يأتي العمل القصصي الجديد للقاص عبد النبي دشين « لا أحد ينتظرني» بعد أكثر من ثلاثة عقود على مجموعته الأولى»رائحة الورس».. هو «المقل المجيد» بتعبير عبد الرحمن مجيد الربيعي، و»الشحيح، لكن شحه بليغ» حسب الناقد لحسن حمامة و»الطفل الذي يكتب القصة» بتعبير الناقد حسن المودن، و»رامبو ذو الرؤية النفاذة» حسب الشاعر والمترجم والروائي إدريس الملياني.
في مجموعته الأولى «رائحة الورس»، ثمة روح وثابة في الكتابة، وفي رؤية الأشياء ثمة نزوع نتشوي، حس صوفي أنيق يتجلى بالخصوص، عبر مَوَاقِفِ النفري ولمسته.
كانت مجموعته الأولى «رائحة الورس» طفولية الملمح والنبرة والنظرات حتی إن الطفل هو من يتولى الحكي بينما تنصت الجدة إلى حكاياته. الطفل يؤثث عوالم حالمة قائمة على الاستيهام والروح الشاعرية .
من هناك بدأت شعرية الكتابة عند دشين ولم تفارقه أبدًا. وتكمن روح الشعر في سرده القصصي، بدءاً من اللغة المُشعرنة، وفي تحويل انزياح الشعر إلى «انزياح سردي» سبق وقد لامس ذلك أخونا الناقد الراحل أحمد فرشوخ ، معتبرا بأنه «تجريب دينامي للكتابة» يتيح إمكانيات التفاعل مع اللحظة الاجتماعية والبعد الثقافي وامتداداته في الذاكرة ، في الوعي بل وفي الجسد أيضاً . كما تكمن شعرية دشين في المحكي الشعري، وفي تصيد المحكيات الصغيرة، في التأثيث الواقعي (المرجعي) للنص بتفاصيل تبعث على الدهشة، وفي رش اللحظات السردية بماء التأمل الشعري الفلسفي إلى حد بعيد.
نحن أمام كاتب يتلبس شخصيته التي لا تعرف ما تريد، ولكنه يعرف كيف يكتبها .
إنه يختلق لحظة أو فكرة، ثم يكتبها،يحكيها كقصة. وهي قصة تجريدية، لكنها تنبثق من الحياة.
هناك انفلات متواصل من الواقع . ما من واقعية في هذه الكتابة، ما من عطش واقعي . هناك حالة توتر مع الواقع ، والكاتب ينجح في الارتقاء به إلى أن يجعله توترا جماليا.
باستمرار، نقرأ الأقاصيص الصغيرة، فنعثر على دشين وهو يتخفف من كل تحبيك تقليدي. كل نص قصصي يتشظى، حتى إنه يبدو تجميعًا للحظات منفلتة، بل هناك قصص ثلاثية يقسم الواحدة منها الكاتب إلى ثلاث قصص فرعية.
واضح أن الكاتب لا يحب الحبكات والحوارات المطولة، إنه يكتب ذاته. يتأمل، يفكر، يجادل. يحفر داخل نفسه ويكتب بصيغة أوطوبيوغرافية تقريباً. يكتب بسكين أو بشفرة حلاقة ماشياً على التخوم الدقيقة بين القصة واللا قصة.
يتشكل النص القصصي من مشهد، من صورة في مرآة أو وجه يخرج من إطار، من نظرة، من خطوة خطرة أمام حافلة..
أحياناً ، غالباً ربما – لا يبدو لي الراوي في هذه القصص قد رأى الواقع وخبره، وجاء ليحكيه، كأن الواقع الصغير الذي نظن أننا نقرؤه، لم يوجد قبل أن توجد القصة نفسها.»شخص ما خلقه من هواء أخف من الخفة» بتعبير جيمس وود.
المجموعة القصصية الجديدة «لا أحد ينتظرني» تبدو كمتتالية قصصية، لو انتبه دشين لوَحَّد عناصرها ليشكل نصا روائيا تجريبيا جيدا. (الانتظار ، الفقدان، الفراغ، العزلة، الظل).
في المجموعة بعد كافكاوي يطبع نظرة الكاتب، وثمة لمسة بورخيسية في بعض النصوص، وثمة ظل لبول أوستر، ولا يعني ذلك، مطلقا، محاكاة أو تقليدا بل هناك صوت دشين القوي معبرا عن كونه قارئا كبيرا، مطلعا على مجريات الكتابة السردية الكونية.
هذه المجموعة «لا أحد ينتظرني»مخترقة بالأوطوبيوغرافي. هناك قصص تكاد تكون أوطوبورتريهات.
