أشعثُ الرأس، مشاءٌ، باب التبانة في طرابلس أم في اللاذقية، مغبر ، و أغبر ، حاد النظر ، أراد أن يغير العالم بعصا سحرية . فكان اللقاء، من خلال رسائل مغمورة حول قضية من القضايا ؛ أعدموا مناضلا، فسقطت سايغون في أيدي الغزاة .
لماذا عندما نقرأ هذه العبارات يتملكنا جنون ؟ لماذا هي حمالة حطب ؟ولماذا هي حمالة رموز ؟ولماذا هي حمالة ألم وأمل؟ اللقاء عبر الرسائل أم عبر أفق انتظار الرواية، بعدما انتصرت على الشعر ؛ فأردته قتيلا يتضرج في دمائه … يتمرغ، وينتفض من وسط قوافيه .
ثلاثون عاما كتب واكيم أستور مقدمة لرواية ” الدقل ” لحنا مينة، أقرؤها ، وأنا متسلل إلى مركز دراسات اللغة العربية بثانوية روني ديكارت بالرباط ، كم أعجبني العنوان “الدقل” . كلمة معرفة دالة على البحر و على السفينة … أعجبتني لأن البحر غطاء للفقراء و المعوزين ، و المطرودين ، و المهمشين في ملكوت هذه الحياة .
البحر ، ولا شيء غير البحر ، يُنتزع منه قوت الضعفاء، فيَسحل المغامرين، وفي العدوة الأخرى، يكون ملجأ للأثرياء في شموسه الغويرة، وفي يخوته كالأطواد ، تمخر عنان الألم، والرقص على جراح الآخرين . هذا البحر قتال وخؤون… ينتظرون عودة الأب … ينتظرون عودة الأمل .هل كانت له قدرة أن ينزل إلى قعر هذه الباخرة النتنة ؟ لقد مر أبي من هذا السرداب المميت … أخفيت الأمر عن أمي ،التي تنتفض كدجاجة مذبوحة ؛ القشة التي قصمت ظهر البعير . أمي تكمد جراحها ؛ لأننا جميعا ننتظر عودته من السفر ، وليس من الغرق …
لقد قال لي النائب العام إن الجثة لم تحافظ عليها من ضواري البحر يا كلب ، فأنت التي دفعتها نحو التشويه ، وأكثر من هذا فالدم الفرنسي لا يسقط هدرا
و غثاء بالتقادم . و ماذا عن بلد المليون شهيد ؟أوماذا عن انتفاضة الكوميرا بالدار البيضاء ؟ وماذا ؟ وماذا؟ وماذا عن حادث دونشواي؟
الوصايا العشر ، وأنت بدون أصل و لا هوية … فسوريا لم تعانق الحرية بعد، وأنا أقرأ حنا مينه ؛ تاريخ للشراعات و العواصف و المستنقعات ، التي تفور بالدم . ربيع وخريف و بودابيست … والحب بين الربيع و الخريف على كراسي الجامعات . وبوخاريست و أشياء أخرى … كلها ترمي هكذا شرارتها كالأسياخ .
أن تقرأ حنا مينه كأنك تقرأ شمسا في يوم غائم … تصبح عرافة كوماي كما تغنى بها جبرا إبراهيم جبرا ، وهو يحمل حجرا ؛ ليقصف بها دبابة أو فرقاطة إسرائيلية ، وهي تجوب حيفا ، أو خان يونس ، أو دير البلح . ولأن الذين سبقوه فعلوها ، كما فعلها البحر في إبداعات حنامينه وفي مجلات “باري ماتش”، أو ” لو فيغارو ” عندما انتشرت ، انتشار النار في الهشيم ؛ صورة إدوارد غير السعيد ، وهو خلف الحريق و المحرقة الكبرى ، يبكي كوفية فلسطينية علقت بفوهة دبابة إسرائيلية، وهي تنفث سمها في صدور بريئة .
ما أحلى السعادة !وأنت ترى هكذا مثقفين يلعنون ، وهم جاحدون ، وهم يتقاسمون ، ويلعنون … فالقوي هو الغني ، فما كذبت مقررات ، ولا منشورات … ما وجدنا ،ونحن صغارا ، سوى الفقر يمشي ، ويسلم على الأهل و الأحبة . القاووش و أشياء أخرى داخل هذا المبنى اللعين ،طفل تغتصب فيه براءته ويُستباح جسده البض …
سجن بالداخل ، وآخرُ بالخارج . فالدولة تقتل المواطنين ،عندما منعت عنهم الحبوب . فأبي عمد ،هو الآخر ، إلى العنف تجاه هذه الشرذمة التي تصلب الرقاب ؛ فخرج إليهم شاهرا سلاحه ، أراد أن يقتل الكابرنات الذين يُصنعون من زليج ، ورخام البلدي ؛ لا قيم إنسانية ، ولا عاطفية … يسحلون ، و يقتلون ، و يزنزنون الزنازين ، ومفاتيح العمر بين أناملهم … كانت نظراتهم تقتفي أثر والدي ، وهو يغوص … ويغوص لا صوت يعلو فوق صوت القتل ، و الإبادة الجماعية … أهي دورة الطبيعة ؟ أم لعنة حلت بالبلاد والعباد؟
حنا مينه غنى للعروبة أعذب الألحان … ورحل . رحل في ذاكرة معطوبة يملؤها الفاست فوود ، و تيك توك و الأنستغرام … والكل على أهبة للسفر في عوالمَ قرمزيةٍ من الكذب والبهتان ، و البعد عن الحقيقة . ولأن حنا مينه نهل من التاريخ أهم رواياته … فإنه سيظل شامخا في السرد العربي ، بناءً على منفلت التخييل الذي يصور لنا عالما من المهمشين ، و المطروحين في أقبية الذل ، و العار … وخارج الحضارة والتاريخ .
القاووش … وأشياء أخرى
الكاتب : ذ. رشيد سكري
بتاريخ : 09/12/2024