تعيش إفريقيا مرحلة تحول اقتصادي بارزة، حيث تسعى للتحرر من قيود الحقبة الاستعمارية القديمة وإعادة صياغة موقعها على الخريطة الاقتصادية العالمية، وفي هذا السياق تتجه القارة نحو تعزيز شراكاتها مع قوى اقتصادية صاعدة، وعلى رأسها الصين، التي أصبحت فاعلا رئيسيا في دعم التنمية الإفريقية من خلال استثمارات ضخمة تشمل نقل التكنولوجيا، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز القدرات الإنتاجية، ومع ذلك، فإن هذا التعاون، رغم ما يحمله من فرص استراتيجية لإعادة هيكلة الاقتصادات الإفريقية، يثير تساؤلات جوهرية حول مدى توازن العلاقة بين الطرفين.
هل تشكل هذه الشراكة رافعة حقيقية لتحقيق التنمية المستدامة وتجاوز التحديات الهيكلية التي تواجه القارة؟ أم أنها قد تؤدي إلى أشكال جديدة من الاعتماد الاقتصادي والسياسي، مما يهدد بعرقلة مسار تحقيق استقلالية إفريقيا الاقتصادية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب قراءة متأنية لطبيعة هذه الشراكة، وإعادة تقييم أهدافها وتأثيراتها بعيدة المدى على مستقبل القارة.
فرص التعاون الإفريقي-الصيني
منذ مطلع الألفية الجديدة، أصبحت الصين شريكا اقتصاديا استراتيجيا لإفريقيا، حيث شهدت العلاقات بين الجانبين تطورا كبيرا تمثل في تضاعف حجم التجارة إلى مستويات غير مسبوقة، تتجاوز 300 ملياردولار ،حيث يعكس هذا الرقم تقدم الصين على العديد من الشركاء التقليديين للقارة، مثل أوروبا وأمريكا، ما يبرز التحول الكبير في طبيعة علاقات إفريقيا الاقتصادية، وقد وفرت هذه الشراكة فرصا اقتصادية هائلة للدول الإفريقية، جعلتها محط أنظار العديد من صناع القرار والقادة.
تلعب الاستثمارات الصينية دورا محوريا في تطوير البنية التحتية الإفريقية، وهي إحدى أهم القضايا التي تعيق تحقيق التنمية المستدامة في القارة، حيث تعتبر الصين من أبرز الممولين لمشاريع كبرى تشمل الطرق، السكك الحديدية، والموانئ، والتي تمثل شريانا أساسيا لتعزيز الحركة الاقتصادية والتجارية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك مشروع خط السكك الحديدية بين نيروبي ومومباسا في كينيا، والذي يعتبر نموذجا للربط الإقليمي وتعزيز التجارة، بالإضافة إلى مشروع ميناء لامو الذي يعد جزءا من مبادرة «الحزام والطريق»، والتي تهدف إلى ربط الأسواق الإفريقية بالأسواق العالمية عبر شبكات نقل وتجهيزات لوجستية حديثة.
بالإضافة إلى ذلك تتيح الشراكة مع الصين فرصة استثنائية لنقل التكنولوجيا وتطوير الصناعات المحلية في الدول الإفريقية، فبفضل التكنولوجيا الصينية ذات التكلفة المنخفضة نسبيا مقارنة بالدول الغربية، تمكنت العديد من الدول من تعزيز قدراتها الإنتاجية في قطاعات استراتيجية، مثل التصنيع والطاقة المتجددة، فهذه العملية لا تسهم فقط في تحسين الإنتاجية المحلية، بل أيضا في توفير فرص عمل جديدة وتعزيز مهارات القوى العاملة الإفريقية، مما يمهد الطريق لبناء اقتصاد أكثر تنوعا واعتمادا على الذات.
إضافة إلى ذلك، تسهم الاستثمارات الصينية بشكل مباشر في تعزيز التكامل الإقليمي بين دول القارة الإفريقية، فمعظم مشاريع البنية التحتية التي تمولها الصين تهدف إلى تحسين الربط بين الدول، مما يخلق بيئة مواتية لتعزيز التجارة البينية الإفريقية التي لا تزال ضعيفة نسبيا، حيث تمثل فقط حوالي 15-18% من إجمالي التجارة الإفريقية، فهذا التكامل الإقليمي هو شرط أساسي لتحقيق أهداف منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (ZECLAF)، والتي تعد خطوة حاسمة نحو استقلالية القارة الاقتصادية.
وفي الوقت نفسه، يمثل التعاون مع الصين فرصة استراتيجية لتنويع الشراكات الاقتصادية للدول الإفريقية بعيدا عن الهيمنة التقليدية لشركاء مثل أوروبا والولايات المتحدة، فبدلا من الاعتماد الكامل على هذه القوى التقليدية، تتيح الشراكة مع الصين مساحة للدول الإفريقية لإعادة صياغة علاقاتها الاقتصادية وفقا لأولوياتها التنموية، حيث يمنح هذا التنويع في الشراكات الدول الإفريقية قدرة أكبر على التفاوض، ويعزز استقلاليتها الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية.
ومع ذلك، تظل هذه الشراكة مع الصين محور نقاش واسع حول مدى استدامتها وطبيعة التوازن فيها، فبينما يرى البعض أنها تمثل نموذجًا لشراكة رابح-رابح، يحذر آخرون من أنها قد تفتح الباب أمام أشكال جديدة من الاعتماد، خاصة في ظل ارتفاع مستويات الديون لبعض الدول الإفريقية نتيجة المشاريع الممولة من الصين، لذلك فإن التحدي الأكبر أمام إفريقيا يكمن في كيفية إدارة هذه العلاقة بما يحقق مصالحها طويلة الأمد، ويضمن استخدامها كوسيلة لتعزيز تنميتها المستدامة.
مخاطر الاعتماد على الشراكة مع الصين
رغم الفرص الكبيرة التي يتيحها التعاون مع الصين لإفريقيا، إلا أن هذا التعاون يحمل في طياته العديد من المخاطر التي قد تؤثر على استدامة التنمية في القارة وتضعها أمام تحديات جديدة، وإحدى أبرز هذه المخاطر تتمثل في أزمة الديون المتزايدة، فلقد أصبحت الصين أحد أكبر المقرضين للدول الإفريقية، حيث تمثل القروض الصينية حوالي 20% من إجمالي ديون القارة، بقيمة إجمالية تصل إلى 696 مليار دولار منذ عام 2000، ورغم أن هذه القروض غالبا ما تقدم بشروط ميسرة مقارنة بالمصادر التقليدية، إلا أن معدلات الفائدة المرتفعة نسبيا وفترات السداد القصيرة قد تزيد من الأعباء المالية على الدول المدينة، مما يهدد استقرارها المالي ويزيد من احتمالية وقوعها في فخ الديون.
بالإضافة إلى ذلك، يثير التعاون مع الصين مخاوف جدية بشأن فقدان الدول الإفريقية لجزء من سيادتها الاقتصادية، ففي كثير من الحالات تكون القروض الصينية مشروطة بمنح شركات صينية حقوق تنفيذ المشاريع الممولة أو بامتيازات طويلة الأمد لاستغلال الموارد الطبيعية للدول المدينة، حيث يعزز هذا الوضع التبعية الاقتصادية، مما يجعل الدول الإفريقية معتمدة بشكل كبير على الصين ليس فقط في تمويل مشاريعها، بل أيضا في تشغيلها وإدارتها، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الشراكة تخدم مصلحة القارة بشكل حقيقي أم أنها تعيد صياغة العلاقات الاقتصادية وفق أنماط جديدة من الهيمنة.
من جهة أخرى، تطرح تساؤلات حول مدى استفادة الدول الإفريقية من الشراكة مع الصين فيما يتعلق بنقل المهارات والتكنولوجيا، فرغم الأهمية التي تمثلها هذه المشاريع التنموية، إلا أن الشركات الصينية المنفذة غالبا ما تعتمد بشكل كبير على العمالة والخبرات الصينية بدلا من تأهيل الكفاءات المحلية وتوفير فرص عمل لليد العاملة الإفريقية، وهو ما يحد من قدرة الدول الإفريقية على بناء قاعدة معرفية وتقنية محلية تسهم في تعزيز استدامة المشاريع وتطوير اقتصادها على المدى الطويل.
