياة.
وحينما التحقت للاشتغال تحت إمرته، عفوا معه، أسسنا دولة سميناها الجمهورية الديمقراطية للثقافة. ولو أنني كنت أغيظه دائما بلقب السيد الرئيس. ولأننا كنا اثنين فقط، فقد كان هو الرئيس وأنا الشعب… ولأننا لم نجد أرضا، فقد رسمنا أرضا من ورق.
ولأننا «توحدنا الهشاشة»، كما قال الشاعر محمود درويش، فقد اختار عند اقتراب تقاعده، أن يُقطّر الغياب في كأس الحضور، كي لا يحس به زملاؤه ومحبوه في هيئة التحرير، فبدأ في تصريف عطله القديمة، قطرة قطرة، الى أن غاب عن 33 زنقة الأمير عبد القادر، وكنت لحظتها أدرك أنه يخضعنا لتمرين قاس في الغياب، حتى لأذكر أنه لم يودع أحدا ولم يوصني خيرا بالدولة.
اليوم أفتقدك أيها السيد الرئيس، وأفتقد جوابك الدائم: الشيطانة.
أيها الرئيس، أعلن اليوم وبكامل إرادتي أنني تعلمت بعدك كيف أعيش ديكتاتوريتي المطلقة بعد أن أصبحت» أنا الشعب وأنا الرئيس» لكنني مازلت محافظة على الأرض التي يزرعها كل أحبائنا الحاضرين معنا اليوم، أحباؤنا في محراب الحرف والمعنى ممن يؤمنون بأن الصوت فقط هو ما يخلق الصدى، ومن أجل هذا الصدى يحضرون اليوم ليشاركوك هذه اللحظة الممميزة. فهنيئا لك صديقي بكل هذا الحب. هنيئا لك لأنك تستحق الحياة.

قدمت هذه الشهادة في حفل تكريم الصحفي سعيد عاهد من طرف الرابطة المغربية للصحافة الثقافية يوم الجمعة 20 دجنبر الجراي بالمكتبة الوطنية.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 27/12/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *