في فيلم «القرية المجاورة للجنة» للكاتب والمخرج الصومالي «مو هاراوي»، يصر الطفل سيجال (أحمد محمود ساليزيان) على تقاسم أحلامه، التي تشبه عالم «أليس في بلاد العجائب»، مع أبيه ثم مع أصدقائه. الحلم نفسه يكرره عليهم، حلم جميل كالفراشات، لذيذ كالحلوى، في بلدة يسيطر عليها الموت القادم من السماء. وتمنحنا قصة سيجال متنفسا كبيرا يبقينا على قيد الحلم، حتى في أشد اللحظات شراسة، بل إنه في الكثير من اللحظات يتحول إلى معلم لأبيه مامارغادي، (أحمد علي فرح)، حين لقنه الطريقة المثالية التي يستطيع أن يحمي بها نفسه من الطائرات المسيرة، أو حين أرغمه على الاعتذار عن الكذب بعدما أخلف وعده بزيارته في أيام الجمعة. ويبلغ هذا الأمر ذروته حين يتحول الموت في إحدى أقوى مشاهد الفيلم إلى رقصة. سيجال يرقص أمام قبر فارغ ينتظر جثة فتاة في العشرين من عمرها دون أي اكتراث بالموت، ودون أي اكتراث بما يمثله من مآس للصوماليين، أو على الأقل لأم المتوفاة التي فضلت البقاء قرب قبر ابنتها بوصفه قرارا لا رجعة فيه كما لو كانت مجاورة القبور هو الرد النهائي على الموت المسلط على القرويين هناك.
يبدأ هاراوي فيلمه بنشرة أخبار واقعية باللغة الإنجليزية عن هجوم أمريكي بطائرة «درون» في الصومال على سيارة كان على متنها عالم فيزياء على صلة بالإرهابيين، مع رسومات توضيحية على الشاشة تجعل الهجوم شبيها بألعاب الفيديو. ثم تنتقل الكاميرا مباشرةً إلى جانب طريق صومالي مغبر، حيث يحفر الرجال (وأيضا الحفارات التي تعود ملكيتها إلى شركات البناء) القبور لمواراة جثامين أغلب أصحابها توفي تحت القصف.
مامارغادي، (أحمد علي فرح، الذي يروي هذا الفيلم قصته) هو أحد هؤلاء الرجال الصوماليين الكادحين الذي اتخذ من دفن الموتى عملا أصبح تدريجيا أقل ربحًا ما دامت الحفارات بدأت تستحوذ على كل الأعمال التي كان يقوم بها هؤلاء الرجال.
يعيش مامارغادي، في كوخ متواضع، ولكنه مريح، مكون من غرفة واحدة، مع ابنه الصغير «سيجال» (أحمد محمود ساليزيان) وشقيقته أراويلو (آنا أحمد إبراهيم) المطلقة حديثًا لرفضها أن يتزوج زوجها امرأة أخرى لأنهما لم يرزقا بأطفال، وهي خياطة ماهرة تحلم بفتح محلها الخاص بالخياطة. غير أن جميع أفراد العائلة يواجهون مسارات صعبة، إذ على مامار غادي أن يكسب قوته من الأعمال الوضيعة التي كان يقوم بها (دفن الموتى، نقل السلع المهربة) أو الالتحاق بإحدى الشركات بأجر زهيد. أما أراويلو فتعوقها القوانين المحلية المتعلقة بالنساء العازبات في الحصول على قرض بنكي لتمويل المشروع، بينما سيجال، الطفل الذكي والنبيه باعتراف مديرة مدرسة القرية، يواجه خطر إغلاق المدرسة والغرق في العمل الوضيع الذي كان يقوم به الوالد. غير أن مامارغادي يحسم الأمر ببذل كل ما في وسعه لإرسال سيجال إلى مدرسة في المدينة بينما تجد أراويلو التي لا تعرف الكلل ولا تعرف الصبر الذي لا ينتهي، طرقها الخاصة المبتكرة لتحقيق طموحاتها، حتى لو اقتضى منها الحال ذلك البحث عن «زواج أبيض» لتسهيل أمر القرض.
يشير الفيلم، بدون مواربة، إلى التهديد الدائم الذي تمثله الحرب في الصومال المضطرب. فمامارغادي يأكل من الموت، لكن هذا العمل هو الآخر، وبسبب ارتفاع عدد القتلى، جلب منافسين أقوياء. هناك القصف الأمريكي، وهناك المقابر الجماعية، وهناك تجارة السلاح، وهناك أيضا الاحتجاج المحلي ضد قوارب الصيد الأجنبية غير القانونية، وهناك التسرب الكيميائي الذي أودى بالأسماك، وهناك البطالة والاستغلال المجحف للعمال، وهناك إغلاق المدارس، وهناك مخدر القات، وهناك الجنون والسجن، وهناك القانون العرفي، وهناك التدين الهش. لكن مع ذلك، هناك الطفولة والحلم والحب. إذ نكتشف أن وراء «حفار القبور» قصة حب إشكالية، ذلك أن مامار غادي في لحظة بوح استثنائية يكشف أن سيجال ليس ابنه، بل ابن المرأة التي أحبها قبل أن تتركه وتوصي قبل وفاتها بتسليم ابنها إليه.
نجح هذا الفيلم في أن ينتزع منا مشاعر إنسانية قوية بانفراجات سردية تجعل من أبطاله شخصيات حقيقية، كأننا في قلب عمل وثائقي لأسرة يدعم بعضها البعض، حتى وإن لم يكونوا على خير وفاق. يكدحون، يحلمون، يتحركون في كل الاتجاهات لكسب لقمة العيش. لكن الأب يكذب ويهمل ويسرق ويعمل في التهريب، كما أن الأخت حادة في استخلاص ديونها من الآخرين، وذات شخصية قوية أمام الزوج والقاضي والأخ وشيخ القبيلة والزوج المفترض، فضلا عن قدرتها الكبير على العطاء. أما سيجال، فهو الحالم والنبيه والباحث عن أرض من حلوى. ألا ينشد الجميع في الصومال حياة حلوة وآمنة؟
يتميز هذا الفيلم ببلاغة متفردة على مستوى إيقاعه البطيء، ووقفاته الصوتية اللافتة، ولعبة الصمت التي لا يمكن القفز عليها. لا شيء يتغير في الواقع بين مشهد وآخر. قرارات صغيرة لأناس بسطاء، كما أن الحياة تمر ببساطة لا يخترقها سوى صوت الطائرات القادمة من مكان آخر، وحواجز العسكر، التي تومئ إلى الوضع السياسي الصعب في الصومال.
الفيلم تم تصويره على مدار ثلاثة أشهر في الصومال، بمهارة بصرية مذهلة من مدير تصوير الفيلم، المصري مصطفى الكاشف، الذي برع في تأطير الشخصيات بوضعها غالباً على حافة لقطة واسعة.
فيلم «القرية المجاورة للجنة» هو أول فيلم روائي طويل للكاتب والمخرج مو هاراوي الذي وُلد في مقديشو قبل أن يهاجر إلى النمسا في سن الثامنة عشرة، ليدرس بعد ذلك السينما في ألمانيا. وقد سبق له أن أخرج أفلامًا قصيرة منها فيلمان تدور أحداثهما في الصومال؛ «الحياة في القرن» (2020) الذي عرض في لوكارنو، و»هل سيأتي والداي لرؤيتي» (2022) الذي عرض لأول مرة في برلين.
«القرية المجاورة للجنة» للمخرج الصومالي مو هاراوي .. حتى الفراشات تطير إلى الجنة
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 03/12/2024