الفنان الأمازيغي محمد مغني يبعده اعتزاله عن مسيرة فنية طويلة لم تسلم من طاحونة سنوات الرصاص

 

فِي سنة 1970 دخل محمد مغني عالم الاحتراف فاتحا مشواره الغنائي بعدة قطع منها :
– أَيـذْنِيخْ أَكِذَافْخْ نْمُونْ رُوخْثْنْ عَاوْذْخْ أُورِيگِينْ وَالُو ،
*رْحْلْ أَتِيثْ أٓعـزَابْ أَوْرَا غـرْ ثَامانو
رَحْلْخْ إِرْحـلْ أُومَارْگْ أَرِيتَباعْ
* ثَحْيُوطْ أَمُونُودْمْ شُوفْ لاَّلام إُورِينَّام . وغيرها من القطع.
و يعتبر محمد مغني هو السباق في عزف تحيدوست على آلة الوتار، كما عزفها من قبله المرحوم حمو باليازيد على آلة الكمان”التي تقول كلماتها:
أَمَامَانُو لَيْطَّارْ الْخَاظْرْ خْفْ إِسْلِّي مْكْ ثيذْيُىفَا أَوَا
أَمَامَانُو يُوعَاسْنَّا ثَاگَايْثْ نَاخْفْ يَّادُّومْ إزْرِيرِي أَوَا
هي تسجيلات نبهتنا لصوت محمد مغني، فجاءت كلها في شكل رسائل عن الحب الصادق، وعن معاناة الفراق، وكذا عن العشق المباح الذي يخاطب العقل والإحساس قبل الغريزة والشهوة، و لم يقف منبهرا أمام ألوان وأضواء الفن الهابط الذي تربع دعاته على عقول الكثيرين من شباب اليوم، لكنه رسم لنفسه الطريق السهل الممتنع الذي يقوم على الحاجة للغناء وللطرب والهدوء والسكينة لا للغريزة والتمايل على ايقاعات الكلمات الساقطة التي تخدش حياء الأفراد والجماعات.
سيعرف محمد مغني مجدا فنيا في سنوات السبعينات، أصبح كالبلبل المغرد فوق شجرة الغناء بالأطلس المتوسط، وبنفوذ صوته الأخاذ كان يطارد النشاز لينتصر للجمال ويسكبه في أسماعنا، فننتشي. ولكن لم يطل الانتشاء، لقد حلت لعنة سنوات الرصاص لتنقض على محمد مغني ورفاقه (الفنان أعشوش لحسن، عائشة تغزافت، بوياوي قدور، حساين بومية، اومارش فاطمة و زينب أوخثا)، ذلك لما انخرطوا بعفوية وتلقائية في التعبير عن أحداث السبعينات. رثاء لمن حكم عليهم آنذاك بالإعدام، فأخرستهم أيدي الجلادين، وهنا نستحضر الأغنية التي جرت الويلات عليهم وقادتهم إلى جحيم التعذيب التي تقول كلماتها:
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
إِمُٰوثْ حـْمُّو أُور يِيوْيظْ وَگَا امَازِيرْ
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
مُرَاسْ ضورْ إمحِزَّان إِنْضلْ أَمَّاسْ أُورُگُو
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
لَتْرُوثْ أَصْفـرُو إِدْخْ إِمُّوثْ أَعْبَابُو
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
مَانِي القْوَانْسْ مَانِي لْعْسَّا نَاسِي إِيضُورْ
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ(…)
وفِي هذه الفترة العصيبة أصبح الغناء محظورا في الأطلس المتوسط حتى قيل أيضا:
مسارْ نِّيخْ إيِزْلاَن أَرْبِي جْمْعِي ذُوروَاسْ
إِسْ أَنِّيخْ أَغْرِي نَّاثْشَا عيشا ذُو عْشُوشْ
مفاده أن الأمازيغي حرم على نفسه قول الشعر والغناء لأنه رأى بأم عينيه الجحيم الذي مر به كل من أعشوش وعيشة.
إن قطعة “إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ” التي عشقها الكل ذات لحن حزين، فهي للفنان المرحوم شيخ حافتي محمد التي سجلت بدار الإذاعة، صحبة الفنانة عائشة تغزافت، في سنوات الستينيات من القرن الماضي، ولكن محمد مغني أعاد غنائها في تماه تام مع كلمات (إيزلان) جديدة حملت ألما عميقا. برع في أدائها. هذه الأغنية ليست جيدة فقط لأن محمد مغني اشتهر بها إبان سنوات الرصاص، بل لأنه غناها بروحه الحزينة، وقد قال بنفسه عنها:” إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ” أصبحت مورطا فيها، فعندما أخرج لأي حفل أو سهرة إلا وتطلب مني هذه الأغنية”.