كما أن غياب الشفافية في العديد من الاتفاقيات التي تعقدها الصين مع الدول الإفريقية يثير قلقا متزايدا، فمعظم هذه الاتفاقيات تتم بعيدا عن أعين الرقابة العامة أو النقاش المفتوح، مما يجعل من الصعب تقييم الأثر الحقيقي لهذه القروض والاستثمارات على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أن غياب الشفافية يضعف من قدرة المجتمعات الإفريقية على محاسبة حكوماتها بشأن إدارة هذه الشراكات وضمان أن توظف بما يخدم المصالح الوطنية
نماذج إفريقية للتعاون مع الصين:
فرص ودروس مستفادة
تمثل تجارب كينيا، إثيوبيا، وأنغولا نماذج متنوعة لشراكة الدول الإفريقية مع الصين، حيث تسلط الضوء على الفرص والتحديات المرتبطة بهذا التعاون، في كينيا يعد مشروع خط السكك الحديدية الرابط بين نيروبي ومومباسا، الذي مولته الصين بتكلفة تصل إلى 3.6 مليارات دولار، مثالا بارزا للاستثمارات الصينية في البنية التحتية الإفريقية، حيث يعتبر هذا المشروع شريانا حيويا لتحسين الربط الإقليمي وتنشيط التجارة الداخلية والخارجية، إلا أنه أثار جدلا واسعا بسبب التكاليف الباهظة المرتبطة به، فالديون الكبيرة التي تكبدتها كينيا لتمويل هذا المشروع وضعت عبئا إضافيا على ميزانيتها العامة، مما أثر على قدرتها على السداد دون التأثير على استقرارها المالي.
أما في إثيوبيا، فتظهر شراكتها مع الصين جانبا أكثر تنوعا من التعاون الاقتصادي، فقد استفادت البلاد من استثمارات صينية كبيرة شملت إنشاء المناطق الصناعية وتطوير شبكات النقل والطاقة، ما ساهم في تعزيز مكانة إثيوبيا كأحد المراكز الصناعية الصاعدة في القارة، ورغم ذلك فإن تراكم الديون يشكل تحديا حقيقيا أمام أديس أبابا، حيث إن زيادة الاعتماد على القروض الصينية قد يهدد استقرار اقتصادها على المدى البعيد، خاصة في ظل التحديات السياسية والاقتصادية الداخلية التي تواجهها.
في المقابل، تقدم تجربة أنغولا منظورا مختلفا للشراكة مع الصين، فبعد سنوات من الحرب الأهلية، لجأت أنغولا إلى القروض الصينية لإعادة بناء بنيتها التحتية المدمرة، وشملت هذه الاستثمارات مشاريع في مجالات الطاقة، النقل، والإسكان، إلا أن هذه القروض جاءت بشروط صارمة، حيث تعتمد أنغولا على صادرات النفط كضمان للقروض الصينية، ورغم أن هذه العلاقة سمحت لانغولا بالوصول إلى تمويل سريع ومباشر، إلا أنها جعلت اقتصاد البلاد عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية، ففي حالة انخفاض الأسعار، تجد أنغولا نفسها أمام صعوبة في الوفاء بالتزاماتها المالية، مما يهدد بزيادة اعتمادها الاقتصادي على الصين.
تبرز هذه الأمثلة الحاجة إلى إدارة جديدة للشراكة مع الصين، بما يضمن تحقيق التوازن بين الاستفادة من الاستثمارات الصينية والحد من المخاطر المرتبطة بالديون والتبعية الاقتصادية، وهو ما يتطلب من الدول الإفريقية تبني استراتيجيات مالية وسياسات تنموية تضمن استدامة المشاريع وتعظيم فوائدها على المدى الطويل، مع السعي لتحقيق استقلالية أكبر في قراراتها الاقتصادية.
إشكاليات التعاون الإفريقي-الصيني
يثير التعاون مع الصين مجموعة من الإشكاليات المعقدة التي تتعلق بطبيعة العلاقة بين الطرفين ومدى استفادة الدول الإفريقية منها على المدى الطويل، أول هذه الإشكاليات تتمثل في غياب استراتيجيات تفاوضية فعالة لدى العديد من الدول الإفريقية، مما يضعها في موقف تفاوضي ضعيف عند صياغة الاتفاقيات الثنائية، فغالبا ما تبرم هذه الاتفاقيات بشروط تميل لصالح الصين، نتيجة التفوق الاقتصادي والسياسي الذي تمتلكه، مقابل هشاشة المنطق التفاوضي والبنية المؤسساتية لدى عدد من الدول الإفريقية، حيث يصبح من الصعب على الدول الإفريقية في ظل هذا الوضع تأمين مصالحها الوطنية بشكل كامل، أو فرض شروط تضمن تحقيق توازن عادل في العلاقات الثنائية.
