«القريب والبعيد» ومسألة بناء الموقف قرن من الممارسة الأنثربولوجية في المغرب

إذا رغبنا في تقييم المُنجز الأنثربولوجي المكتوب عن المغرب، وجب علينا أن نعود إلى كتاب «القريب والبعيد، قرن من الأنثربولوجيا في المغرب». ما الذي يُبرر ذلك؟ الكتاب عبارة عن رؤية منهجية تستعرض حصيلة قرن من ممارسة الأنثربولوجيا في المغرب ضمن ثلاثة خطابات أساسية. والحق، يجب أن يقرأ هذا التأليف ضمن حلقات التراكم الإستوغرافي الذي استهله حسن رشيق منذ ثمانينيات القرن الماضي.

 

ينشغل الكتاب بمسألة بناء الموقف، والحال أن مسألة بناء الموقف في المجتمعات التي هي في طور تشكيل هويتها الخاصة تتخذ بُعدا وظيفيا في عملية تشييد الخطاب الأنثربولوجي المعاصر، إما في اتجاه إعلان القطيعة معه أو في اتجاه إعلان تبني تصوراته…الموقف هنا يُفيد تشكيل الهوية، والهوية بالمعنى الذي يُفيد بأنها سيرورة غير مكتملة، ونسق دائم التشكل، ونقاش مفتوح ومتواصل باستمرار على تجاذبات الحساسيات السياسية.
لا يجب أن ينصرف القصد نحو بناء أنثربولوجيا أهلية أو محلية وفق التوصيف الشائع، أو حتى بفك الارتباط مع عطاءات الإنتاج الأنثربولوجي وبأغلفته البحثية المتداولة، بل ببناء أنثربولوجيا مغربية تُسهم في تقديم فهم جديد ومغاير للوضعية الإثنوغرافية، وبغربلة القديم وإعادة بعثه وفق شبكات مفاهيمية وقوالب نظرية واشكالات جديدة. لا يتأتى هذا الجُهد إلا عبر القيام بعملية الهضم. ومسألة الهضم حلقة مفصلية في تشييد الخطاب.
في سياق الموقف دائما، على ضوء بناء الموقف من التراث الأنثربولوجي يمكن تحديد غايات وأبعاد الخطاب، ويمكن موقعة القراءة الأنثربولوجية ضمن شبكة القراءات التي تفاعلت مع حصيلة التراكم الأنثربولوجي. الأمر يُذكرنا بحالة العين البريئة التي يُمكنها أن تُبصر الحقيقة مثلما نجد لذلك صدى في طروحات الفيلسوف كارل بوبر . بفرز العلاقة بين الملاحِظ والملاحَظ وقلب الأدوار بينهما. باختصار، بما يمكن وسمه بالمسافة. المسافة المقترنة بالانتماء، وهي مسافة مضطربة يصنعها الباحث بين ما ينتمي إلى دائرة البعيد، وبين ما ينتمي إلى دائرة الحميمي.
في المدار نفسه، وجب مثلما يدافع عن ذلك صاحب خطاطة الشيخ والمريد، رصد الفعل الإنساني في شرطية وجوده، وفق نسغ ظروفه المحيطة به. الفعل هنا سلسلة بنيات وأفعال تهم المجتمع والجماعة والفصل…وينضاف إليها مسألة المكانة، ليست المكانة دائما شرطا للحكم على الصلاحية العلمية، يمكن لجامعي أن يستجيب لطلب بيروقراطي كما هو شأن تحريات إدمون دوتي، ويمكن لموظف كولونيالي أن ينجز أبحاثا أكاديمية كما هو حال جاك بيرك . وحتى الفضاء، ميدان البحث، ليس الفضاء الذي سار فيه شارل دوفوكو وأوغست مولييراس هو نفسه الفضاء الذي جال فيه جورج هاردي وروبير مونطان وجاك بيرك، الأول فضاء وعر ومنذور للمشاكل، والثاني فضاء للسلطة ومرتبط بوظيفة إدارية.
