« إن الكتاب، ومفهوم الكتاب، كانكفاء استراتيجي للذاكرة النصية، يتحددان نفسهما كجرح لا نهائي للاسم الشخصي»
عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، ص 20
يثير الخطيبي انتباهنا في هذا الكتاب الجميل إلى أن النص بلوري، وأن لِمَاسَّةِ النص عدة أضلاع، هكذا ونحن نقرأ ونتتبع هذا العمل السردي للكاتب عبد الله لغزار نكتشف هذه الانعكاسات المتعددة والمتنوعة والتي يمكن وسمها بالفصوص السردية التي تحدث هزة هائلة، بدءا بامتلاكها لقوة تُحْدِثُ في القارئ ارتجاجا تهاجم من خلال تمارين الكاتب وهو اللغة، كل المؤسسات الاجتماعية والرسمية.
نستطيع استعارة مصطلح منحوت من كتابات الخطيبي وهو «الشبزجاجية» لنقول إن هذه اللحظات السردية كما يسميها أشبه بشفرات مرآة منكسرة، فهي تمتلك قدرة على تناول تفاصيل مختلفة تحيلنا على نصوص عديدة، تتخذ من اليومي سندا في الحكي، ومن أسلوب الكتابة اليومية وتفاصيلها معمارا في السرد، بدءا بنصوص اليومية العصرية لبوعياد وصولا إلى النصوص العالمة للجاحظ وأدونيس وبلانشو…
إن طرافة هذا العمل المفرد- المتعدد، مفرد من حيث انسجام شخوصه واتساق أحداثه، ومتعدد من حيث مواضيعه، وحرصه على التقاط تفاصيل اليومي، تكمن في تنبيهنا إلى تعدد التجارب التي تصنع الإنسان: الخال وهو يستعد للحج وتعوير الشيطان.. الطفل في علاقته بالمدرسة، العلاقات الأسرية… وإلى قيمة المكان الجبل- السهل- والماء.
وليعترف السارد أن من «واجب الكُتّاب المقدس هو أن يكتبوا، أن يعكفوا على مشاريعهم، وهو يتحسسون جراح هذا الشعب المقهور، طريق المعرفة (التنوير) حافلة بالمتاعب وبالمسامير وبالخنازير (وأعني بالخنازير شظايا الزجاج المسموم المدفون تحت التراب في المسارب).»
الكتابة باعتماد أسلوب اليومي، حيلة، أو ربما اختيار قصدي، وِشاحٌ للصّدق، واعتراف بأهمية الكتابة يقول «ولا أعرف متى بدأت أكتب اليوميات خفية حتى عني، أكتب وأتوقف عن الكتابة، أنضبط في الكتابة لمدة شهر وأتوقف، أستمر لمدة عام وأتوقف لشهور، وسميت اليوميات مسائيات. إذ أكتب كل مساء سطورا معدودات، مسائيات يحكمها المزاج أكثر من العقل. فليس للحياة اتجاه، ليس لها طرق معبدة. إنها تمشي في كل الاتجاهات دفعة واحدة، ولما أحاول أن أتأملها وهي تفيض أنجرف ولا أجدني إلا بعد شهور من التيه. ولما أشرع في تضميد جراحي يحصل أن أتحول إلى دن لا يفرغ مني ولا أفرغ منه»
تساءل عبد السلام بن عبد العالي في كتابه جرح الكائن عن أي لغة يكتب أصحاب الألسنة المفلوقة؟ وهو هنا يتخذ من كيليطو نموذجا لتنشيط التساؤل حول هذا المشكل الأنطولوجي الذي يسكن الاختيار اللغوي في الكتابة. والملاحظ في هذا النص لعبد الله لغزار إلى جانب هذا الهوس باللغة وبالكتابة، حيث يحضر المرجعي والإحالي حين الاستشهاد بالمعجم والإحالة على لسان العرب، أو في الرسم من خلال التنصيص على شكل الكتابة كنوع من حفظ المعنى أو تأطير الاستعمال الدلالي، فنلاحظ ما يمكن وسمه بالذاكرة المفلوقة، ذاكرة السارد التي تعيش لحظة بلحظة، لحظة هنا والآن، ولحظة ماضي «الطفل الذي كنته» هذا الاسترجاع يأتي ليسند ما تلتقطه العين المبصرة البصيرة للسارد من أحداث. يقول: «الذي شغّل هذا الشريط (القديم)، هو رؤيتي لامرأة شابة تقف على الرصيف وهي في منامتها السميكة والمنقطة كفهد..» ويبلغ هذا الاسترجاع مداه حين ينفجر بالعودة للماضي قائلا:» دخلت المقبرة وشدني الطفل الذي كنت، كان يركض كجدي في هذه الأنحاء…»
عموما فهذه مجرد لمحات من عمل جديد، لكاتب يعرف كيف يقرأ ويتقن كيف يكتب بالرسم، ومن اللافت أنه استطاع أن يقدم تمرينا في الكتابة يمزج بين جنس اليومية والحكي الروائي، وللإيفاء بهذا الاكتشاف السردي في الكتابة مع ما يطبعه من نقد جارح، يأتي هذا التحدي ضد التقاليد السردية السائدة.