إلى جانب ذلك، يرجع ضعف الاستفادة من الاستثمارات الصينية إلى غياب رؤية تنموية شاملة لدى العديد من الدول الإفريقية، فبدلا من توظيف هذه الاستثمارات ضمن خطط تنموية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي، وتطوير القطاعات الحيوية، وتحقيق التكامل الاقتصادي، يتم في كثير من الأحيان استثمارها في مشاريع فردية أو مجزأة لا تساهم بشكل فعال في معالجة التحديات الهيكلية التي تواجه اقتصادات القارة..
إشكالية أخرى بارزة ترتبط بالجوانب البيئية والاجتماعية للتعاون مع الصين، فعلى الرغم من أن الاستثمارات الصينية ساهمت في تطوير البنية التحتية وتحسين شبكات النقل والطاقة في القارة، إلا أن بعض هذه المشاريع تم تصميمها وتنفيذها مع التركيز الأساسي على استغلال الموارد الطبيعية دون مراعاة كافية للآثار البيئية والاجتماعية لهذه الأنشطة، فعلى سبيل المثال تؤدي أنشطة التعدين واسعة النطاق المدعومة بشركات صينية إلى استنزاف الموارد الطبيعية وتدهور النظم البيئية المحلية، كما أن عمليات إزالة الغابات وبناء السدود الكبرى غالبا ما تترك آثارا سلبية على المجتمعات المحلية، مثل نزوح السكان، وتدمير مصادر رزقهم التقليدية، وتعريضهم لمخاطر بيئية، مثل التلوث ونقص المياه.
ومن زاوية أخرى، تثير هذه الإشكاليات تساؤلات حول قدرة الدول الإفريقية على فرض معايير صارمة لضمان التزام الصين بمبادئ التنمية المستدامة، ففي غياب قوانين بيئية قوية وآليات رقابة فعالة، تجد العديد من الدول نفسها عاجزة عن إلزام الشركات الصينية بمعايير حماية البيئة أو تحقيق فوائد اجتماعية أوسع من مشاريعها، حيث يفتح هذا الوضع المجال أمام ممارسات استغلالية تعيق تحقيق التنمية المستدامة وتؤدي إلى استنزاف موارد القارة بدلا من استثمارها بشكل يعود بالنفع على شعوبها.
نحو نموذج جديد للتعاون المتوازن
لبناء شراكة اقتصادية مع الصين وتجنب الوقوع في فخ التبعية الاقتصادية، تحتاج الدول الإفريقية إلى إعادة صياغة نموذج تعاونها مع الصين على أسس أكثر توازنا واستدامة، وهو ما يتطلب اتباع نهج استراتيجي يعزز من قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة واستقلالية قراراتها الاقتصادية.
أولا، تعزيز الشفافية يمثل الخطوة الأساسية لضمان أن تكون اتفاقيات القروض والاستثمارات في مصلحة الشعوب الإفريقية، حيث ينبغي إخضاع هذه الاتفاقيات للرقابة العامة، مع إشراك المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية في صياغتها ومراجعتها، فهذا النهج لن يعزز فقط الثقة في التعاون الدولي، بل سيضمن أيضا تفادي أي قرارات تتخذ بمعزل عن المصلحة العامة، فالشفافية هي الضامن الأول لتمكين المواطنين من متابعة كيفية إدارة مواردهم ومستقبلهم الاقتصادي.
ثانيا، التركيز على نقل التكنولوجيا يمثل أحد أهم العناصر لضمان تحقيق فائدة مستدامة من الشراكات مع الصين، حيث يجب أن تحتوي الاتفاقيات على بنود واضحة تلزم الشركات الصينية بنقل المهارات والتكنولوجيا للدول الإفريقية، مع التركيز على بناء القدرات المحلية، كما ينبغي أن تشرك العمالة المحلية بشكل فعال في تنفيذ المشاريع لضمان اكتساب الخبرات وتعزيز كفاءتها الإفريقية.