نستهل هذه القراءة بالتصريح التالي: «…أن أكون مغربيا لا يعني أنني أستطيع المشي بيدين في جيبي، أتلذذ كؤوس الشاي، وأدخل في حوارات تنتهي بعبارة: أعرف ذلك، أعرفه…نعم أعرفه، أحقا هذا…إن وضعي كمغربي لا يتيح لي بالضرورة مجالا سهلا ومباشرا للوصول إلى ما تقوله الساكنة، وتفعله في وضعيات محددة، فبالأحرى الوصول إلى طبعهم… « ص 34.
انطلاقا من هذا التصريح نستطيع أن نُحدد زاوية التناول، إعادة النظر في العلاقة مع التراث ومحاولة بناء الموقف. وحده البحث في الخطاب الأنثروبولوجي من يضعنا في عمق الانزياح أو المفارقة بين خطاب الأمس وخطاب اليوم. بالأمس كانت الأنثربولوجيا تحمل وجاهة أفكارها من صلب مشروع التوسع، واليوم، صارت أفكارها موضوع نقد وتجاوز…أوَ ليست المعرفة الأنثربولوجية ابتداء وانتهاء معرفة التجاوز، معرفة الهدم وإعادة البناء؟
معمار الكتاب، يُشيِّد الموقف عند حسن رشيق على ثلاثة أعمدة مُوجهة: المحدد المنهجي ويقتضي التحكم في الخلفيات والاتجاهات النظرية المشكلة لسوسيولوجيا المعرفة؛ المحدد الاجتماعي ويقتضي التحكم في مسارات الأفكار والرؤى والتمثلات…والمحدد الأنثربولوجي ويقتضي التحكم في سياق إنتاج المعرفة وشرطيتها التاريخية. الجمع بين هذه المحددات هو إعادة طرح سؤال التراث. كلمة بسيطة لكن باستعمالات متعددة. لقد آن الأوان لكي يتحول الملاحِظ إلى ملاحَظ. لقد آن الأوان من أجل إعادة النظر فيم ا شيَّده شارل دوفوكو وإدموند دوتي حول ما سُمي ب «طبع المغاربة»، أو لوي برونو وجورج هاردي حول «روح المغاربة»، أو جاك بيرك حول «العقلية الفقهية المغربية»، أو إرنست كلنير حول «الأسلوب الديني»، أو واتربوري حول «الأسلوب السياسي»، أو كليفورد كيرتز حول «الإسلام المغربي»…
في الكتاب، يلح حسن رشيق على أن الملاحِظ والملاحَظ لا يتقاسمان نفس الرؤية، ولا يشتركان في نفس الحمولة، ولا يرتبطان باللغة ذاتها. وإذا كان الأمر كذلك، ثمة حاجة إلى النأي عن نزعة التمركز الإثني من أجل تشكيل أنثربولوجيا تقترب من حقيقة مجتمعات المعاينة والبحث.
في ما مضى، ظل التراث الأنثربولوجي لسنوات قابعا في أقبية الإهمال. نعلم أن جيل السبعينات كان يزدري المقاربة الأنثربولوجية بحكم تداخل علاقات الهيمنة بين الملاحِظ والملاحَظ. هيمنة ظلت تعيد التذكير بالجرح النرجسي الذي عانت منه المجتمعات التي خضعت لعُنف الرجَّة الاستعمارية. وحتى عندما بدأت اللحظة الاستعمارية تسير نحو التفتت، وتفقد بعضا من حرارتها وخصوبتها استعرت النقاشات الأكاديمية حول أسئلة التراث والهوية والنحن والآخر…في كل طرح كانت تعاد أسئلة الاستعمال أو التجاوز، التبني أو القطيعة.
