الفكر التربوي عند أبي سالم العياشي

يحاول هذا المقال تسليط الضوء على الفكر التربوي لأبي سالم العياشي، وهو من الشخصيات التاريخية التي كان لها إسهام كبير في إشعاع الثقافة والفكر المغربيين خلال القرن السابع عشر، وساهم إلى جانب ثلة من العلماء في بروز حركة فكرية وثقافية نشيطة خلال تلك الفترة التاريخية التي عرفت منعطفات سياسية حاسمة، باعتبارها مرحلة انتقال سياسي من دولة الأشراف السعديين إلى الدولة العلوية.
سينصب تحليلنا في هذه المقالة على رصد دينامية الحركة الثقافية بمغرب القرن السابع عشر، ثم سنركز في المحور الثاني على ملامح الفكر التربوي عند أبي سالم العياشي، وهو مبحث له أهميته الخاصة بالنظر لما لدراسة تاريخ الفكر التربوي في التأسيس لتاريخانية التربية وما يتعلق بها من أهمية وراهنية في الزمن الراهن، والذي يشهد سعيا حثيثا من أجل التأسيس لنموذج تربوي مغربي، منفتح على مستجدات التربية العصرية من جهة، دون التخلي عن عناصر الأصالة التي يمكن التأسيس لها من خلال تعميق البحث في الفكر التربوي والبيداغوجي لأعلام مغاربة نبغوا في مجالات مختلفة، وكان له تصورات ورؤى حول ماهية التعليم ومقوماته ومخرجاته، على شاكلة أبي سالم العياشي.

الحركة الفكرية في مغرب القرن السابع عشر

شهد القرن السابع عشر الميلادي نشأة واحدة من أهم الدول بالمغرب، ويتعلق الأمر بدولة الأشراف السعديين، الذين انطلقوا من درعة وسوس بالجنوب، وقادوا حركة دينية وسياسية كان هدفها طرد الغزاة الإيبيرين البرتغاليين والإسبان من الثغور المغربية المحتلة حينذاك، وإذا كان السلاطين الأوائل لهذه السلالة قد تمكنوا من التأسيس لمشروع الدولة من خلال القضاء على الإمارات المنافسة وإنهاء الوجود الوطاسي، وتحرير الثغور، فإن سلاطين المرحلة الثانية: مرحلة الازدهار قد شهدت تولية السلطان السعدي القوي أحمد المنصور الذهبي الذي قوى الدولة ونظمها إداريا وعسكريا، وتمكن من ضمان استقلال الدولة عبر انتصاره في معركة وادي المخازن 1578 ودعم انتصاره بضمه للسودان الغربي في 1591، خلال فترة حكمه نشطت الحركة الثقافية والعلمية نشاطا كبيرا، وفي هذا السياق يشير محمد حجي إلى:
»تعدد المراكز الثقافية أيام السعديين في المدن والأرياف، وتكاثر عدد العلماء والطلبة بعد أن أخذت الأحوال الداخلية تستقر، والأمن ينتشر في طول البلاد وعرضها وأسباب العيش تتيسر بسبب تحسن الوضع الاقتصادي… وقد تطعمت العناصر العلمية الوطنية بأخرى أندلسية وشرقية فازدادت آفاق المعرفة اتساعا أمام الراغبين في الدرس والتحصيل.«
لقد نشأ إذن أبو سالم العياشي في سياق هذه النهضة الثقافية والفكرية وتأثر بها إيجابا، وأًصبح من أهم رموزها الثقافية والفكرية، حتى أن كتب تراجم المرحلة قد أَضفت عليه صفات من قبيل بحر العلوم و عفيف الدين، وغيرها من الصفات، التي تبرز مكانة الرجل وعلو كعبه في مجالات الفكر والأدب والرحلة وغيرها، يذكر محمد حجي أن أبو سالم محمد العياشي قد اجتمع له من الروايات والإجازات العلمية ما لم يجتمع لغيره من معاصريه بدوا وحضرا.

