* قبل البدء:
تستند هذه الورقة عموما على فرضية مفادها، أن القاص أبا يوسف طه؛ استطاع أن يجعل من صنعة الكتابة القصصية ،صوتا لا صدى ، تحولا لا ثباتا، إبداعا لا اتباعا.
1) – مدار العمل:
منذ بذرتها الأولى، وانطلاقا من الوعي بها كجنس أدبي سردي بدءا من الثلاثينيات؛ ولتشييد كيانها الأدبي والجمالي المستقل. لم تتوقف القصة المغربية القصيرة عن التكاثر والتطور عبر سيرورة محطاتها البارزة. يثبت خطواتها نموذجان حاضنان ومؤثران؛ هما التراث العربي باعتباره أرضية للانطلاق، بما يتضمنه من فن المقامات وأسمار ونوادر وسير شعبية وغيرها، ناهيك عن الثقافة المغربية الشعبية المتجذرة في روح الشخصية المغربية. ثم نموذج غربي تأثرت به ،عن طريق المثاقفة وترجمة الآُثار الأدبية الواردة من المشرق والغرب.
وإذا كان سؤال الكتابة الإبداعية، يرتبط أساسا بالذات؛ في علاقتها الجدلية بالأنا والآخر والواقع والتاريخ . فإن اشتراطات النسق الإحيائي السائد في مرحلة التأسيس الأولى للقصة القصيرة المغربية؛ وبكل سياقاته وأنساقه السوسيو ثقافية والسياسية والفكرية ؛ قد فرض على الخطاب القصصي،التمسك بالذات والهوية الوطنية والقومية؛ في لحظة كل اشتباك إبداعي مع الواقع. تحذوه في ذلك رغبة جامحة لتشييد معمار كتابة قصصية ذات نزوع إحيائي محافظ . يجاري قواعد الشعرية التقليدية، ملتزما بضوابط عمودها المعياري المستوحى، على غرارعمود الشعرفي الثقافة الشعرية العربية التراثية ؛التي تنهض على مبادئ الالتزام والمحافظة والتقليد والوحدة، معنى ومبنى ، شكلا ومضمونا.
ومع احتدام الصراع السياسي والاجتماعي في المغرب منذ السبعينيات. تشكل مستوى آخر من الوعي الثقافي والفكري الطليعي والتفكير النقدي، الذي ترك صداه بما كتب عنه من مقاربات ودراسات أدبية حديثة؛ قاربت سيرورة التحولات التي عرفها تاريخ القصة القصيرة بالمغرب الحديث: «1:
« …منذ السبعينيات سنجد ثلة من الكتاب المبدعين، يدركون أهمية العامل الثقافي عموما والأدبي خصوصا ، من مثل المرحوم محمد زفزاف، واحمد بوزفور، ومحمد عز الدين التازي، وأبو يوسف طه، وإدريس الخوري، أدركوا ما لتأصيل القصة القصيرة في تربة الأدب المغربي وتحديث إمكاناتها من أهمية بالغة.
فإلى أي حد استطاع فعل الكتابة القصصي في منجز ابي يوسف طه ، الانفلات من شرنقة النسق الإحيائي وشعريته التقليدية؟ ضمن «العالم الأدبي اللغوي–الجمعي «2:
L univers littéraire Sociolecte .
وإذا كان الأمر كذلك ، فماهي العناصر التجديدية المهيمنة، والبانية لخطابه القصصي في مجموعة «سلة عنب». الناظمة لتحولات الكتابة القصصية التقليدية في منجزه؛ تأسيسا على مفهوم التجاوزالنصي، الذي أكسب أفق الكتابة مستوى من المغايرة والفرادة؟ يراهن الخطاب القصصي لديه في القبض على المنفلت الهارب ،وفق أبعاد النص باعتباره خبرة ذات أبعاد ثلاثة أساسية كما يشير إلى ذلك الناقد محمد الحيرش في دراساته للتأويليات وعلوم النص حيث يحددها كما يلي:»3
البعد التكويني : يتمثل في استدعاء العلاقات التي يقيمها النص مع محيطه الخارجي.
البعد النصي: ويعني بلوغ النص تحققه الذاتي الذي يسعى إليه ..
البعد التاويلي: يتمثل في اعتبار النص أفقا مفتوحا على مالا ينتهي من التحققات القرائية المختلفة .
2) رهان التجاوزالنصي :
إن وكد التجاوزفي التجربة السردية القصصية في المجموعة « سلة العنب « هوانشغالها بسؤال الدال أكثر، من خلال اهتمامها بالبناء الأجناسي للقصة القصيرة ، مبنى ومعنى، فكريا وجماليا. تحذوها رغبة التجربة في خلق حركية سردية دينامية داخلية مُولِّدة
ومُخصِبة على نحو مغاير، بتجاوز السائد، نحوالمحتمل المختلِف المغايِروالمنفلِت من رقبة الجمود والتقليد والثبات.