في خضم هذا التتبع برزت ثلاثة مواقف رئيسية من التراث: موقف أول سار في اتجاه الإقصاء والرفض، وموقف ثان جنح إلى عملية الإفراغ من الحمولة الكولونيالية، وموقف ثالث دلف إلى إعادة النظر وتقييم الإنتاج الأنثربولوجي. اليوم، لم تعد الأنثربولوجيا معنية كفاية بفكرة المسافة، سواء من حيث القرب أو البعد عن مجتمعات الدراسة، بل صار اهتمامها اليوم ينصب على تطوير نظرة هادئة ورصينة ونقدية تجاه مجمل الإنتاج، سواء كولونيالي أو ما بعد كولونيالي. كما لم تعد التقابلات الثنائية تشكل براكسيس العمل الأنثربولوجي، بل تم الانتقال نحو البحث عن التجانس في زحمة المركب والمختلف.
يُنبه حسن رشيق في هذا الاستحضار إلى مسألة على قدر كبير من الأهمية، ترتبط بالمسألة اللغوية في المغرب، ذلك أن التنوع اللغوي في المجتمع المغربي يزيد من تعقيد ممارسة مهنة الأنثربولوجيا. وإذا أضفنا إليها شكل وطبيعة الإقامة بين مجتمعات البحث والاستقصاء ، يمكن فرز الإسهامات المتحاملة عن الأبحاث الجادة والرصينة.
لقد دأب البحث في العلوم الإنسانية، عموما، على التموقع في وضعية الراحة في التصنيف، بين وضعية الباحث الأجنبي، المتحامل والمتردد، والباحث الأهلي الواثق والمطمئن…بين الوضعيتين، لا يمكن إنتاج معرفة أنثربولوجية تحظى بالتماسك إلا ببناء وضع مرن يزاوج بين الأُلفة المحلية وبين النظرة الخارجية، بين الاقتراب والابتعاد، بين الحضور والغياب…
لماذا الموقف؟ على ضوئه يمكن أن نسل الأطر المعرفية التي استندت عليها الأطروحات الكولونيالية عن الحقيقة الاجتماعية، ونكشف عن شرطيتها التاريخية وخلفياتها الاستشراقية، الاستعمارية، والإيديولوجية…ومن خلال الموقف يمكن أن نتفادى السقوط في نزعة التمركز العرقي Ethnocentrisme، ونؤسس لمعرفة أنثربولوجية تنزع عن كل معرفة كولونيالية طابعها الكولونيالي
Décolonisation.
نعلم اليوم في مدارات البحث العلمي في الجامعات الغربية كيف استطاعت الأنثربولوجيا أن تنتقل من معرفة مُدانة وغير بريئة إلى معرفة تشكل موضوع طلب علمي متزايد من طرف كل أطياف المجتمع العلمي، وفي مسيرة هذا الانتقال تمكن هذا المبحث الفتي من الانفتاح على نتائج وخلاصات الدراسات الثقافية من جهة، وإسهامات الدراسات ما بعد الكولونيالية من جهة ثانية.
عودة إلى مسألة الموقف، عصب البناء في معمار التأليف، تم تشييد الموقف من العطاء الأنثربولوجي حول المغرب بالاستناد إلى التاريخ، تاريخ البحث في الخطاب، من خلال استحضار ثلاث لحظات زمنية كبرى في تشكل اهتمامات البحث الأنثربولوجي. الكتاب من حيث التغطية الزمنية يعالج قرنا من تشكل مسار نسق معرفي، وفي مدارات التشكل تفاعلت قطائع ومنعطفات، اتجاهات وتيارات، مدارس ومقاربات، أفعال وردود أفعال…باختصار، قرن من التوجس الممزوج برهانات الإيديولوجيا، والتبني المنفتح على مقاربات متعددة التخصصات. يكفي فقط أن نعرف أنه في ميدان المغرب تفاعلت عدة مقاربات أنثربولوجية داخل نسق واحد من تطورية دوتي إلى تجريبية وسترمارك وبنيوية كيرتز ووظيفية كلنير…
