القصة القصيرة عربيا … العنوسة في «جراحات راقصة »

نواصل النبش في القصة القصيرة في الوطن العربي، وبعد مقاربة عدد من المجموعات القصصية، نلقي الضوء اليوم في هذا الموضوع على المجموعة القصصية (جراحات راقصة) للكاتبة ستيفان خديجة الصادرة في طبعتها الأولى سنة 2017 عن مطبعة سافي كراف في 91 صفحة من الحجم المتوسط، وهي مجموعة تقدم شكلا جديدا من الكتابة يتموقع حجما ما بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، ذلك أن جميع القصص ال 23 تحافظ على خصائص الكتابة القصصية التقليدية من حيث وجود شخصيات، أحدات فضاء، سرد ووصف… مع الميل نحو التكثيف والاختزال، وركوب الرمزية المباشرة وغير المباشرة وانزياح اللغة عن التقريرية السردية المباشرة إلى لغة شعرية ، وذلك ليس بغريب على كاتبة قدمت نفسها لجمهورها في عدد من الملتقيات كشاعرة وزجالة …
عتبات المجموعة القصصية ومداخلها مغرية: غلاف أسود يحيل على القتامة و عنوان (جراحات راقصة) بالأحمر يختلط فيه الفرح (الرقص) بالألم والمعاناة (جراحات) لتكون العتبات قد زرعت أمام القارئ فرضيات سالبة ستحاول القاصة التخفيف من حدتها بزرع بارقة تفاؤل في الواجهة الخلفية من خلال دعوة التعساء إلى السعادة (إلى كل التعساء فوق الأرض … ارقصوا على أنغام الدانوب الأزرق فيها بعض من سعادة هاربة).
بين دفتي الواجهتين تتموقع 23 قصة هي: ( جنون امرأة/ البحر وصاحبة الفستان الطويل/ لعبة العروس/ النوم الأخير / بكامل الأسى أبتهج / بين سرير وامرأة وخزانة ملابس/ أمل جديد / قبل فوات الأوان/ أديم اسبيرانيا/ على رصيف الزمن/ الجسد المغتال/ عاشقة/ شبيهة الجوكاندا / فسحة الأرواح المعذبة/ سحر الأحمر / سيزيف آخر / الحلم الحقيقة/ ذكرى أمس/ وفاء/ عندما تطردك الأرصفة / الخطيئة /أحلام جيل / أنت امرأة فافخري بذلك).
تشكل تلك القصص متنا سرديا يجعل من أضمومة (جراحات راقصة) كاتبة نسائية بامتياز كاتبتها امرأة، أن موضوعها الأساس هو المرأة، و معظم أبطالها نساء، إضافة إلى انتصار المجموعة لقضايا المرأة وانتقاد للفكر الذكوري وإن باحتشام، مع التركيز على المرأة المهمشة المقهورة التي تمثلت في المجموعة بصورة المرأة المتسولة، المومس الغارقة في البحر، بائعة الشاي والحريرة … مع غياب تام لصورة المرأة المعاصرة المثقفة، العاملة، المشاركة في الشأن العام…
وطبيعي في مجموعة قصصية ركبت رهان قضايا المرأة أن يهيمن ضمير الشخص الثالث المؤنث (هي/she / Elle) في قصص المجموعة. فباستثناء ثلاث قصص هي ( أديم إسبيرانسا التي عالجت إدمان بطل على شرب الخمر، وقصة سيزيف آخر التي تناولت تيمة التدخين، وقصة الحلم الحقيقة وهي عبارة عن حلم غريب يراه بطل القصة…) باستثناء هذه القصص الثلاث التي حكت عن الرجل بضمير (هو)، فإن خمس عشرة قصة جاءت بضمير(هي) وتمحورت حول تيمات نسائية كثيرة منها تزويج القاصرات (لعبة العروس )، الخيانة (بكامل الأسى ابتهج) لتبقى العنوسة أكثر التيمات حضورا في المجموعة انطلاقا من أول جملة في المجموعة (لا أريدك رجلا في حياتي) ص10 إلى آخر جملة في المجموعة ( افتحي عينيك ما أمكن إنك امرأة فافخري بذلك) وكأن المجموعة تتغيى ابتداء من الإهداء إلى عتبة الغلاف الخلفي والمجموعة، تكسير طوق الصمت القاتل الذي ضربه المجتمع تجاه معاناة المرأة العانس مما جعلها عرضة للضياع في بحار الوحدة الغربة والحيرة بين قبول واقع العنوسة والتعايش معه على مضض من خلال الخروج للبحث عن أي عمل يغنيها عن انتظار الرجل الذي لا يأتي، وهو ما يدفع بعض نساء المجموعة إلى الدعارة، واغتيال رغبات الجسد على الرصيف، تقول في مومس ضمن قصة (اغتيال جسد) (على الرصيف تنتظر من يشتري الجسد الذي يباع لمن يدفع أكثر. الجسد المتجرد من الشعور ومات آلاف الميتات فتجرع الموت بدل المرة مرات حتى فقد الروح والإحساس) ص51 وكذلك تضطر بائعة الشاي والحريرة إلى قضاء عمرها على الرصيف ( ستظل غسقا يجمع بياض الصبح وظلام الليل كدح العامل وسخط المتشرد ) ص 47