أما صديقه محمد رويشة فقد اعتبرها “نعمة ونقمة، لأنها فرضته كمغني أمازيغي مناضل”. فقرر محمد مغني اعتزال الفن، غير أن محبيه لم يتركوه وحده في هذه المِحنة التي كادت أن تقضي عليه وعلى مسيرته الفنية. وكان خير دفاع هو الاستمرارية بدون مبالاة، وبفضل صموده وقوة إيمانه ووفاء أنصاره، سار قدما في عمله لاستيفاء رسالته. فواصل بتقديم الجديد، ويحسن القديم فيعرضه في ثوب جديد بالتنقيح بما يضفي عليه ألوانا من الجدة والإبداع، لو نحط الرحال عند كل أغنية خطتها تجربته وداعبتها انامله على توأمه آلة الوتار، فإننا نجد لكل رائعة من روائعه رسالة هادفة، سواء من أسى الحب أو لوعة الفراق، وحرقة الغربة، وجميعها دعوة إلى تهذيب النفس والبعد عن كل ما يدنس النفس من القول والفعل.
كان محمد مغني في أدائه الغنائي “وكأنه في لحظة عبادة”، لأنه يتمتع بموهبة الحضور، سواء في الحفلات والسهرات، تلك الموهبة التي تجعل المرء إنسانا جذابا، تتقبله النفس بترحيب و ارتياح ، ببراءته وعذوبة ابتسامته، ولا نغفل أيضا الصوت النسائي الذي رافقه آنذاك، إنها الفنانة فاطمة توسيدانت التي يصغي إليها الجمهور فيزيد نشوة وطربا، إذ بعد اعتزالها للغناء، أخذ محمد مغني يبحث عن صوت آخر، إلا أن وجد الفنانة “الشريفة كرسيت”، وهي من مواليد عام 1967، بخنيفرة، بأيت علا، ايت لحسن اوسعيد، وصاحبة الصوت الشجي الذي يدخل إلى شغاف القلب دون استئذان، فنانة مرهفة الإحساس، رقيقة المشاعر غزيرة العطاء دون اسفاف أو ابتذال، أغانيها يترنم بها الناس من شتى الفئات العمرية، لأنها فنانة ناجحة وبليغة في الأداء وتعطي الأغنية مكانتها الفنية، كما هي قدمت أجمل وأكبر الأعمال الفنية بثقة واقتدار فني، إنها لم تستخدم أنوثتها ولا رصيدها الجمالي للوصول، ولكنها اعتمدت على طاقتها الفنية القوية، ولا أحد ينكر مقدمته صحبة محمد مغني، ومحمد رويشة، لا ينكره الا جاحد او حاسد، محمد مغني وجد البعد الثاني في فنه عند “الشريفة”، وسكب أعذب وأهم ألحانه، وقد اتضح ذلك من خلال القطع التي أطلقها محمد صحبتها منها :
عداني عداني، أَيَاًحْبِيبْ أوِينْ ثَاسَانُو أُورَاسْ نْغي أُوْمَاگْ * أٓذُورْتنيث ْإِسْكْ عْفَاخْ، أَنْمُونْ سينْ، أَشْنَاذاخْ، *مَاسيِّيخ ْإِوولْ أَذِ عْنيقْ، *إِحوفدْ غِيفي أومارگْ، *مَامِي قَارْخْ وَلاَيغْرِي،مايذِي تْرَارَانْ نْعَامْ، *سَالْ سَالْ، *بَلْغَاسْ إِوْحْبِيبِنو السْلاَمْ، وغيرها من القطع، ولكن الأغنية الأكثر انتشارا، هي قطعة ” عْدَّانِي عْدَّانِي” لأنها كانت تتوأم تماما مع طبيعة صوته وإمكاناته، وتتدفق منه في شحنة عاطفية قوية، مكونة من مشاعر ترمي إلى التعبير عن التطريب، ونجح الشريط نجاحا كبيرا. وصارت حديث الساعة، لأنها كانت آية في الإبداع موضوعا وكلمات ولحنا وأداء، وذهب أهل الصنعة في هذا الإنتاج الجديد، وصاروا يبحثون عما يعيدون به حساباتهم في مستقبل الأغنية الأمازيغية. ويكون من الإنصاف أن هذا التكامل بين الكلمة واللحن والأداء الموسيقي والبوح الصوتي هو ما جعل أغنية “عْدَّانِي عْدَّانِي”، عملا متفردا.
أتوقف قليلا، مستحضرا شريط ذكرياتي في استوديوهات التسجيل مع شركة الإنتاج الفني، وسنوات الشباب مع الأخوين قمار، صوت خنيفرة، صوت البساتين، أفراح فاس، وأخيرا شركة الفاسيفون، تلك الخطوة التي حفزتني لملاحقة النجوم والمشاهير لأسبر أغوارهم وأحصل على الكثير من أسرارهم، فتولدت الصداقة وقويت جسور المودة والثقة ووجدت نفسي قريبا إلى أقصى حد من الكثير منهم، وكانت معرفتي بالفنان محمد مغني وطيدة وقديمة، كانت تتجدد من يوم وآخر، فإن لم تكن الظروف تسمح باللقاء الدائم بيننا، فقد كانت أغانيه التي تنطلق من الأشرطة، هي اللقاء العفوي بينه وبيني!