من حيث التصور المنهجي يعمد حسن رشيق إلى محاولة تقديم قراءة نسقية ذات بُعد تركيبي عن العطاء الأنثربولوجي المكتوب عن المغرب. في سياق هذه المحاولة يجتهد حسن رشيق أكثر في تفكيك بنية الخطابات التي تناولت المجتمع المغربي. يتعلق الأمر من حيث الاستحضار الزمني بثلاث لحظات تاريخية كبرى: لحظة أولى قبل كولونيالية التمعت فيها أسماء من قبيل شارل دوفوكو وأوغست مولييراس وميشو بليير وإدموند دوتي…ولحظة ثانية كولونيالية بامتياز برز خلالها كل من إميل لاوست وروبير مونطان وجورج هاردي وجاك بيرك، ولحظة ثالثة ما بعد كولونيالية برز من خلالها إرنست كلنير ودافيد هارت وجون واتربوري وكليفورد كيرتز…
مقصدية التأليف عند حسن رشيق ترتبط بفهم المحددات الثقافية والبناءات النظرية التي أنتجت حول المغرب في فترات متباعدة من حيث الزمن ومن حيث سياق التأليف، مسترشدا بتجربة ميدانية تتعدى ثلاثة عقود من الزمن زاوجت بين البحث في الميدان، والبحث في الخطاب. في واقع الأمر، يقر حسن رشيق بأن الخطاب الأنثروبولوجي ظل على هامش التداول الجامعي خلال سبعينيات القرن الماضي لاعتبارات هوياتية. علينا أن نتذكر في سياق هذا الاستبعاد مقولة العروي: «…قد يأتي يوم يثور فيه المغاربة على مفهوم التاريخ ويعوضونه بمفاهيم أنثربولوجية، عندئذ سيكتبون في اتجاه مختلف». علينا أن نتذكر في السياق ذاته مقولة السوسيولوجي إميل دوركهايم»…على التاريخ إن أراد أن يكون علما أن يصير أنثربولوجيا اجتماعية…».
الكتاب في أصله، مثلما يفصح عن ذلك مترجم الكتاب حسن الطالب، عبارة عن حوار ومناقشة؛ حوار مع رصيد الإنتاجات الأنثروبولوجية المكتوبة عن المجتمع المغربي، ومناقشة مع الأفكار التي أنتجت حول الدين والعادات والطقوس…وبصيغة أخرى، الكتاب هو نقد واستكمال؛ نقد للمتن الأنثربولوجي ولأسسه المعرفية وأطره النظرية… واستكمال للنقاش الأنثربولوجي حول سِجلات معرفية لا تزال مفتوحة أمام الباحثين. يُشرك حسن رشيق قارئيه في الموقف الذي يقر ب»خيبة الأمل» من القراءات التي تفاعلت مع المتن الأنثربولوجي. لقد عمدت كل القراءات إلى محاولة نزع الطابع الكولونيالي عن الدرس الأنثربولوجي، والبحث عن منطقة الراحة في الفهم والاستشكال، والحال أن الموقف يجب أن يتأسس على مقاربة جريئة تقترب من حقيقة الفاعلين دون أن تدينهم. وبالعودة إلى مسألة التقييم، دائما ما يصاحب هذه العملية استحضار بُعدين أساسين: بُعد اللغة وبُعد مدة الإقامة…وللخروج من عمق هذه السجالات التي صاحبت ولادة وتشكل الأنثربولوجيا في المغرب يقترح حسن رشيق ضرورة تملك أنثربولوجيا مغربية محددة الموضوع. ومن داخل هذا التملك يجب إعادة الاعتبار لحقل الدراسات الثقافية التي أهملت لردح من الزمن. يجب أن يُصرف الجهد حسب رشيق دائما نحو توطين أنثربولوجيا حيادية لا تعير الاهتمام لحقوق الانتماء ولا إلى ضرورة تبني موقف السجال مع المتن الكولونيالي، بل إلى إبقاء المسافة الضرورية مع الخطابين معا، والعمل على تقييم مجمل لحظات البحث الأنثربولوجي عبر تملك أسلحة نقدية قادرة على فرز مستويات الخطاب.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 14/07/2023