القمع المقدس قراءة في كتاب الدكتور حسن حماد

صدر خلال السنة التي ودعناها (2024 ) للباحث المصري الدكتور “حسن حماد” كتاب جديد عن مؤسسة “مؤمنون بلاحدود” يحمل عنوان “القمع المقدس”. والأستاذ حسن حماد معروف بكتاباته الجريئة والرصينة التي تتناول قضايا فكرية واجتماعية وإيديولوجية تهم المجتمعات العربية المعاصرة مثل قضايا الاغتراب والعبث وذهنية التكفير والتحريم، بالإضافة إلى دراساته القيمة في النصوص المقدسة المؤسسة للمنظومات الدينية الكبرى، وكذلك أبحاثه الجمالية في مجال الرسم والفن التشكيلي.ويمكن اعتبار الدكتور حسن حماد أحد الأسماء التي تساهم في نهضة الثقافة العربية المعاصرة من خلال مراجعته للكثير من الأفكار والمسلمات الراسخة في هذه الثقافة، وطرح بدائل جديدة من شأنها أن تساهم في تطور البنيات الذهنية لهذه المجتمعات التي تعاني من القهر والتخلف وهيمنة المنظومة الأصولية على وعي الإنسان العربي التقليدي. ومن خلال تصفح عناوين كتبه يبدو للمطلع أن الدكتور حسن حماد يسعى جاهدا إلى فتح أوراش ثقافية متشعبة تحتاج إلى تظافر جهود أجيال ومسيرات فكرية قد تطول ولكنها حتما ستصل إلى نتائج وستؤدي إلى الهدف المنشود أو على الأقل ستفتح الباب للخروج من الانسداد التاريخي الذي تعيش هذه الشعوب المقهورة.

 

في هذا الكتاب، يتناول الدكتور حسن حماد مفهوم القمع المقدس باعتباره شكلا من أشكال العنف الذي تتم ممارسته باسم السيادة الإلهية العليا، انطلاقا من مرجعية معرفية وسيكولوجية تتأسس على الإحساس بالطمأنينة والاصطفائية والاستعلاء على الآخرين، بالإضافة إلى الاعتقاد في امتلاك الحقيقة المطلقة. كذلك فالقمع المقدس يلعب دورا مزدوجا حيث يمارسه الإنسان على ذاته وعلى الآخرين، ويبلغ مداه عندما تتم ممارسته على الغير المختلف عقائديا، فيصبح بذلك مباحا ومشروعا لأنه يتحول إلى جهاد مقدس ضد أتباع الشيطان وأعداء الدين. كما يكشف هذا الكتاب عن العلاقة الخفية بين القمع والمقدس من خلال تحليل الآليات التي يستخدمها خطاب الإسلام السياسي من أجل فرض سيطرته على الواقع السياسي المنحط، وعلى الشعوب الضعيفة الخاضعة للسلطة الأبوية ذات البعد التراثي واللاهوتي. القمع المقدس إذن يمارس باسم سلطة النص الإلهي، وسلطة الماضي، وسلطة الغير، وسلطة الموتى، وسلطة امتلاك الحقيقة المطلقة التي هي مصدر الإرهاب. يقوم القمع المقدس على نفي العقل وتكفير كل مظاهر العقلانية والحداثة والعلم عبر فرض السيطرة على الجسد والفكر، وضد كل مشاريع الاختلاف والتعدد والحرية.
إن سلطة المقدس هي من أقوى أنواع السلط التي تتم من خلالها الهيمنة على كيان الفرد ، وتجعله خاضعا لها بعيدا عن كل تأثير عقلي أو منطقي لأن سرديات المقدس تصبح جزءا من هذا الكيان وبناءاته الوجدانية والنفسية والجسدية، كما فصل المؤلف في السمات الأساس التي تمتلكها سلطة المقدس وتمنحها استقرارا وقدرة على السيطرة والاستحواذ، وهي الطابع الخارق والرهيب للمقدسات والبعد الطقوسي للمقدس بالإضافة إلى الجذور اللاواعية للمعتقدات وإمكان عودة المكبوت دون إهمال الأساس الجسداني للمعتقدات الدينية.
اجترح حسن حماد مفهوم “القمع الإبستمولوجي” لكي يوضح بأن صورة الأب في الثقافة العربية الإسلامية تتجسد في النص القرآني الذي أصبح بديلا عن الأب المتعالي والمحتجب، من هنا اكتسب النص هذه القوة من خلال تضمنه للحقيقة، فمن يمتلك سلطة النص يمتلك الحقيقة والسلطة المطلقتين. يؤكد الدكتور حسن حماد كذلك أن الجهة التي تمتلك السلطة في الثقافة العربية الإسلامية هي الأصولية التي تعتبر بأن النص يتضمن كل الحقائق الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان. بل إن النص في نظرها يتضمن كل الأجوبة التي يمكن طرحها من طرف الناس عبر كل العصور. من هنا فلا يمكن الاجتهاد مع وجود النص الذي يتضمن هذه الحقائق المطلقة. والأساس المعرفي لهذا هو السردية السنية الحنبلية التي تعتقد بقدم النص القرآني وعدم خلقه خلافا للأطروحة المعتزلية التي دافعت عن أطروحة خلق القرآن في إطار السجال الذي ساد الثقافة العربية الإسلامية في العصر الكلاسيكي. لكن هذا لم يمنع من توظيف النص المقدس في الصراع السياسي وظهور الفرق الكلامية المتعددة، وبروز ظاهرة الفرقة الناجية التي تتحدث باسم الدين الإسلامي، مجسدة إجماع الأمة في كل القضايا التي تهمها. إن هذه الرؤية التقديسية تطال كذلك اللغة التي نزل بها القرآن، والتي تحولت إلى لغة إلهية مقدسة بل تصبح طابوها وتمتلك قداسة مطلقة، الشيء الذي يقف حائلا دون أية محاولة للتفسير أو التأويل، فيصبح للمعنى بعد واحد يؤدي إلى تصور سلطوي للدلالة كمقدمة لاحتكار السلطة الدينية والسياسية. إن سلطة النص تمنحه حركة خارج الزمن والتاريخ وتجبر الإنسان على الخضوع للماضي والنص المقدس وإلا يتم تصنيفه على أنه كافر أو مارق خارج عن الجماعة.
يواصل الدكتور حسن حماد تحليله لمختلف الأبعاد القمع المقدس، وذلك بربطه بالدور السحري الذي يمارسه الخطاب الديني في قمعه لضحاياه، بحيث يستعمل الواعظ أسلوب الساحر من أجل استقطاب المخاطب والاستيلاء على وعيه من خلال التلفظ بعبارات تحمل طاقة انفعالية ووجدانية وتكون بمثابة بديل رمزي ومقبول لعالم الواقع، من هنا يصبح الحقيقي وهما ويصبح الوهمي حقيقيا، وهذه الخطة تكون لها فعالية أقوى عندما تجد جمهورا يتلقى هذه الخطابات ويعيد إنتاجها بطريقة لاواعية. وقد استطاعت الأصولية الأورثوذوكسية في العالم العربي الإسلامي توظيف الثورة التكنولوجية من أجل نشر إيديولوجيتها التكفيرية المتشددة خاصة على منابر التواصل الاجتماعي التي استطاعت أن تغزو كل مكان في العالم صار معها المتلقي الذي يعيش في هذه البلدان الفقيرة والمتخلفة عاريا من كل الأسلحة التي يمكن ان يرد بها عن تلك الهجومات. وقد وجدت الأصولية أرضا خصبة لنشر الجهل والتخلف وهيمنة القوى الرأسمالية التي تحول الإنسان إلى كائن مشيأ فاقد لكل مقومات الوجود الإنساني، وهذه وضعية تعبر بوضوح عن تحالف الفكر الأصولي مع الفكر العولمي الرأسمالي من أجل نشر الجهل المقدس في بينة المجتمعات المتخلفة.
إن جسد الإنسان- خاصة الجسد الأنثوي- بدوره لا يسلم من مراقبة السلطة وضغوطاتها، وهذه القضية تعكس خضوع الجسد لتقاليد المجتمع وسلطاته التربوية والصحية والدينية والسياسية والعقائدية. وقد اهتم الكثير من الفلاسفة بموضوع الجسد الأنثوي الذي هو الحلقة الأضعف في المجتمع الذكوري الذي ينظر إلى المرأة نظرة دونية، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام قمع جسد المرأة ومحاولة إخفائه باعتباره مصدر كل الشرور التي تفسد المجتمع، وتهدد وحدته لذلك يتم التسويغ لممارسة العنف ضدها حفاظا على هذا المجتمع مما يسوغ فرض الحجاب وختان المرأة والحرص على بكارتها وشرفها..لكن المؤلف يرى بأن هذه النظرة للمرأة هي نظرة سياسية وفكرية تسعى إلى الحفاظ على وحدة الجماعة عبر قمع كل ما يتعارض مع هذه الوحدة.
وارتباطا بقمع الجسد تطرق المؤلف لموضوع الألم المقدس، موضحا بأن سيطرة أي سلطة على الجسد هي مدخل أساس للسيطرة على الإنسان. فالجسد المكشوف مسيطر عليه، والمراقبة الإلهية للبشر تطال كل حركاتهم وسكناتهم، كما ترتبط فكرة الألم المقدس بفكرة الروح والجسد باعتبارها أبرز ثنائية سيطرت على التاريخ الإنساني وأسست لرؤية قمعية تنظر إلى الجسد على أنه رمز للخطيئة و للعصيان والتمرد، وبالتالي رمزا للعبودية. فالجسد مدان وملعون، ولهذا يتم تقييده وقمعه وكبته. من هذا المنطلق فإن السادية والمازوخية مرتبطتان ببعضهما؛ لأن الشخص السادي الذي يتلذذ بتعذيب الغير يمكن أن يتحول في لحظة ما إلى مازوخي يحصل على اللذة عبر تعذيب ذاته.
كخلاصة لهذا العمل الرصين، نستنتج مع الدكتور حسن حماد بأن التدين الأورثوذوكسي نموذج لهذا القمع الذي يسعى إلى السيطرة على حياة الإنسان الداخلية والباطنية عبر آليات الترهيب والإجماع، ونفي العقل وتقديس التعاليم والأوامر الفوقية. لكن المفارقة التي يسجلها الكاتب هي أن تاريخ الإنسان هو تاريخ الهروب من الحرية والفرار من تحمل المسؤولية، وهذا ما وضحه دوستوفسكي في روايته “الإخوة كارامازوف” حيث استطاع أن يدرس بعمق سيكولوجية المقموعين، استنتج المؤلف من خلالها أن الإنسان المقموع يهرب إلى عالم مجهول يعتقده صافيا ونقيا. ونجده يعمل على إخضاع كل ماهو دنيوي لسلطة المقدس وحدها والتخلي المرضي عن هذا العالم.


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 03/01/2025