وللوقوف على تجليات التجاوزالنصي في مجموعة «سلة العنب»، وإبرازحدود استراتيجية الكتابة . يورد البحث محددين أساسيين ناظمين لتمثل التجاوز النصي في النسيج القصصي للمجموعة :
المحدد الأول : تكسيرالبنية السردية.
المحدد الثاني: شعرنة اللغة أو المحكي الشعري في المجموعة.
* على مستوى تكسير البنية السردية:
يتم تشييد معمارية القصص في المجموعة ،انطلاقا من نمطين:
الأول : نمط سردي تقليدي وتمثله القصص التالية:(الزنابق السوداء،يطو ،حضرة الحمار المحترم، المعطف)
الثاني: نمط سردي تجديدي تمثله العناوين التالي: (الصوت،الصدى،كهرماء،الترادف،سلة عنب ،اشتغال التوالد،ملهم بن حسن)
وبطريقة إحصائية مقارِنة ،يبدو ان نسبة النصوص التي تتمثلها جاذبية التجاوز النصي ،تتجاوز نسبة 70 في المئة، من نصوص المجموعة.
وكمثال على تكسير أسلوب البنية السردية في هذه النصوص ،نتأمل القصة الاولى الموسومة ب»الصوت والصدى»4 تبدو من خلالها أسلوبية التقطيع ،واضحة تثري المبنى والدلالة.وبذلك تستمد قوة التجاوز والتحول، من كونها شكلا بصريا وثيميا.بالإضافة إلى انزياحها عن أسلوب التعاقب الحكائي والزمني. متضمنة ثلاثة مشاهد سردية مستقلة:
«بوصلة-الصالة-أصوات» بضمير متكلم يسرد وجدانيا تخييله الذاتي، فيمنح اللغة مُسحة من التأمل الفكري بلغة شاعرية ذات رؤى . وفي مُزاوجة بين الواقعية الانتقادية وبين التداعي والاستبطان الذاتي المشيد لهشاشة العلاقات الانسانية في أنساق من عوالم تخييلية رامزة..»ص 4:
«قبل ان أغمس أصبعي في هذا الجرح ،كان يعوزني الاطمئنان الضروري إزاء بناء كهف رمزي للأسرار، مغامرة غير مأمونة’بسبب الانبثاقات المفاجئة والظلال التي تطال الترميزات الممكنة»
وفي حوار في نفس القصة ،المشهد الثالث(أصوات):
«إإنه عانى كثيرا من اختلال القيم،ونظام الترميز «
قال الشخص الذي ظل شاردا ومبهوتا:
«إن المأساة في التواطؤ الثقافي ،يتكلم الواحد فيصادق الآخرون بهز رؤوسهم
* شعرنة اللغة :
واضح من «لغة» نماذج أسلوبية التقطيع، أن صنعة الكتابة في «سلة العنب» توجد بين تخوم النثر والشعر، بين القصة والقصيدة. وهذا مايشير إلىه الناقد الفرنسي :
Jean Yeves Tadié
في كتابه “المحكي الشعري”
«Le Récit Poétique»
يرى الناقد الفرنسي، بأن كل رواية هي بقد ما ،قصيدة ،وكل قصيدة هي في بعض الدرجات قصة.
وبدهي أن نشيرفي هذا السياق ،أن القاص والناقد المغربي شيخ القصة القصيرة ،أحمد بوزفور،يثير قضية اللغة ذاتها ،حيث يؤكد على دور اللغة الوظيفي، في خلق عوالم القصة القصيرة ونجاحها في في كتابه «الزرافة المشتعلة» :
«إن الإبداع في القصة القصيرة هو إبداع في اللغة ،وليس إبداعا باللغة»
فكيف تحقق لمنجز ابي يوسف في «سلة العنب» الخروج عن النمذجة الثابتة؟ وأي دور للغة في انفصال الكتابة في المجموعة عن النسق الإحيائي وآليات تحققه الصارمة.