أحببت هذا التحول الجوهرى في الكتابة القصصية الجديدة للصديق عبد البني دشين في مجموعته»لا أحد ينتظرني « . يتعلق الأمر بنصوص قصصية تلتقط انهيارات باطنية شخصية، ذاتية وفردية، لكنها تعبر عن انهيارات أشمل وأعم، وحتى المكان الذي يتم التقاطه في البناء الحكائي والسردي، يبدو مكاناً متصدعا. ومعناه أن ثمة مكوثا في المابين ، ما بين زمن منهار وصدع مكاني.
نقرأ تجربة دشين، فنجد أنفسنا أبعد عن التجارب القصصية والسردية لجيل المؤسسين الذين انشغلوا ببناء هوية جماعية وتحديد معالمها الوطنية. على العكس، تلتقط قصص دشين معالم عالم ينهار ويتشظى، وينعكس على الذات المتكلمة في النص، وبالتالي على الذات الكاتبة . ذات تخلق شخصيتها السردية، وتتأثر بها فيما هي تكتبها .
إنها كتابة تشتغل على الحقيقة الإنسانية، على حالة الإخفاق التي تطبع الحياة الفردية، وتلقي بها إلى أقصى درجات الوحدة والعزلة والذاتوية. ولكنها كتابة تراهن على ولائها للجمالي، للشعري. تراهن على كتابة بيضاء لا تقول الأشياء كلها، ولا تشي بالحقائق كلها إلا حقيقة النص، حقيقة الكتابة.
الكاتب في قصصه الجديدة يتصرف بضمير المثقف القلق، الغاضب، المتوتر، فيتأمل الحالة، ويندهش ويسخر قليلاً. اللامبالاة حاضرة في الشخصيات التي تريد أن تكون كلّها على حق، ولا تتمكن أي منها، فعليا، من أن تكون على حق. ولكن كل شيء يظل منطقيا في تدرجه الحكائي، وفي بنائه السردي. ما من خلل في الكتابة. الخلل في الواقع، وفي الإحالات على عناصر الواقع.
الراوي يدرك عمق وحجم الأزمة، ويعرف أسباب الخلل، ثم يدرك إمكانيات الاستدراك والتجاوز والحل، ولكنه مثل الراوي أو المحقق البورخيسي حين يتمكن من حَلّ الألغاز، يكون حبيسا بين أربعة حيطان !
قد تبدو قصص مجموعة «لا أحد ينتظرني» أقاصیص
قصيرة جدا، لكنها تشتغل في العمق بروح النصوص الكبرى، على المأساتي الثقافي والاجتماعي والسياسي ببعديه الزمني والفضائي، وعلى الفرد أو الإنسان المجرد، في توتراته وعنفه ومعضلاته المجهرية. ثمة روح فلسفية،وجودية ظاهراتية تلقي بظلالها على الشخصيات والأحداث، حيث تلتحم الذات الكاتبة في سعي لتفهم معنى الأذى أو الإيذاء الذي تعاني منه دون أن تعرف مصدره تحديداً، ولا كيف تُسَمِّيه . ولكن المؤكد أن دشين يصف لنا شذرات وشظايا ومقاطع و حالاتٍ من حياة تعيسة حيث العمل الأدبي، كما وصفه بروست،»كغرام تعيس ينذر بأعمال أخرى أكثر تعاسة «.
في نصوص دشين ثمة إمساك بواقع حلمي تصادِفنا فيه مظاهر لواقع نعرفه، وفيما نحن نظن أننا نعرفه، نعثر على تجليات لواقع نجهله تماماً.
«موباسان» كتب مرة عن أنَّ» أيَّاً كان الشيء الذي نريد قوله، فليست هناك سوى كلمة واحدة تعبر عنه، وفعل
واحد لتحققه وصفة واحدة لوصفه. من ثمة علينا البحث
حتى نعثر على هذه الكلمة، وهذا الفعل، وهذه الصفة، وألا نكتفي بالمعنى القريب، وألا نلجأ إلى الخداع، للإحساس بالارتياح أو الاستخفاف باللغة لنتحاشى الصعوبات». وظني أن دشين، في اقترابه من عوالمنا الهلامية، الغامضة، الملتبسة، القاسية، المنفلتة، أصبح يعرف عبر مجموعته الجديدة هذه ، كيف يعثر على كلمته الدقيقة، وفعله الملائم ونعوته الواصفة التي يحتاجها .وواضح أنه يخرجها، ليس فقط من رأسه، وإنما من قلبه وجرحه وحزنه أيضا، و من عدم توافقه مع واقعه، مع واقعنا هذا، مع عصرنا هذا ..