التعليم والفكر التربوي لدى أبي سالم العياشي: التعربف بأبي سالم العياشي

أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي،  يرجع نسبه إلى قبيلة آل عياش الأمازيغية، ويتصل نسبه بالشرفاء الأدارسة.ولد أواخر شعبان من سنة(1037هـ) 1628م وصادفت ولادته ونشأته بداية إشعاع الزاوية العياشية التي أسسها أبوه محمد بن أبي بكر سنة(1044هـ)، بغرض نشر العلم وتربية الناس، ولذلك صدّر فهرسته الحافلة «اقتفاء الأثر» بترجمته، فقال:«أولهم وأولاهم بالتقديم والدي أسكنه الله فسيح جنته، وتغمدنا وإياه برحمته، رباني فأحسن تربيتي، وغذَّاني بنفائس علومه فأحسن تغذيتي، قرأت عليه القرآن العظيم غير ما مرّة»، وتوفي سنة(1067هـ، فرغب في توسيع مداركه ومعرفته، فرحل سنة(1053هـ) إلى الزاوية الناصرية بمنطقة درعة، وحضر مجالس الشيخ محمد بن ناصر الدرعي(ت1085هـ)، في الفقه والتفسير والنحو والحديث والتصوف، ثم انتقل إلى فاس ، فأخذ عن أعلامها أمثال الشيخ العارف أبي محمد عبد القادر بن علي الفاسي(ت1091هـ)، وشيخ الجماعة الفقيه المدرّس أبي العباس أحمد بن موسى الأبَّار(ت1071هـ)، والعلامة أبي عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي(ت1072هـ. . حسب ليفي بوفينسال فإن العياشي قد قضى سنوات أخرى من عمره متنقلا بين المغرب ومصر ومكة والقدس، وهو ما مكنه من أخذ العلم عن المشارقة
توفي العياشي سنة 1679م بسبب مرض الطاعون. وتعتبر رحلته ماء الموائد موسوعة في الشريعة والتصوف إلى جانب كونها رحلة تؤرخ لعصره، وهي رحلة لها أهمية خاصة، تحظى بالاهتمام من لدن الأجانب أكثر من اهتمام المغاربة بها حسب بروفينسال.

ملامح من الفكر التربوي لأبي سالم العياشي

غالبا ما هيمنت العلوم الدينية على فلسفة التعليم بالمغرب الأقصى منذ الأدارسة، بحيث حظيت علوم الشريعة مثل الفقه والحديث، واللغة والنحو على برامج تلك المرحلة، وخلال القرن الخامس عشر أصبحت علوم الحقيقة كالتصوف تفرض نفسها بقوة، وقد ساهم في ذلك البروز ما تميزت به المرحلة من تزايد أدوار الزوايا والرباطات من أهمية نابعة من الدور الذي اضطلع به المتصوفة في مجابهة الغزو البرتغالي والإسباني للسواحل المغربية خلال تلك الفترة.
مهما يكن سينصب تحليلنا في هذا المحور على تبيان إسهام المترجم له في المجال التربوي من خلال ما ألفه في مجالات مختلفة، تعكس من جهة تأثره بالحركة الثقافية وما أخذه عن علماء مشارقة ومغاربة، كما تعكس وإن بشكل ضمني طبيعة المجالات التربوية التي كان للعياشي اهتمام خاص في التأليف فيها.
لا شك أن العياشي المربي والمدرس قد تأثر إلى حد كبير بطبيعة التكوين التربوي الذي تلقاه منذ صباه وشبابه، هذا التكوين هو الذي صقل مداركه وتصوراته للتربية والتعليم، يجرنا الحديث هنا إلى التذكير بمسار الرجل كتلميد وطالب، فمن المعلوم أن العياشي التلميذ والطالب قد أخد العلم عن مجموعة من الشيوخ المعتمدين، حيث بدأ تعليمه الأولي على والده، حيث يشير في فهرسه في سياق ترجمته لوالده إلى:»   رباني فأحسن تربيتي، وغداني بنفائس علومه فأحسن تغديتي. « وهو بذلك يشير إلى ما تلقاه من والده من تربية دينية أولية ترتبط بحفظ القرأن وبعض الأذكار الصوفية الشاذلية.
كما تتلمذ العياشي الطالب على يد عدد آخر من شيوخ المرحلة ومنهم عبدالقادر بن علي الفاسي الذي يعتبر أحد أعلام التربية وقتئذ، وقد أخذ عنه علوم اللغة وأصول الفقه والتصوف، كما أخذ العلم عن أبي العباس أحمد الآبار خاصة مبادئ المذهب المالكي، وحضر دروس محمد بن أحمد ميارة هذا الأخير أجازه. وتذكر نفيسة الذهبي أن أبا سالم قد استفاد في تعليمه أيضا من عدد كبير من شيوخ العاصمة العلمية فاس، ومنهم القاضي محمد بن سودة، ومحمد بن قاسم الدادسي وميمون الرتبي، وأحمد بن جلال، وأحمد بن علي الزرهوني ، وعبد السلام بن ناصر ، وحمدون المزوار.
من المعلوم أن العياشي قد صقل مداركه إلى جانب تعليميه بالمغرب، برحلاته نحو الشرق حيث اغتنم الفرصة وتتلمذ على يد عدد من الشيوخ هناك نذكر منهم الشيخ عيسى الثغالبي بالحرمين، وعلي الديبع اليمني الذي أخذ عنه علم القراءات، ومما يدل على اجتهاده هو كونه الطالب الوحيد الذي ختم عليه المقدمة الجورية في تجويد القرآن. لا شك أن تعدد شيوخ أبي سالم العياشي من المغاربة والمشارقة وشهرتهم خلال تلك المرحلة قد أثر أثرا بليغا في نبوغه وتميزه، وهيأه ليكون مدرسا مقتدرا وذائع الصيت في زمانه.
تصدر العياشي بعد حصوله على إجازات من شيوخه المغاربة والمشارقة في علوم الشريعة والحقيقة، للتدريس، وفي هذا الصدد تذكر نفيسة الذهبي أن العياشي المدرس قد عمل مدرسا في زاويته وفي مختلف الزوايا والمراكز التعليمية التي قصدها، ومما يدل على علو كعبه كمدرس حسب ذات الباحثة هو كثرة الطلبة والحاضرين للقراءة في الزاوية حيث شغل منصب التدريس، كما عرف عن العياشي المدرس عناية الكبيرة بمجالس الدرس في زاويته فأثناء غيابه كان يحث القائمين على الزاوية على تعمير المسجد وخدمة الطلبة ومواصلة النشاط التعليمي والحضور الدائم. وتضيف أن العياشي المدرس قد عرف بتدريسه لعدد من المواد، فقد درس بالمدينة «مختصر خليل» في الفقه المالكي. وتشير نفيسة الذهبي إلى أن العياشي وإن كان يقبل على كل العلوم والمعارف، فإن مشاركته الفعلية لم تتعد العلوم النقلية والمواد التي كان يتقنها.
في تدريسه لم يكن العياشي يكتفي بالنقل البسيط كما دأب على ذلك معاصروه من المدرسين، بل كان يعمد إلى إعمال النهج النقدي وتبيان ذلك في اهتمامه بطرح الأسئلة حول القضايا المثارة وإبداء الملاحظات ورصد الإمكانات الثقافية لكل بلد، إلى جانب ما يبدو من خلال مؤلفاته التي ارتكز في تأليفها على هذا المنهج النقدي.
يضاف إلى هذا التصور النقدي في التربية اهتمام أبي سالم العياشي بوضع الأحداث التي يتناولها في سياقها التاريخي، وهنا تشير الأستاذة نفيسة الذهبي إلى تحليه بحاسة تاريخية تتضح بشكل جلي في تعاملة مع الزمن التاريخي وارتكازه في السرد على المصادر والوثائق.