ثالثا، تنويع الشراكات الاقتصادية هو خيار استراتيجي يجب أن تتبناه الدول الإفريقية لتقليل الاعتماد المفرط على الصين، من خلال فتح آفاق التعاون مع قوى اقتصادية أخرى مثل الهند، تركيا، والبرازيل، يمكن للدول الإفريقية بناء شبكة علاقات اقتصادية أكثر توازنا، مع ضمان عدم رهن مستقبلها الاقتصادي بيد شريك واحد، فالتنويع يزيد من القدرة التفاوضية للدول ويتيح لها الاستفادة من تجارب متعددة في مجالات التنمية المختلفة.
رابعا، تعزيز التكامل الإقليمي يمكن أن يكون أداة فعالة لاستغلال الاستثمارات الصينية في تطوير مشاريع تعود بالنفع على عدة دول إفريقية في الوقت ذاته، فمشاريع البنية التحتية العابرة للحدود، مثل شبكات السكك الحديدية والطرق الإقليمية، تساهم في تعزيز التجارة البينية الإفريقية التي لا تزال متواضعة نسبيا، فهذا التكامل يعزز من قدرة الدول على تحقيق نمو اقتصادي مشترك، وتقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية.
أخيرا، إدارة الديون بحكمة تعد عاملا حاسما لضمان عدم انزلاق الدول الإفريقية في أزمات مالية، حيث يجب تبني سياسات مالية صارمة، تتضمن تقييما دقيقا لمستويات الاستدانة وجدواها الاقتصادية، كما ينبغي التفاوض على شروط قروض أكثر مرونة، تأخذ بعين الاعتبار القدرات الاقتصادية للدول على السداد دون الإضرار بميزانياتها العامة، ومن الضروري أيضا استثمار القروض في مشاريع إنتاجية قادرة على تحقيق عائدات اقتصادية مباشرة تساهم في تقليص أعباء الديون.
العلاقات الاقتصادية بين المغرب والصين: شراكة متوازنة ونموذجية في إفريقيا
تمثل العلاقات الاقتصادية بين المغرب والصين نموذجا فريدا في التعاون بين دول الجنوب، حيث تميزت هذه العلاقة بتوازنها وارتكازها على المصالح المشتركة، مما جعلها تختلف بشكل كبير عن شراكات الصين مع باقي دول إفريقيا التي غالبا ما تطبعها مظاهر التبعية الاقتصادية أو التركيز على استغلال الموارد الطبيعية، فالشراكة المغربية-الصينية تجسد بعدا استراتيجيا مبنيا على التكامل وتعزيز التنمية للطرفين، مع الحرص على تحقيق منافع متبادلة تعكس رؤية المغرب التنموية المنفتحة وتوجهاته نحو تنويع شركائه الاقتصاديين.
في المجال التجاري، شهدت العلاقات بين البلدين نموا ملحوظا خلال العقد الأخير، حيث ارتفع حجم المبادلات التجارية إلى مستويات غير مسبوقة، تجاوزت 6 مليارات دولار في عام 2023، ما يجعل الصين من بين أهم الشركاء التجاريين للمغرب، بحيث تعد الصين المورد الرئيسي للمنتجات الصناعية مثل الآلات والمعدات الإلكترونية التي تدعم القطاعات الإنتاجية في المغرب، بينما يصدر المغرب إليها الفوسفات ومشتقاته، بالإضافة إلى المنتجات الفلاحية والصناعات الغذائية التي تشهد طلبا متزايدا في السوق الصينيةّ، وعلى الرغم من الاختلال الذي الميزان التجاري لصالح الصين، فان المبادلات التجارية بين البلدين تعكس دينامية إيجابية يقوم المغرب من خلالها بتوسيع منافذه التصديرية عبر توقيع اتفاقيات جديدة لتشجيع صادراته نحو السوق الصينية الضخمة.