حتى وإن كان مصطلح العانس يطلق على كل شخص تجاوز سن الزواج المتعارف عليه ذكرا كان أو أنثى، فإنه في مجتمعنا العربي يرتبط بالمرأة دون الرجل، لذلك حاولت (جراحات راقصة) رصد معاناة المرأة العانس، والوقوف على العنوسة كظاهرة اجتماعية نفسية في (زمن براغماتي لا يهم فيه إلا ماذا ستعطي لتأخذ) ص10 ، والمرأة فيه هدف لمشاكل اجتماعية وآلام نفسية مزمنة لا تضمحل تقول (أنا امرأة ألامها كثيرة لا تضمحل) ص10 واقع يسعى إلى تشييء المرأة بل واعتبارها شيئا تافها لا قيمة له، ولنستمع للساردة كيف تصور هذه المرأة: (ألقيتْ المسكينة كالقمامة في الشارع مثل قطعة خردة لم تعد تصلح لشيء ) 78، واقع يتجاهل أنوثة المرأة ويجعلها تشعر أنها ضحية تواطؤ بل وكأن هناك تحالفا مقصودا ضدها لرميها منبوذة منسية في غياهب النسيان لا أحد يهتم بوجودها: تقول (تحالفوا مع النسيان ضدي) ص22 وهو ما جعل المرأة العانس تعيش حالة ضياع أضحت فيها الموت والحياة سيان، فأن توجد في قبر أشبه بأن تتواجد العانس في هذه الحياة استمعوا إليها وهي تتخيل نفسها ميتة في القبر: (مشلولة الحركة أنا هنا كما كنت مشلولة الإرادة هناك لا أستطيع الحراك.. لا أستطيع العودة إلى هناك ولا أقوى على المكوث هنا) ص22/23 لذلك وجدت نفسها مجبرة على أن تبتهج بكامل الأسى لموت الحبيب الخائن، مفضلة موته والبقاء عانسا على أن يكون بجانبها يتجاهلها ويخونها ( ذهبتَ دون رجعة وسأحتفل بذهابك سأحرر نفسي منك ومن ذكرياتك سأخونك بدوري مع الحياة نفسها سأزيد ابتهاجا) ص26 .سبب بهجتها هو أنها لأول مرة تعرف أين يكون عند غيابه عنها ولذلك جعلت هدفها الوحيد في الدنيا هو التخلص من الرجل الخائن؛ ( يكفيني رقودك ميتا تحت الثرى)، وتستمر في تصوير معاناة العانس وإحساسها بالوحدة في سجن الحياة ما دامت لا تثير إعجاب أحد حتى أضحت أشبه بصورة جامدة لا روح فيها بل حتى الصور رغم جمادها لها عشاقها، وتثير الإعجاب، تقول في قصة ( شبيهة الجوكندا) (أتدرين أنت تشبهينني بعض الشيء… أنت تشبهينني تماما كلتانا سجينة: أنت داخل برواز وأنا داخل الحياة نفسها أظنني ألفت سجني كما ألفت أنت هذه اللوحة المعتقة كلتانا صامتة هذا الصمت الرهيب إلا أنك تتمتعين بالنظرات الموجهة إليك بينما لم أنل إعجاب أحد) ص 59 . هذا هوا واقع العانس التي تشعر أن لا أحد ينظر إليها، وأنها تعيش معزولة في (أرض الشوك الذي أدمى أحاسيسها)ص 63 فتغدو في نظرها الحياة بسمائها وأرضها سوداء (فضاء غطى فيه الضباب الأسود سماءنا واحتل الشوك أرضنا)ص 66. مما أفقدنا الأمل في الحاضر والمستقبل فغدونا مستسلمين لا نملك إلا (ذرف دموعنا دماء ونتحسر ليس على الماضي هذه المرة لكن على الحاضر والمستقبل)ص 68 .هذا هو واقع العانس الذي ترى القيم فيه انقلبت لدرجة أن ( رأى ذئابا تفر من خرفان.. رأى صقورا يلتهمها الحمام رأى البحر كأنه صحراء والصحراء يغرقها الطوفان والعجائز تركض دون عكاز) ص70 ، واقع محير الرجل فيه (لا يعي من الفرح إلا حروفا تلقاها يوما في كتاب الهجاء) والعانس تعيش روتينا قاتلا تشعر فيه أن الحياة ليس سوى (منظر جامد لا يخضع لقانون التغيير، ما رأيته أمس أراه غدا أكيد)ص 72 وهو ما قتل أحلامها وزادها اقتناعا بأنها تنتمي (لجيل بعضه أجهض قبيل ميلاده وبعضه وئد عند مولده وما تبقى فهم أصحاب عاهات…) لذلك كان طبيعيا أن تفقد العانس الثقة في الآخر وأن تخاف من صداقة الرجل ، وألا ترى في أي صداقة سوى حبل مشنقة سيفقدها ما تبقى لها من حرية، لذلك ترد على الرجل الذي يتودد إليها ويطلب التقرب منها بقوله (أريد أن أكون رجلا في حياتك) ص10 ترد عليه بحزم (لا أريد في حياتي رجلا…) والسبب (أخاف أن تكون حبل الشنق الذي أضعه بنفسي حول رقبتي) ص10 ، وهو التسويغ الذي تكرر في القصة الأولى أكثر من مرة بنفس الألفاظ، بل ترى أن أحسن أيامها هو اليوم الذي لا ترى فيه رجلا ما دامت لا تجني من الرجال إلا الأوجاع والآلام (سيكون اليوم الأحسن من الأيام الخوالي كلها، لا دموع ولا انتظار، لا شوق لا حزن يغذي تجاعيد لن أنتظر شيئا وسأترك كل شيء للحياة ستتكفل بحسم أمر) ص31 .