خاتمة:

حاولنا في هذه الورقة تحديد بعض معالم الحياة التعليمية لأبي سالم العياشي، وهو كما يبدو من خلال ما كتب وما ألف من بين أبرز أعلام القرن السابع عشر، وهو كذلك صورة معبرة عن النبوغ المغربي خلال هذه المرحلة، لكن يبقى ما ألف إلى يومنا هذا حول هذه الشخصية قليل ولا يفي الغرض لإبراز مكانة الرجل وعلو كعبه في مجالات الشريعة ومجال الحقيقة والتصوف. ويبقى من المهم الإشارة إلى أن تتبع سيرة الرجل وشبكات إجازاته ورحلاته شرقا وغربا قد أسعفنا إلى حد ما في اكتشاف بعض تصوراته للعملية التربوية والتعلمية والتي يمكننا اختصار عناصرها في إعمال الحس النقدي الذي ميزه في التعامل مع أحداث عصره وتحليه بالحس التاريخي من خلاله ربطه بين الحدث وأبعاده الزمكانية، وتعدد مصادر المعرفة، ودور الرحلة في صقل المعرفة ونضجها واكتماله، والابتعاد عن الخوض في مجالات معرفية دون التسلح بالزاد المعرفي، إضف إلى ذلك اهتمامه بطلبة الزاوية وعمله على إغناء الخزانة، كلها مؤشرات تقدم لنا فكرة عن التصور التربوي للعياشي المدرس والناقد. وهي تصورات ينبغى العمل على إلقاء الضوء عليها من خلال تعميق البحث في مؤلفاته وكتبه، عل ذلك يسهم في التأسيس لتاريخانية الفكر التربوي المغربي، وينير الطريق أمام الباحثين في المجال لإدماجها في البرامج الإصلاحية للمدرسة المغربية.

(*) باحث في التاريخ والانتروبولوجية  وقضايا التربية والتكوين
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين سوس ماسة


الكاتب : د.ربيع رشيدي (*)

  

بتاريخ : 30/06/2022