كتب أندريه بازان، أبو النقد السينمائي الفرنسي ومؤسس «دفاتر السينما» الشهيرة، ذات مرة في مقالته /أطروحته الرئيسية المنظرة للفن السابع، قائلاً إن هذا الأخير أتم الموضوعية التي بدأتها الصورة الفوتوغرافية. وكتب بعد ذلك بمنطق ثوري فكرياً أن الثورة السينمائية تخلد الزمن. هاتان المقولتان المؤسستان تحضران بالضرورة ولزاماً كلما أتيحت فرصة مشاهدة فيلم مُبدَع إلى حد الكمال أو مُبدَع بشكل يثير الحنين الوجودي القوي.
وليس بالضرورة أن يكون العمل تخييلياً أو عظيماً أو إنتاجاً ضخماً. لنتذكر الأشرطة القصيرة لروبرتو روسيلليني مؤسس الواقعية الجديدة بإيطاليا ما بعد الحرب الكونية الثانية. ولنأخذ مثال شريط «أموري» الذي خلد وجه آنا مانياني وهي متعلقة بسماعة الهاتف في لقطة متصلة واحدة. كل وقائع الشريط ترتسم على الوجه الذي يعكسها تصاعدياً حتى النهاية المفاجئة.
ولنعد مشاهدة «بائعة الخبز» للفرنسية إريك رومر، وهي من مؤسسي الموجة الجديدة بفرنسا وكان أحد نقاد مجلة «دفاتر السينما». علاقة حب عابرة في زقاق باريس خمسينات القرن الماضي. غدو ورواح وحوارات ومناجاة داخلية ترافق قصة تتنامى لتمنح مقطوعات فنية غاية في الحنينية التي لا تنسى بل تدفع العين إلى معانقة لحظة خلود تتجدد. هما فيلمان قصيرا بالأبيض والأسود كما لو لتكثيف قوة أثر الزمن وفعله في تأبيد الحياة في لحظة ما. فيلمان يمنحان الشهادة الأركيولوجية للباحث عن البدايات وتحكي قصتهما ارتباطاً بذلك كرسوم في جدار يجب تأملها طويلاً للقبض على سر الإبداع. والأمثلة عديدة في سينماتوغرافيات قوية في بلدان أخرى.
ومن ضمن هذه البلدان المغرب الذي عرف تجربة فيلمية فريدة قبل أن يدخل غمار الإنتاج السينمائي كما هو معروف عالمياً. فقد اتفق ثلاثة من أبرز المخرجين سنة 1968 على إخراج فيلم قصير يدوم ثماني عشرة دقيقة، وهم عبد المجيد رشيش وعبدالرحمن التازي والشاعر أحمد البوعناني. أما الفيلم فهو «6 -12»، والمقصود بالعددين هو مدة زمنية من السادسة صباحاً إلى الثانية عشرة زوالاً نقلوا فيها حياة الدار البيضاء ذات صباح من خلال عدسة شاعرية مسكونة بالفتوة السينمائية والأمل في الفن. حين نشاهد الشريط ننتقل فجأة إلى مدينة أخرى، إلى كازابلانكا (في تسميتها اللاتينية) مغايرة، لن يراها أحد بعد ذلك. نرى فضاء حضرياً يستيقظ من ليل هادئ ينسحب حثيثاً ليترك الصباح يتسلل إلى دروب المدينة بدءاً من المدينة العتيقة إلى المدينة الحديثة. يتم التقاط النوافذ والجدران والأبواب والمرور في الأزقة أولاً في أردية تحارب بين زمنين فارقين كإعلان لبدء حياة، ثم ثانياً في حلل النور الطاغي. بعدها تمتلئ هذه المدينة بالحركة أكثر فأكثر، حركة البشر وحركة الحديد توازياً مع ضوء الشمس. هنا السينما إضاءة وهي هنا أيضاً قصيدة شعرية ترسمها عدسة الكاميرا التي لا تواجه بل تخاتل ما تود الإمساك به، ويكتبها التوليف- المونتاج الذي تكلف به البوعناني فنظم إيقاعاً يعطينا عالماً من العلامات والرموز الجامدة والحياة تتوالف في ما بينها.
لدى مشاهدة هذا الشريط يبرز السؤال الواجب: أين اختفت هذه المدينة النابضة الحداثية حيث الأجساد حرة ومنطلقة وحيث العمارة نظيفة وحيية؟ هل هي السينما المبدعة تُجَمِّل عبر لمسات فنانين كانوا يحملون طموح الإبداع الفريد، أم هو واقع الحال حينها؟ الجواب واضح ولا يحتاج إلى كثير تفكير، فهما معاً في تكامل ملحوظ: عندما بدأت السينما في المغرب كحلم مغربي، فعلت ذلك في عالم حضري كان حلم الحداثة يسكنه في العمق ولم تكن الردة والإحباط قد تسللا إليه بعد. ومعروف أن الفن السابع ابن الحداثة بامتياز. فلا غرو أن يتجلى ذلك في سينما ناشئة متقنة بشكل كبير وخالدة، تخلد لحظة حلم مثلته مدينة، وجسده هذا الشريط الرائع مؤبداً حالة جمال….
الآن ضيعنا جزءاً مهماً من عناصر ذاك الفن وذاك الزمن. فهل نتذكر؟