وسوف أتوقف عند محطة هامة في استوديو الفنان الكبير الاستاذ يونس ميگري، بمدينة الرباط، أثناء تسجيل قطعة “عداني عداني” بمشاركة كل من الشريفة و الفنان ميمون أورحو والفنان عبد العزيز أحوزار في بداية مشواره الفني كضابط إيقاع، كنت أنذاك المشرف الفني والتقني على هذا العمل، لحظت أثناء أداء الفنانة الشريفة للقطعة” عداني عداني” كأنها تغني لمحمد مغني فتطربه، ومحمد مغني يصغي إليها فيزيدها نشوة وطربا في تلك اللحظة شعرت أن صوتها يخرج من قلبها، بالفعل كان صوتها في أوج قوته، التقت فيه النبرة الصافية بالذبذبة المرنة بالأداء الأنيق، تغني بكل صدق وعمق، بكافة الأحاسيس والمشاعر،
ويعد صوت الشريفة من الأصوات الحساسة، المرهفة، المعبرة،…إنها متعددة المقامات، واسعة المساحات، إذا يمكن القول بأن صوتها لا يقتحم الأذن فقط بل يتسلسل وينفذ إلى أعماق المستمع بقدرتها الخلاقة على التعبير المؤثر عن شتى الانفعالات … اتجهت أيضا في أدائها، إلى ما يمكن أن نسميه بالأداء الهامس الصادق، وهذا النوع من الأداء ينسج علاقة حميمية، ذات بعد روحاني يتميز بالصفاء، بينها وبين المستمع الذي يشعر كأنه تغني له وحده، أو تبوح له بأسرارها وبمكنون قلبها… حتى أصبحت الفنانة الوديعة الشريفة، صادقة المشاعر، موهوبة، متفانية من أجل الأخرين وفِي سبيل فنها.
وللشريفة عدة أعمال مشتركة مع عدة قامات فنية، منها مع كل من الفنان ابروي علي أزلماظ، محمد مغني، و رحو المساوي، بعنوان” ثْزْرِيثِي أوُغَا تْگَاغْ الْهْمِّينُو”. و لقي هذا العمل اقبالا من الجمهور ولقد أشرفنا عليه أثناء تسجيله بأستوديو الحيمر بوعزة بمدينة الدار البيضاء الذي يعد من أقدم الاستوديوهات بالمغرب. و هذا العمل فتح شهية الشركات الإنتاج الفني لإستقطاب محمد مغني، لأن صوته يعطي للكلمات والأشعار شهادة الميلاد عند الجمهور. لأن أغانيه لقد أصبحت جزءً لا يتجزأ من الوجدان.
إن صوت محمد مغني، فيه كل المواصفات الفنية. له القدرة أن يغني طويلا، بدون أن يشعر المستمع بأنه ضعف عما بدأ به، بل العكس تحس بان صوته دكتاتور له سلطة، وفيه قدرة ومقدرة صوت صاحب نفوذ. صوت فيه الإعجاز والمقدرة وهذا يجعل المستمع يشعر بشعور الإعجاب، وكل من يريد أن يعرف كيف تكون قوة الصوت، وكيف تنطق الكلمة الأمازيغية بطريقة صحيحة وفصيحة، عليه أن ينصت إلى محمد مغن، الذي فات له أن حظي عام 1991 بأول تكريم من طرف “الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي”، عقب فعاليات “الملتقى الأول للأدب الأمازيغي”، بالدار البيضاء. كما حضي أيضا بتكريم من القناة الثانية 2M في برنامج “مسار” الذي يقدمه ذ. عتيق بن الشيگر. وحضر أيضا بجزيرة “كورسيكا” (مدينة ” باستيا” الفرنسية) لإحياء حفل تكريم لاعب كرة القدم المغربي “كريمو ميري”.
محمد مغني كان رجلا معتزا بنفسه، علاقته الشخصية تغلب عليها البساطة والتلقائية وعدم التكلف، وبط بينه وبين جمهوره جسرا من الألفة والمحبة دون قيود ولا تقاليد، فاكتسب الثقة والاحترام. لم يمد يوما يده لأحد، ولم يقبل المساعدة والعطف. وقد أنهكه المرض، ورحلته مع الآلام لم تنته، يتلوى من الآلام في الوقت الذي كانت فيه الرؤوس تتمايل من جمال روائعه، وكان اخر إصدار له قبل الاعتزال سنة 2011 بعنوان “أَنْكِينْ إِيگْنْ أَنْكِينْ أُورِيفَفَانْ”.
ومهما أوتيت من بلاغة القول وفصاحة اللسان، فلن أستطيع أن أضيف شيئا إلى مجد محمد مغني، إن عبارتي الجميلة لن تطاول أداءه الجميل، وكلماتي الرنانة لن تنافس عزفه وصوته، ولا أظن أنه في حاجة إلى كلمات تمجيد أو تخليد، لأنه ببساطة استطاع أن يخلد نفسه بنفسه عن طريق فنه الذي أعطاه عصارة العمر ورحيق الأيام لقد كان يحترق، ليظل فنه مشتعلا في الدروب.

باحث في الفن الأمازيغي الأطلصدر له مؤخرا كتاب “محمد رويشة: المرتجل العبقري”


الكاتب : (*)المكي أكنوز

  

بتاريخ : 04/11/2023