أما في المجال الاستثماري، فقد رسخت الصين حضورها في المغرب عبر مشاريع استراتيجية جعلت من المملكة بوابة لدخول الأسواق الإفريقية، مشروع مدينة «طنجة تيك» يعد أحد أبرز رموز هذا التعاون، حيث يسعى إلى إنشاء منطقة صناعية عالمية بتقنيات متطورة، توفر آلاف مناصب الشغل وتعزز مكانة المغرب كمركز إقليمي في مجالات التصنيع والابتكار، كما استثمرت الصين بشكل كبير في قطاع البنية التحتية، بما في ذلك مشروعات تطوير الموانئ والطرق السريعة، مما يدعم موقع المغرب كمحور لوجستي يربط بين أوروبا وإفريقيا.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت الاستثمارات الصينية في المغرب توسعا ملحوظا كذلك في مجالات حيوية مثل تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية وتطوير مشاريع القطارات فائقة السرعة، ففي يونيو 2024، أعلنت شركة «غوشنهاي تيك» (Gotion High Tech) عن استثمار بقيمة 1.3 مليار دولار لإنشاء أول مصنع ضخم للبطاريات في إفريقيا، وذلك في مدينة القنيطرة، حيث يتوقع أن يبدأ المصنع بإنتاج البطاريات ومكوناتها الأساسية، مع توجيه الجزء الأكبر من الإنتاج للتصدير، مع خطط لزيادة قدراته الإنتاجية واستثماراته المستقبلية لتصل إلى 6.5 مليار دولار.
في مجال السكك الحديدية، تساهم الشركات الصينية بنشاط في تطوير مشاريع القطارات فائقة السرعة في المغرب. منذ توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة الصينية للسكك الحديدية والمكتب الوطني المغربي للسكك الحديدية في مايو 2016، توسع التعاون ليشمل نقل التكنولوجيا وتدريب الكوادر والاستثمار المشترك. تتجلى هذه الشراكة في مشروع الخط فائق السرعة الذي سيربط بين القنيطرة ومراكش، حيث فازت شركات صينية بعدة صفقات لتنفيذ أجزاء من هذا المشروع.
ما يميز الشراكة المغربية-الصينية هو أنها تقوم على أسس التوازن والاحترام المتبادل، فالمغرب من خلال استراتيجياته التنموية التي تتماشى مع أهداف النموذج التنموي الجديد، يسعى إلى الاستفادة من الخبرة الصينية في التصنيع ونقل التكنولوجيا، لكنه في الوقت ذاته يفرض معايير تضمن تعزيز القدرات المحلية وتشجيع الاستثمار في القطاعات ذات الأولوية الوطنية مثل الطاقات المتجددة، فالمملكة التي تعد رائدة إفريقيا في مجال الطاقة النظيفة، جذبت استثمارات صينية لدعم مشاريع ضخمة كالمجمع الشمسي «نور وورززات»، مما يبرهن على قدرة المغرب على توجيه هذه الاستثمارات نحو تحقيق أهداف مستدامة تتماشى مع رؤيته الاقتصادية.
إلى جانب ذلك، تختلف هذه الشراكة عن باقي الشراكات الإفريقية للصين بفضل تنوع علاقات المغرب الدولية، فرغم التقارب مع الصين، يحافظ المغرب على شبكة واسعة من الشراكات الاقتصادية تشمل الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، ودول الخليج، مما يمنحه قوة تفاوضية أكبر ويجعله أقل عرضة للوقوع في فخ التبعية، فتنويع الشركاء هو جزء من السياسة الاقتصادية المغربية التي تستهدف تحقيق استقلالية القرار الاقتصادي وجذب استثمارات متعددة الأبعاد تخدم الأولويات الوطنية.
بالإضافة الى ذلك، يتميز التعاون المغربي-الصيني بوجود رؤية مشتركة نحو تعزيز شراكات جنوب-جنوب، فالصين ترى في المغرب منصة مثالية لتوسيع حضورها في إفريقيا، بينما يستفيد المغرب من قدرات الصين التقنية والتمويلية لدعم مشاريعه الكبرى، حيث يساهم هذا التعاون المزدوج في تعزيز التكامل الاقتصادي الإفريقي، ويدعم المغرب من خلاله مبادراته لتعزيز التجارة البينية داخل القارة، مثل منطقة التجارة الحرة الإفريقية، مما يجعل دوره محوريا في صياغة نموذج جديد للتعاون الدولي.
الشراكة الاقتصادية بين المغرب والصين هي نموذج يحتذى به في القارة الإفريقية، فهي لا ترتكز فقط على تحقيق المصالح الاقتصادية المشتركة، بل تسعى أيضا إلى خلق دينامية جديدة قوامها التنمية المستدامة واحترام السيادة الوطنية، فهذه العلاقة التي تتسم بالتوازن والتكامل، تؤكد أن المغرب ليس مجرد متلقٍ للاستثمارات، بل شريك فاعل يضع معايير جديدة للشراكات الدولية في إفريقيا، ما يعزز موقعه كفاعل رئيسي في العلاقات الاقتصادية العالمية.
