قوّض كتاب القصة التسعينية، في النماذج الدالة عليها، قوالبها الجاهزة وأشكالها المتقادمة، وألبسوها أردية لعبية جديدة، ودفعوا بتجديدها، على مستوى السرد، إلى أقصى حد، مستظلين بالمنجز العالمي الحديث، كما لو كانوا يكتبون بلذة بدائية أساسها الهدم وذروتها اللعب بكل شيء، حتى بعناصرها الحيوية. وليس معنى هذا الكلام أنهم انطلقوا من «نقطة الصفر»، ففتحوا فتحا مبينا على إيقاع «السبق التام» و»المغايرة الشاملة»، بل استفادوا- وهذا ما ينبغي أن نعترف به- من «أساتذة القصة» (الأمين الخمليشي، محمد زفزاف، محمد صوف، إدريس الخوري، محمد عز الدين التازي، مصطفى المسناوي، محمد الهرادي، محمد برادة.. وآخرين). بيد أنهم سافروا إلى سرديات عالمية أخرى، واستفادوا من منجزها.
لقد استطاع هؤلاء التسعينيون أن يقدموا قصة مضادة خلخلوا من خلالها كل الثوابت السردية، كما عملوا على تكسير الحواجز بين الأجناس، وبرهنوا على أن السرد ليس عقلا، بل انزلاقا مستمرا للمعنى الذي يسميه جاك ديريدا «اللعب الحر»، أي لعب الدوال. فـ»الدوال (الألفاظ) في حالة لعب دوما مادام لا يمكن تثبيت الدال في مدلول بعينه، لأن كل مدلول يتحول بدوره إلى دال هو الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. فلا يوجد مدلول «متعال» يضمن ويثبت المعنى» .
إن هذا اللعب الحر هو ما جعل كتاب القصة التسعينية، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم في العالم، يربطون عالمهم الحكائي بما يسمى أدب العامة، أي الأدب الذي ينهض على ما يسميه جيلبير دوران «الأنماط العليا للتفكير»، وتندرج ضمنها الأشكال السردية التالية: (الأسطورة، الخرافة، القصص الشعبي، الحكاية السحرية، خوارق الجن، السير، المغازي، الرحلات، الأخبار، الفلك، السحر، التنجيم.. إلخ( .
يمثل توظيف الأشكال السحرية بمختلف امتداداتها في الكتابة السردية المغربية أفقا مفتوحا تنصهر فيها كل التعبيرات الشفهية والمكتوبة، الواقعية والمتخيلة. إذ تؤسس النصوص، مع هؤلاء الكتاب، تخييلها بإقامة علاقات تتغذى في المقام الأول من التخييل الذاتي والمتخيل العام بشتى أصواته ولغاته وإثنياته، ومن حقول التاريخ والأخبار والوقائع والأنساب والقصص الشعبي وأشكال الفرجة والأزجال، وأيضًا من القراءة المفتوحة على المنجز الروائي العالمي، بما في ذلك السينما والمسرح والتشكيل والفنون الرقمية والعلوم بشتى أنواعها، خارج منطق الجغرافيات اللغوية أو الحضارية على اختلاف مراجعه وتشكلاته.
لقد أصبح «الاتساع» في القصة مع هؤلاء الكتاب، ضربا من ضروب التجريب يختلف عن ذلك الذي تميز به كتاب السبعينيات أو الثمانينيات، بحثًا عن أفق حداثي يتجاوز أنماط السرد التقليدي، الطبيعي أو التاريخي أو الواقعي أو التعبيري. فإذا كان التجريب في السبعينيات والثمانينيات يجافي التيار الرومانسي البلاغي والتيار التقدمي اليساري، في نوع من «الإيديولوجيا المضادة» التي كانت تنعت، آنذاك، بـ»أدب البرجوازية الصغرى»، فإن التجريب التسعيني ينطلق من «اللا إديولوجيا»، أي من المنطقة التي لا تنشغل بالنمذجة قدر اهتمامها بتجاوز القوالب وطرق اللامطروق أو المُحجَّب.
ومن الخصائص الدالة على القصة التسعينية تحيز كتابها لـ»الميتا سرد» الذي يولونه أهمية كبرى، إذ أصبح القاص مهتما بكشف مرجعياته وقراءاته على نحو لعبي مباشر وصريح. كما أصبحت القصة تسائل نفسها ووسائلها، بعدما كانت، إلى وقت قريب، تهتم بموضوعاتها فقط. فأصبح العمل القصصي، في الكثير من نماذجه، يقوم على الطروس والمتناصات السردية، وعلى النصوص الموازية، وأيضا على العتبات النصية، وعلى جماليات أخرى، كالمقاطع الميتا سردية، وحوارات السارد والشخصيات، أو السارد والمؤلف، ناهيك عن الانشغال الكبير بهندسة بناء النصوص القصصية والتعليق عليها، والحبكات والتصادم معها والالتفات فيها، والانشطارات الحكائية أو التقعيرات وإبداء الملاحظات النقدية حولها، فضلا عن إطلاق حوارية مع النشاط البشري في عمومه، مع العلوم بشتى أنواعها (البيولوجيا؛ الجيولوجيا؛ الرياضيات؛ الفيزياء؛ علوم الفضاء، علم اللغة..)، وجميع الفنون، حتى مع الفنون الرقمية، والميتافيرس، والمنطق.. إلخ.
