الفلاسفة والحب

يُعد الحب ذلك المسكوت عنه الكبير في تاريخ الفلسفة، وهو الأمر الذي يُعبّر عنه شوبنهاور قائلاً: «لا بدّ أن تظهر علينا إمارات الدهشة؛ لأنّ موضوعاً يحتل دوراً بهذه الأهمية في الحياة الإنسانية لم ينظر إليه الفلاسفة بعين الاعتبار حتى الآن، بل ويُقدَّم إلينا كما لو كان مادة لم تتم تجربتها بعد».
غير أنّ تفسيراً أوّلياً يمكن أن يُقدّم، وبحسبه يمكن النظر إلى الفلاسفة عموماً بأنّهم مشغولون بتخليص الإنسان من أشكال المتاعب كافة، بما فيها المتاعب الناتجة عن عاطفة الحب، هذا على الأقل ما نجده عند لوكريتيوس، وهي الحقيقة التي يعبّر عنها فيلسوف قديم آخر، وهو أبيقور، بالقول: «يكون خطاب الفيلسوف خاوياً إذا لم يُساهم في شفاء ألم النفس».
هل هذا معناه أنّ الكثير من الفلاسفة لم يعرفوا الحب؟ ليس صحيحاً تماماً، وهذه هي القضية التي ينبري لها مُؤَلِّفَا كتاب «الفلاسفة والحب: الحب من سقراط إلى سيمون دوبوفوار»، ماري لومونييه وأود لانسولان، والذي نقلته إلى العربية عن دار التنوير، دينا مندور.
أيّ علاقة ربطت فلاسفة الغرب مع الحب؟ كيف كانت حياتهم العاطفية؟ ما هو مؤكد أنّ أفكارهم لم تمنعهم من مكابدة آلام الحب.

 

مونتين:
مديح الشهوة الجسدية

نظراً لمظهره المُنَفِّر، بشَعره الذي يُغطي مُعظم أجزاء جسمه باستثناء رأسه الأصلع مثل بيضة، وقامته العريضة والقصيرة… لم يكن مونتين يملك مظهر فتى وسيم أو جذّاب، هكذا وصف نفسه دون مجاملة في الكتاب الثالث من «المقالات»، لكنه يعترف فيه أيضاً بطبيعته المفعمة بالنشاط، وبمساره الاستثنائي في الغواية وكسب قلوب الحسناوات أيام كان حاكماً لمدينة بوردو.
«يجب التمتع والاستمتاع بالحياة بأكبر قدر ممكن»، هذا ما قاله هذا المُتْعَوي الديونيسي الذي قال عنه نيتشه الذي طالما اعتبره أباً روحياً: «كتب هذا الرجل أن متعة العيش على هذه الأرض هي أن نزيد من تلك المتعة».
كان مونتين كل شيء إلا أنّه كان أفلاطونياً، وخاصة في الحب، حيث يعتبر مثلاً أنه من العبث أن يزعم فيلسوف أنه لا يشعر بمتعة مع زوجة شابة بقدر ما يشعر بها مع الروح، موجهاً سخرية لاذعة للنساء المثقفات.
كما يليق بتلميذ نجيب لأبيقور ولوكريتوس، كان مونتين يتوخى الحذر الكبير من الحب: «كل متعة لا تضرّ بالحرية والاستقلالية الذاتية فهي جيدة»، ربما كان مونتين يعني الزواج الذي خبر تفاصيله أكثر من أي فيلسوف آخر.

