أطنب العديد من الباحثين التصوف في المثالية والميتافيزيقية حد الغدق، حيث تم تفسير ظاهرة التصوف بحد ذاتها، أي كونها ظاهرة عالمية مرتبطة بالدين – نحن لا ننفي الشرط الأول كونه كونيا – أو يغترف من تيارات فلسفية ذا صبغة دينية كالأفلاطونية المحدثة. إن التصوف لا ينبلج ذات صباح من الدين للناظرين بالضرورة. لهذا ننفي القول الرائج المزعوم أن التصوف الإسلامي مصدره الإسلام كدين إلهي وأن هناك علاقة سببية بينهما، حيث يغفل غمار من الدارسين الظروف التاريخية التي حملت البذور الجنينية للتصوف.
نحن من خلال مقالتنا سنقارب التصوف الإسلامي بقراءة مادية -مادية تاريخية- يعني العلاقة الدينامية القائمة بين الفرد ومجتمعه، بين وعيه والواقع، وبمعنى أوضح وصريح، هو أن التصوف إنما هو نتاج واقع اجتماعي ألزمته الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في صدر الإسلام والعصر الراشدي وفي عصر الدولتين الأموية بالخصوص والعباسية.
يقول الدكتور الحبيب الجنحاني «إنني أميل إلى الاعتقاد أنه من الصعب فهم كثير من القضايا الخطيرة التي واجهت الدولة العربية الإسلامية الناشئة في المدينة، وما نتج عن ذلك من تحول جذري في هياكل المجتمع العربي الإسلامي من دون التعرف بدقة على أساليب التنظيم الاقتصادي والمالي التي برزت في المدينة غداة هجرة الرسول صلى الله عليه إليها، وما مرت به هذه الأساليب من تطور وتحول. « (المجتمع العربي الإسلامي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، عالم المعرفة، ع:319 سبتمبر2005، ص:15). وسننطلق لنفسر مرمانا وبغيتنا من نشأة الحركة الزهدية والتصوف التي ستكون في بنيتها الفوقية ذات طابع ديني لكن جوهرها موقف اجتماعي-سياسي.
يقول رينالد نيكلسون « القرن الأول في الإسلام(..) العوامل التي شجعت على ظهور الزهد وانتشاره، كالحروب الاهلية الطويلة الدامية التي وقعت في عهد الصحابة وبني امية، والتطرف العنيف في الأحزاب السياسية وازدياد التراخي في المسائل الأخلاقية وما عاناه المسلمون من عسف الحكام المستبدين» (في التصوف الإسلامي، ترجمة ابو العلا عفيفي، ص:47).
بدأت حركة التصوف وجودها الجنيني ببدء حركة الزهد في القرن الأول الهجري(7م)، فقد اكتسى الزهد طابعاً سلبياً عدمياً بمعنى اعتزال النشاط الاجتماعي والانقطاع الكلي عن الحياة اليومية والاعتكاف على الطقوس الدينية والعبادة، وكان هذا السلوك ينطوي ويحمل في جوفه موقفا سياسياَ ضد ما يقع من صراعات دامية مدوية بعد مقتل الخليفة الثالث والبؤس الاجتماعي في عهد الدولة الاموية (التزام الحياد وعدم الالتحاق بأي من الفريقين وقالوا:» لا يحل قتال علي ولا القتال معه «) هزت أركان المجتمع العربي الجديد _بداية تشكل المجتمع لا كقبائل متفرقة_ إذ أن الصراعات السياسية كانت تفسيراً فوقياً لما كان يجتمع في قاعدة المجتمع من تناقض طبقي وبلطجة. وأخدت الحركة الزهدية تستمر كظاهرة وتنتشر وكان مضمونها معارضة الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة في ظل الاستبداد الأموي والتمايز الطبقي فخرجت من مرحلة الاعتزال الى مرحلة الوقوف ضد التيار الجارف في عهد الحجاج الطاغية، حيث أن عبد الله بن عمر وهو من الزهاد قال :» ما شبعت منذ مقتل عثمان». <<ولم يكن عبد الله بن عمر، حين أطلق صرخته هذه، يشكو جوعه هو شخصياَ، لأنه كان في ذلك الحين لا يزال ملتزما سلوك الزهد الممعن في زهده، وانما كان يريد بذلك اعلان موقف المعارض للمظالم الاجتماعية السائدة عهد الحجاج، بقدر ما كان سلوكه الزهدي نفسه تعبيراً عن هذا الموقف المعارض. أي ان الزهد، في تلك الحقبة، لم يبق سلوكاً عدمياً يعبر عن موقف ((الحياد)) والهروب من المعركة السياسية الدائرة، بل دخل المعركة منحازا الى صفوف المناهضين للتسلط الاجتماعي_السياسي الجائر>>(حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، المجلد2،دار الفارابي-بيروت،1979،ص:152) اذن الباعث وراء الزهد كان هو الظلم الاجتماعي والبلطجة السياسية، فخرج الزهاد إلى إدلاء بموقفهم منحازين الى صفوف المناهضين للتسلط الاجتماعي والسياسي. فيكون الرد إما أولا: كما عند الحسن البصري حين قال: « كلمة باطل حقنت بها دماً «، أي أنه قد اضطر ان يقول في علي مالم يكن يعتقده فيه، وانما فعل ذلك حفظا لحياته هو شخصيا. وقد رأينا معبدا الجهني وعطاء بن يسار يأتيان الحسن البصري، فيقولون له :»يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقولون : انما تجري اعمالنا على قدر الله تعالى» فيقول لهما الحسن البصري :»كذب أعداء الله». وغير البصري الكثير. أو إما ثانياَ: الالتحاق بإحدى الانتفاضات المسلحة ضد الدولة الاموية «كانت حركة الزهد، في الحقبة التاريخية المذكورة، تحمل في أحشائها بذور اتجاهات جديدة في النظر الى الحياة والكون، وفي تأويل النصوص الإسلامية لتحديد موقف جديد تجاه الشريعة وتجاه النبوة والامامة وغيرها من مفاهيم الإسلام، ولاكتشاف مصادرجديد للمعرفة، ولرؤية مكانة الانسان في الوجود بصورة جديدة «( حسين مروة، نفس المرجع، ص:156).
على تخوم القرن الثاني الهجري (8م) بدأت حركة الزهدية تنفصل عن عوامل اجتماعية وتتخد لنفسها بعداً دينيا ً يعني أن الطابع الديني بدأ يتغلب على مضمونها الاجتماعي_السياسي. فبدأت الحركة الزهدية بنوع من التحرك والتجلي فنعكس الواقع على الوعي وبدأت مرحلة «علم المعرفة الذوقية» (التصوف الفلسفي) وتأسيس نظريات ومفاهيم فلسفية، فألقت هذه الظاهرة الجديدة أحجارها في بحيرة الزهد الراكدة.
نحن هنا – في مقالنا- خلاصة وضعنا التصوف الإسلامي في مكانه التاريخي وأخضعناه لمسطرة النقد وإعادة بنائه من جديد تحت ضوء نظرتنا المادية التاريخية.
باحث في فلسفة الأديان.