بهذه الأحاسيس والنظرة للرجل تعيش العانس وحدة قاتلة، نقطة معزولة في الفراغ (جلست على الكرسي الوحيد في الغرفة أتأمل الفراغ من حولي وأتجرع مرارة الوحدة القاتلة…) ص34، وحتى إذا ما صادفت رجلا ولو بمحض الصدفة في محطة قطار مثلا كانت مقتنعة باستحالة بناء علاقة بينهما، ومتأكدة بأنه أية علاقة محكوم عليها بالفشل لذلك (ودعته دون أمل في اللقاء. جرت حقيبتها ولم تكلف نفسها عناء الالتفات لتبادل النظرة الأخيرة…) ص 39 . هذه هي العانس ترى نفسها ضحية والعاشق جلاد فقد (اختل ميزان العشق وصارت العاشقة مجرد مجنونة والمعشوق جلاد يفتك بقلب توقف عن النبض في خريف قاس) ص56 وتلك هي نظرة العانس للحب الذي أضحى في نظرها (مجرد خطوة غير مدروسة. مجرد تيه في اللامعنى واللامعقول) ص55 ومن كانت هذه نظرته للحب توقف قلبه عن النبض . إن العانس امرأة (زارها الخريف باكرا…) تعيش في ( صقيع يغلف قلبا توقف عن النبض) ص55
هكذا تقدم مجموعة (جراحات راقصة) العانس امرأة ضاقت بها الحياة، وغدت لا تجد راحتها إلا في أضرحة الأولياء حيث الصفاء الروحي، تحاول إقناع نفسها بأنها (لم تأت إلى هنا أبدا لطلب العون والمدد كمثيلاتها للحصول على زوج في أقرب فرصة ) ص 62 ، وهي المقتنعة بكونها امرأة جلست في محطة سفر لا يصلها قطار، أو مر القطار الوحيد دون أن يتوقف في المحطة التي تقف فيها، فشاخت في عز شبابها (تجاوزت سن الزواج، وأصبحت عانسا في رأي جدتها التي تعبر بكل وضوح بينما تكتفي أمها بإخفاء المعنى بين الكلمات) ص 62، لا تخطئها سهام كلمات ونظرات التشفي فتهرع إلى ضريح الولي الصالح حيث تجد راحتها، ما دام الموتى لا يشعرونها بدونيتها و لا أحد منهم ينظر إليها كعانس تقول الساردة في بطلتها (تأتي هنا للتغلب على الإحساس بالدونية الذي يلازمها أينما ذهبت إلا في هذا المكان حيث لا تبقى عانسا) ص 63 .
إن مجموعة «جراحات راقصة» تتأسف لواقع المرأة العانس بمجتمعاتنا العربية حيث المرأة تشعر بالعنوسة في سن مبكرة فما أن تكاد تطل على سن الثلاثين حتى تقنع نفسها باستحالة الظفر بزوج تقول (سن الثلاثون وما أدراك ما الثلاثين في مجتمعنا العربي سن يحكم فيه على الفتاة بالموت كمدا تحت اسم العانس أو الحياة مع وقف التنفيذ) ص 63، خاصة في مجتمع يكرس إقبال الرجال على الزواج من القاصرات كما في قصة (لعبة العروس) يحكم على العانس بموت مع وقف التنفيذ وتفقد (الشجاعة الكافية للاعتراف بهواجسها وبأحلامها بخوفها من اللاشيء أو المجهول المختبئ في مكان ما بداخلها ) ص90 ، لتبقى تداري معاناتها (احتياجا لرجولة تروي أنوثتها) ص 90.


الكاتب : ذ. الكبير الداديسي

  

بتاريخ : 28/08/2019