إمانويل كانط:
ميل للنساء وازدراء

حياة كانط نفسها عبارة عن لغز مُحير، نوع من الثقوب السوداء في تاريخ الفلسفة: لا زوجة في البيت، لا علاقات عاطفية في المدينة، أو حتى عابرة من أي نوع.
غير أنّه من غير الصحيح ألا نرى فيه سوى زاهد مُحب للعزلة لا يهتم بنفسه إلا نادراً، فالرجل كان عاشقاً للحياة يحرص على أخذ وجباته بصُحبة أصدقاء لامعين، كما كان يحب الشرب المنتقى ولعب الورق.. حتى مظهره كان أنيقاً وثيابه مُنسقة بعناية (وهو القائل: «من الأفضل أن تكون مجنوناً بالموضة على أن تكون الموضة خارج حساباتك»).
هذا لأن «حكيم كونيغسبرغ» كان يحبّ أن يأسر قلوب السيدات الجميلات؛ الأمر الذي لم يمنعه مع ذلك، سواء من خلال كتاباته أو في الحياة العامة، من إظهار ازدرائية تجاه الجنس اللطيف، وذلك باعتبار المرأة «حيواناً خبيثاً»، «غير قادرة على التحلّي بالمبادئ «، ونادراً ما تتمتع بالذكاء، غير أن كانط لم يكن بدعاً بين فلاسفة عصره، فروسّو مُعلمه الأول قد قال ما هو «أبشع» من ذلك في حق المرأة في كتابه «إميل أو في التربية».

نيتشه: المُبعد الأبدي
من محراب الحب

يُحَمِّلُ نيتشه المسؤولية للحضارة الأوروبية الواقعة تحت سطوة الأخلاق المسيحية والبورجوازية، وهي الأخلاق التي تكبت الغرائز والمتع الحسية، في حين أنّ الحب الذي هو أصل كل إبداع لا ينمو ويترعرع إلا بحضور الحِسية، وبإضفاء السمة الروحية على الغرائز.
يُخبرنا نيتشه في «هذا هو الإنسان» أنّ: «الدعوة إلى العفة تحريض علني نحو الطبيعة المضادة، إنّ كل احتقار للحياة الجنسية باستخدام فكرة الدنس هي محاولة اغتيال للحياة، إنها الخطيئة الحَقَّة ضد الروح المقدّسة للحياة». ثم يضيف مؤكداً ومثمّناً هذه الفكرة في موضع آخر: «ليست الشهوة سُمَّاً إلا بالنسبة إلى الذابلين الذي يحتقرون الجسد والمصابين بهذيان نهاية العالم»، وقد عرفنا مدى احتفال نيتشه، على الأقل نظرياً، بالجسد والحياة، ودعوته إلى التحرّر من تأنيب الضمير وتأكيد مشاعر الحب. لكن، ماذا عن حياته العاطفية الواقعية؟
وقع نيتشه في حبّ الحسناء لو سلومي وهي لم تتجاوز بعد سن العشرين، في حين كان هو قد شارف على إقفال عقد الثلاثين، وذلك خلال إقامته بإيطاليا. كان لقاؤهما الأول يوم 26 نيسان (أبريل) تحت قبة كاتدرائية سان بيير بروما، حيث استهلّ لقاءه لها بعبارة: «من أي نجم سقط كُلٌ مِنَّا على الآخر»؟ وهي عبارة كفيلة بجعل أي امرأة تقع في حبّ قائلها، لكنّ الشابة المُثقفة لم تفعل، رفضت حب الفيلسوف نائية بنفسها عن الزواج، مُفضلة صداقة فكرية مع «عدوّ المسيح»، الأمر الذي لم يَرُق له، كما تشهد على ذلك بعض مقاطع كتاب «هكذا تكلم زرادشت» التي كُتبت بوحي من هذه المحاولة العاطفية الفاشلة. وعلى كل حال، ففيلسوف المطرقة لم يفلح في الزواج طيلة حياته ، سواء من لو سلومي أو من غيرها.