ولا يخفي كتاب المرحلة التسعينية انشغالهم، أيضا، بالبحث عن أشكال وتعبيرات سردية جديدة على مستوى صيغ التخييل، عوض الاكتفاء باستنساخ الواقع ومحاولة خلخلته والتأثير فيه وتغييره، حتى أصبحنا نلاحظ ما حضورا طاغيا للسرد الذاتي بمختلف أنواعه؛ تنويع الرؤى السردية، التداعي السردي وتشغيل الذاكرة؛ تكسير خطية السرد؛ تعدد المحافل السردية؛ تداخل الأزمنة الحكائية وتشابكها؛ توظيف الأحلام والكوابيس؛ تقليص حضور السارد الكلي المعرفة؛ تداخل الخطابات والأجناس الأدبية؛ توظيف التناص؛ هيمنة الهذيان؛ الاستغناء عن النقط؛ تنويع المحكيات وتداخلها؛ تعدد الأصوات؛ تعالق النصوص (شخصية كانت أو غيرية)؛ شعرنة الخطاب القصصي؛ تعليق النهايات الحكائية؛ استغلال التراث. كما أن القصة في هذه المرحلة لم تعد تقوم على الوحدة والتماسك بالمعنى المألوف، بل إنه وحدة تتأسس على التعدد والتفكك».
يتضح، إذن، تأسيسا على هذه التحديدات، أن القصة بدأت تعيش، في هذه المرحلة، انشطارها من خلال التعالق بين الفكري والنصي، إضافة إلى الإيغال في المغامرة السردية، والنزوع نحو التمرد التجريبي، والسفر نحو أفق سردي متعدد الاتجاهات والمدارس (الترجمة)، واقتحام مناطق أخرى غير مطروقة ودالة على وعي ثقافي جديد، من خلال الاشتغال على اللغة والحلم والأسطورة والتراث، وأيضا على اليومي والذاكرة والزمن، وتهشيم المحكي وتشذيره، وتخييب أفق التوقع وزعزعة التشكيل الروائي السابق.
يمكن القول، إذن، إن القصة التسعينية تتأسس على ما يمكن أن نسميه «المسافة المتغيرة» بين الموضوع القصصي من جهة، والهيكل الواسع للتقنيات المستعملة لمعالجته من جهة ثانية، وهو ما يسمح بالأبنية والحبكات والخرائط المتعددة للعمل القصصي. فإذا كان بوسعنا أن نعتبر أن أبرز خاصية تميزت بها المرحلة السابقة هي «دك القواعد الثابتة»، فإن قصص «التحول الجمالي» راهنت، في أغلب نماذجها، على نقلة أساسية في لعبة السرد، ويتعلق الأمر بالخروج من «المغالاة في الأسلبة الروائية»، بحثا عن إيقاع جديد يرتكز على وعي حاد بضرورة القطع مع السرد غير المقيد بحدود، وإنهاء حالة التصدع التي احتدمت مع التجريب القصصي. لا نقول ذلك على وجه الإطلاق، خاصة أن عودة الحكاية، أي العودة إلى الذات والمجتمع والتاريخ والذاكرة، والانشغال بالمرجع عوض الذات، لم تكن تعني التحيز التام للمرجع، بل لـ»إيديولوجيا المعنى» (الالتزام السياسي والاجتماعي والطبقي). ومع ذلك، فإن نماذج القصة التسعينية الفارقة تتأسس تحديدا على الانفتاح الانفتاح الشكلي والتلاقح مع سرديات أخرى، مثل السردية التي تقترحها علينا القصة اللاتينية أو العالمية عموما؛ وهنا لا بد أن نستحضر التأثير الكبير الذي أحدثته الترجمة في كتاب القصة المغربية، ودورها في تسريع العودة إلى الذات بدل الإقامة الدائمة في «لحظة الانتقال والتحول»، ذلك أنها سارت في «اتجاه البحث عن توازن بين الانشغال بسؤال الكتابة دون التضحية بالحكاية، أو لنقل في اتجاه تأصيل التجريب دون التفريط في أصول التخييل».
القصة التسعينية.. الإفراط في الاتساع
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 03/01/2025