الخلاصة
يمثل التعاون مع الصين فرصة تاريخية غير مسبوقة لإفريقيا لإحداث تحول اقتصادي شامل يعيد صياغة مكانتها في الاقتصاد العالمي، ومع ذلكفإن تحقيق هذه الأهداف الطموحة يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الجانبين على أسس أكثر توازنا واستدامة، تأخذ بعين الاعتبار التحديات التي أفرزتها النماذج السابقة والدروس المستفادة منها.
يتوجب على الدول الإفريقية العمل على تطوير شراكات ذكية تركز على تحقيق المصالح المشتركة، مع وضع مصلحة شعوبها في صدارة الأولويات، بوضع سياسات واستراتيجيات تنموية شاملة تضمن استثمار الاستثمارات الصينية بطريقة فعالة وذات أثر طويل الأمد، مع التركيز على تعزيز القدرات المحلية بدلامن الاعتماد المفرط على الشركاء الخارجيين، كما يجب أن تكون هذه الشراكات مبنية على الوضوح والشفافية، حيث تكون الاتفاقيات خاضعة للرقابة العامة ومشاركة المجتمع المدني، لضمان أن تكون الفوائد موزعة بشكل عادل ومستدام.
بالإضافة إلى ذلك، يمثل التعاون مع الصين فرصة لتعزيز نموذج شراكات جنوب-جنوب، قائم على المنفعة المتبادلة والاحترام المتبادل، بعيدا عن الهيمنة أو التبعية الاقتصادية، بما يمكن من أن يصبح هذا التعاون نموذجا ملهما لدول أخرى في العالم النامي، مما يعزز فكرة الاعتماد على الذات والتعاون بين الدول النامية لتحقيق أهدافها التنموية المشتركة.
لكن تحقيق هذه الرؤية، يتطلب وضع استراتيجية تفاوضية قوية تضمن تحقيق أقصى استفادة من الشراكة مع الصين، مع معالجة التحديات المتعلقة بالديون، نقل التكنولوجيا، والآثار البيئية والاجتماعية للمشاريع الاستثمارية، كما ينبغي توجيه هذه الشراكات نحو دعم القطاعات الإنتاجية، مثل الفلاحة التصنيع،والطاقة المتجددة، بما يسهم في بناء اقتصادات متنوعة وقادرة على مواجهة الصدمات.
بإعادة صياغة هذه العلاقة على نحو يراعي مصالح الطرفين ويعزز التنمية المستدامة، يمكن لإفريقيا أن تحول التعاون مع الصين إلى رافعة حقيقية للنهوض باقتصاداتها وتحقيق طموحاتها التنموية، مما يجعل من هذه الشراكة نموذجا متميزا في مسار التعاون الدولي.
ببليوغرافيا
البروفيسور الفرنسي كزافييهأوريغان: حوار مع جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 11 شتنبر 2024
تقرير صادر عن مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية، تحت عنوان “توقعات العلاقات بين إفريقيا والصين عام 2025″
الأسئلة الحائرة في التعاون الصيني – الأفريقي: اماني الطويل بموقع الاندبندنت عربي بتاريخ 11 شتنبر 2024
المعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس”، ورقة بحثية بعنوان” الرد على أزمة الديون فى إفريقيا ودور الصين” صادرة في 15 ديسمبر 2022
البيان الختامي لقمة منتدى التعاون الصيني الأفريقي 2024
تقرير مؤشر الاستثمار الصيني العالمي لعام 2023 الصادر عن وحدة الأبحاث الاقتصادية التابعة لمجلة الإيكونوميست البريطانية
La Chinafrique : Pékin à la conquête du continent noirSerge Michel /Michel Beuret
Chine, puissance africainGéopolitique des relations sino-africainesXavier Aurégan
La Chine en Afrique : La Chine en concurrence avec les anciens partenaires de l’Afrique et les pays Brics
Julien Bokilo
United Nations Economic Commission for Africa (UNECA).Africa-China Cooperation: Towards Inclusive and Sustainable Development, 2022.
Rapport économique sur l’Afrique 2023 : La Commission économique pour l’Afrique(CEA)
LA CHINE EN AFRIQUE : INTÉRÊTS ET PRATIQUES Programme Afrique subsaharienne Essai d’analyse du mode de fonctionnement d’un système
Valérie NIQUET Sylvain TOUATI