شوبنهاور:
ناسف الحب

شوبنهاور هو أكثر فيلسوف برع في كره النساء والحب، بل أبدع في ذلك أيّما إبداع، من بين الأمثلة الكثيرة على ذلك، وصفه للحب في كتابه ‘’العالم إرادة وتمثلاً» على أنه «سلسلة من الشقلبات السخيفة التي يقوم بها اثنان من الحمقى..». وبالتالي، فالعُشَّاق، في نظر هذا الفيلسوف المكتئب، ليسوا سوى دُمى متحرّكة.
شوبنهاور الذي كان يعتبر أنّ السعادة الوحيدة الممكنة للإنسان هي ألّا يُولد من الأساس، طالما أظهرَ كرهاً شديداً للحياة قلَّ نظيره في تاريخ الفلسفة، وحتى عند سيوران لا نجده بهذا الشكل العنيف: «تتأرجح الحياة كبندول الساعة يمنة ويسرة، من المعاناة إلى الملل».
من الصعب جداً أن يرى هذا الفيلسوف المتشائم في الحب شيئاً آخر سوى المعاناة والملل الذي سرعان ما ينقلب إلى برود قاتل؛ ليس الحب، كما لا يملّ من ترديد ذلك هذا البوذي الأوروبي، سوى مكرٍ للطبيعة من خلال الغريزة خدمة لاستمرار الجنس البشري. ولو كُتب لشوبنهاور أن يُعبّر عن هذه الفكرة بكلمات تلميذه المُنشق، لقال: «ما المرأة سوى فخ نصبته لنا الطبيعة».
نادرون هم الفلاسفة الذين سيحذون حذو شوبنهاور ويذهبون بعيداً في عملية الهدم هذه، التي سرعان ما تنقلب إلى ازدرائية عنيفة تجاه المرأة، بالنسبة إليه، النساء كائنات من الدرجة الثانية: «النساء هنّ الجنس الثاني على كل الأصعدة، وقد خُلقت المرأة لتُنبذ ولتبقى في المرتبة الثانية».
سيرى الكثيرون في هذه الهجمات الشرسة على الجنس اللطيف (الذي يسمّيه هو بالجنس الضعيف) مجرد انعكاسات لتجاربه الخاصة مع أمّه جوانا شوبنهاور التي يُحمّلها مسؤولية انتحار والده: «كانت السيدة أمي تقيم السهرات في المنزل، فيما كان هو غارقاً في الوحدة، وكانت تتسلى فيما هو يُقاوم المعاناة غير المحتملة. هذا هو حبّ النساء». كان آرثر شوبنهاور لا يرى في أمه سوى امرأة أنانية تسعى إلى الشهرة والحصول على أكبر عدد ممكن من المعجبين، حتى لو كان ذلك على حساب بيتها وأسرتها.
غير أنّ ذلك لم يمنع هذا الأعزب الأبدي من الدخول في العديد من العلاقات، ولا من تقديم النصح للرجال الراغبين في الزواج بشكل ساخر طبعاً.

هايدغر وحنا آرندت:
عشق رغم كل ما يُفرِّق

عندما التقيا عام 1925، كانت حنا آرندت مجرّد تلميذة عند هايدغر. هي كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وهو كان متزوجاً وأباً لطفلين، الأمر الذي حكم على هذه العلاقة غير المتوقعة بالسرّية الدائمة.
غير أنّ ما جمع بينهما كان حباً شغوفاً رغم كل ما يُفَرِّقهما: هو، كانت بصمات تعاطفه مع الحزب النازي لا تخطئها العين؛ وهي، كانت يهودية مُبعدة، غير أنّ هايدغر سيعترف لاحقاً بأنّها ساهمت في إنجاز أعماله، وأنّها كانت مُلهمته التي تبثّ «الفكر العاطفي» في كتاباته.
أمّا هي، التي هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتزوّجت بالفيلسوف الألماني هنريش بلوخر، لتؤسّس بذلك مساراً فلسفياً فريداً هو الآخر، فقد اعترفت أيضاً بأنها لم تستطع التخلص من تأثير صاحب «الوجود والزمن»؛ علاقتهما كانت مُتعثرة وفي أحيان كثيرة عن بُعد من خلال المراسلات التي شغلت المناقشات الفلسفية الحيز الأكبر منها.
وإذا كان مصير هذه العلاقة من حيث شرعيتها ظلّ يُقلق حنا آرندت، فإنّ «عصفور الغابة السوداء» لم يكن يبالي بذلك، فالحب في نظره يجب أن ينسجم مع تعريفه للحرية الذي هو ترك «الموجود يُوجد»: الحب هو «أن ينفتح كل واحد مِنَّا على الآخر، وأن نترك الأمور تسير على ما هي عليه». أمّا التلميذة، فقد كتبت في حق أستاذها أنّه كان الرجل الذي ظلت له «وفية وغير وفية، دون التوقف عن حُبِّه».

