القصة والمخالب الرمزية لحيوانات السيرك

كعادة منهج أهل العلوم والمعارف، يضع القاص أنيس الرافعي قراء كتابه القصصي الجديد « سيرك الحيوانات المتوهمة» (دار خطوط وظلال، الأردن، 2021) ، أمام رؤيته المتفردة لفن السرد، باعتباره بنية مترابطة لا تحدها النظريات أو المواقـــف أو المدارس المعلبة… فاللغة تحتاج لشيء آخر يمنحها مساحات شاسعة من الدلالات والمعاني. تحتاج لجسر يربطها بالفنون التعبيرية المتجاورة ، تلك التي تتشاكل وتتفاعل لتجعل السرد القصــــــصي قابلا للتصور، وذا محتوى بلاغي/سردي متمرد على الأنساق التقليدية المعروفة، وناقـلا للقيم والحقائق من خلال تقديم مفهوم جديد للحكي.
إن اختيار الفضاء الملائم للسرد (السيرك) وتخييــــــــل (الحيوان) بطريقة معاكسة تماما لما عهدناه في الثقافات الإنسانية عموما والثقافة العربية على وجــــــــه الخصوص، فتح للكاتب التجريبي أنيس الرافعي آفاقا جديدة للتخمين في معمار سردي يجعل من الخيال ملَكة لتشكيل الصـــورة وتغييرها وصياغتها كلما ارتفعت توقعات المتلقي، لأن (تذاكر الدخول للسيـــــرك) تفترض متفرجا قادرا على إسقاط مكونات هذا النشاط (التوهمي) الذي يحدد الطبيعة الأنطولوجــــية للخيال القائم على الحركة ودينامية السرد، والمؤسس على مضمون المجتمع الكوني وكيفيــة الخروج من هذا (السيرك)، متجنبا المخالب الرمزية لحيوانات السيرك…
عندما نتأمل المسار القصصي المتصاعد لأنيــس الرافعي، نجد دوما هذا التناســـــق بين التـيمات والمواضيع المعرفية التي يختارها بعناية مدروسة ، والبناء المعماري (الشكل) الذي يمنح سلطة رمــــــــزية تفاعلية وتبادلية، قائمة على تقنيات التأويل والتوليد باعتبارهما رد فعل لوضعيات معاصــرة.
إن تيمة السيرك في الثقافة العربية التراثية أو المعاصرة، وإن وجدت هنا أوهناك، قد تم تناولها في هذا العمل السردي المتفرد والمغاير كتجربة جديدة، حيث يصبح الحكي مونــولوجا سرديا، ويغدو الراوي كائنا صامتا محايدا (البشر)، غير قادر أمام هذه الحيوانات أن يفهم عمـــــــق التناقضات بين كونه تشكيلا لعالم متجدد، وكونه جوهرا لمعاناة مجتمع قديم، مما يخلــــــــق انطباعا لدى «بعض» حكماء التأويل بأنه سرد مستورد من ثقافات أخرى.
إن احتمال وجود وسائل غير لفظية (رسومات أنجزها الفنان محمد العامري ) يدعم اختيار سيرك يمنـح هوية جمعية مقابلة للهوية «الشخصية»، ويؤجج المعركة بين السرد باعتباره كليات، والرسم كمنافس شرس(مواز) للغة رغم افتقاره لمكونات اللغة الطبيعية: الصوت/المعنى والتركيب.
كيف يمكن ،إذن، الجمع داخل خيمة السيرك بين المرســــــل والمتلقي حتى وإن كانت أدوارهما متباينة؟ فحيوانات السيرك باتت معلقة(من التعليق بمفهومه النحوي) ولا تكتمل عروضها إلا بوجود (مرجع) جالس بدروه يتفرج على غرائزه كيف (أُبْطلتْ). وراو (من فصيلتنا الآدمية) فضل الصمت…وعليه، نحن أمام قاص متمرس يسعى لقصة تتجاوز حدود اللغة، تسافــــــــــر بالخيال إلى أقصى مقاصده. قصة تجمع شتات الخصوصيات الثقافية لكل نســــق لغــــــوي طبيعي، ولا تعترف بالمعيارية أو التقديس أو الهويات الإثنية أو العرقية أو الدينية…، تصوغ العالم السفلي بمقولة المعرفة، وتتخذ من التمثلات الذاتية للقاص حقلا إنسانيا يجمع بين الأشياء والمكونات الكوسمولوجية والتفاعلات التي تؤسس للعلاقة بين ذات القـــــــاص والأمكنة والأزمنة التي تقع في تخوم الـ(هنا) والـ(هناك).
هبْ إن القاص أنيس الرافعي شيد معلمته السردية من متاهات من الصعب الجمع بينها لتباين مكوناتها، وحدود بلاغتها، وأثرها وتداولها بين الناس، فماذا ستكون مقاصده السردية؟ صياغة العالم وفق قطائع إبداعية مقصودة؟ أم اقتناء عينيْ بومة لاختراق الدهاليز المظلمة حتى بلوغ بوتقة الخيال وسحبها لتشارك في ذلك السيرك المتوهم الحالم بغية التقاط مبررات الوجود؟
ثلاثون حيوانا يدخلون بترتيب معلوم، كل حيوان يمثل لحظة خلق لم تكتمل ملامحها بعد. ليست هناك قيود على العلامات التي تنتجها المونولوجات، ولا يمكن حصر المداخل المعجمية للخطاب، خصوصا أنها تحتمي بالألوان والأشكال لتخلق الألفة واكتمال المعنى.
سيرك يلتهم الأشكال ويروي عطش الظلال برحيق تفوق ألوانه الطيف. إنها اللحظة الميتافيزيقية التي يحاول زعماء السيرك من حيوانات تتسكع في التراب والماء والهواء جعلها لحظة لصورة أولى لم تستنبط من غيرها. صمت/ اختفاء الراوي يفضح فكرة اللعبة بين (الحقيقة) المتوهمة و (الحقيقة) النفسية الأولى للصورة التي تغدو سهاما موجهة نحو اللحظة المقدسة للسارد، حيث تولد أعشاش بيوضها مبررات الوجود. لن يكون هنالك سيرك لتلك الحيوانات لو لم تكن هناك صور يدفعها شبح برفق شديد ليتأكد أن فكره(الإنساني) سيصنعها على هيئته وأنها في الواقع صور (بشرية) تحاول أنسنة قوى العالم، وتدس في أحشائها أرواحا تنير الدروب المظلمة فينا وتبعث في نفوسنا ترياق السعادة.
إن هذه المونولوجات تعطينا صورة جديدة عن رغبتنا في استعادة إنسانيتنا الهاربة. فحين يصبح الكائن كلاما، يمكن للقاص أنيس الرافعي أن يمنحنا متعة باطنية تحركها قوى خفية تظهر نفسها من خلال اللغة وما تحتويه من فكر خلاق وإبداع، فيه جدة تحتاج أحيانا لقارئ يقظ ومنتبه يستنشق روحها العلاجية.


الكاتب : إبراهيم أبويه

  

بتاريخ : 04/11/2022