سارتر وسيمون دوبوفوار: إشكالية الغيرة والتَّحرر

كان شارع سان جيرمان الباريسي شاهداً على أكثر قصص الحب والغرام غرابة. حُبّ مُتحرّر من كل الالتزامات التي من شأنها أن تُعكر صفو حرية أبي الوجودية، وصديقته التي ظل يدعوها طوال حياته بـ»كاستور».
لكن، ما السبب الذي دفعهما إلى اختيار هذه الطريق الوعرة؟
أكثر الفرضيات واقعية تقول إنّ ذلك كان راجعاً إلى تجاربهما الغرامية السابقة، والتي لاقت فشلاً ذريعاً، الحديث هنا عن الحب كاتفاق بين المُحبين من أجل تشكيل حصن منيع في وجه عذابات الغرام المُحتملة التي خبر جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار تفاصيلها أكثر من أي شخص آخر.
كانت سيمون دوبوفوار واقعة في حب شاب وسيم ومفتول العضلات يُدعى رينيه مايو، تقول عنه «كاستور» إنه كان مولعاً بالرغبة الحسية، ولا يبدي أي احترام للمرأة بمجرد تملُّكها، حتى أنها وصفته قائلة: «له ابتسامة عريضة لكلب ماكر». كانت سيمون تحتاج لمن يُسيطر عليها فكرياً، وقد وجدت ضالتها في سارتر. هذا الأخير لم يكن أفضل حالاً في الحب من قرينته، فقد كابد آلام الفراق مُبكراً بعد أن فسخ والدا معشوقته خطوبته مع بنتهما سيمون جولي في؛ كتب سارتر لاحقاً يصف هذه العلاقة بأنها جعلته يُجرّب «أكثر المشاعر سُخفاً»، يقصد الغيرة.
لكلّ هذه الأسباب وضع العاشقان ميثاقهما الشهير الذي يقضي بالحرية، عَبَّرَت سيمون دوبوفوار عن هذا الاتفاق لاحقاً قائلة: «لقد شرح لي أن ما بيننا هو حب ضروري، وقد يكون من المناسب أن نمرّ بحب عابر»، كان جان بول سارتر هو صاحب الاقتراح إذن.
في كتابه «الوجود والعدم»، يعتبر سارتر الحب «شكلاً من أشكال الصيد الحاذق». وهكذا كان، فرغم قبح مظهره وقصر قامته، لم يتوقف هذا الغاوي المتمكن عن تنويع غزواته العاطفية. أمّا سيمون دوبوفوار، كاتبة «الجنس الآخر»، ومُوقدة شرارة حركة تحرّر النساء، فلم تكن أقل شأناً في هذا المضمار من عشيقها.
غير أنّ روايات سيمون الرائعة تُخبرنا الشيء الكثير حول قساوة هذا الميثاق العاطفي الذي جعل التقارب الفكري يمتزج بالغيرة، والحب يمتزج بالدموع نتيجة تعدد الشركاء الذي طبع حياة هذا الثنائي الوجودي؛
أن تقدم الفلسفة وقاية من آلام العشق والغرام، أمر ليس مؤكداً!


الكاتب : يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 04/10/2024