يعمد المحكي الشعري في المجموعة ،إلى اختراق لغة السرد النثرية بشعرنتها، مما يتيح لها توليد الأخيلة والعوالم الرؤياوية والدلالات الرامزة. وللإ شارة، فقد يصعب على السرد الخالص، بلوغ الآفاق الدلالية التأويلية البعيدة. وإذ تبلغ شعرنة السرد في المجموعة قوة بلاغتها، فإن ذلك يكون قد منح المجموعة ،أقصى حدود طاقاتها التعبيرية ،بتنويع الشكيلات اللغوية التكثيفية والترميزية ، مما يمنح المرجع الواقعي عمقا في الإشارة والتأويل. ويمنح تسريد الحياة والواقع آفاقا رحبة، بأساليب توليدية لعوالم ترميزية
استعارية. تقوم بتوسيع عوالم الكتابة الممكنة ،وآفاقها التخييلية ، قوة وحرية أكبر، وهي
تقوم بتوظيف التراث والأسطورة، وعوالم الحلم والهذيان ،والغرائبي والمفارقة الساخرة والتقطيع المشهدي إلى غير ذلك من آليات الاشتغال . كل ذلك والمبدع أبو يوسف طه، تشده الرغبة بالتجريب، للقبض على المنفلت الهارب من وعي كتابة القصصية المغربية سائدة آنذاك ، لاتزال مشدودة لمنحى النسق التقليدي السائد الراسخ والمحافظ في تصوره. وبذلك يكون الخطاب لديه قد تخطى عتبة الاجترار والنمذجة ؛ليسبح في ممكنات أخرى توسع آفاق الكتابة القصصية المشدودة لحركية التسريد في الواقع .
يقول السارد»6 في ص23
«اشتعل الشيخ البهي عمودَ نور وخاطبني: أيها الطُّهري،نم وادع اصفياءك ليطَّهروا بالاغتسال في نهر الخطايا، يصفو الّذين أفسدوا ملكوت الله بخستهم وندالتهم.»
إن شعرنة اللغة في المجموعة بقدر ما تتجاوزنمط لغة تسريد الحياة السائدة، تساهم في إثراء جماليات الكتابة القصصية ،بجعل السرد لامجرد أحداث، بل فعلا إبداعيا خصيبا يمكن الكتابة في المجموعة ،تبلغ أقصى حدود طاقاتها التعبيرية، بشتى الأساليب اللغوية التكثيفية ،منحت الخطاب القصصي عمقا في الإثارة والتشويق والتاويل…ونقف عند بعض تجليات التحول والتجدد والتغيير والتجاوز :
-الغرائبي- الحس الكافكاوي –التداعي الحلمي- الانشطار المرآوي…
*الغرائبي :
يبرز الغرائبي من خلال التناص مع الحكايات التراثية العربية والسير الشعبية. او بتعبير من فن
«الكروتيسك» Gotesque
لخلق تأثير غرائبي مدهش وساخر
نموذج أول:
«…قطف عناقيدَ جيدةً، وقضى الليل ساهرا. وفي الصباح توجه بسلة العنب نحو القصر. وبعد مماحكة الحراس، أُذِن له بالدخول ، ولما مثل أمام السلطان ،انحنى مبجِّلا ؛فقال له السلطان:
ماقصدك؟
قال الرجل: آثرت ياصاحب الجاه ،ن أخصك بفاكهة في غير موسمها. وفجاة ،بادر بإفراغ محتوى السلة في آنية فضية. لم تسقط عناقيد كما توقع، بل سقط رأس مضرج بدم طري»
نموذج كروتيسكي:
ينسل مني ضوء لامع..فيترك الجسد الطيني مرميا على الشاطئ …كمعطف قديم، وأحيانا أبدو رخوا أتدفأ داخل صدفة مذهبة…وكلما هممت بتدوين ذلك تنخلع كفي، ثم تطير مُهَوِّمة في فضاء الغرفة، أي جنون يجبر على اغتيال الأصوات الهادرة والمويجات المتدافعة….
* الحس الكافكاوي:
تستغور شعرنة اللغة الدواخل، وتنبش في المعلن والمضمر، الشعو واللاشعور، فيملأ الحكي فراغات السرد تخييلا ، مستعيرا من الشعر طرائق كتابته، لاستغوارعبثية الحياة واغتراب الذات اجتماعيا وثقافيا ووجوديا .قصة «اشتغال التوالد»ص28-29
«أتمدد،أرمق من النافذة الخواء البراني،قبالتي وجه صخري جامد،..تلهو يد معروقة ضخمة كقفاز من طين بشاربه الرمادي…اقرأ الجريدة ،أدخن علبة،أحرك أصابع يدي مشرعة أمام عيني ُم أتأمل السحاب، الهارب…الطيور …البيوت…. اللاشيء…أحمل نفسي…أتأمل المرأة الكبيرة المهشمة..لي عيون وشفاه؟؟؟رأس فوق رأس…أيد تتعلق بها أصابع كالديدان..»
*التداعي الحلمي:
إلى جانب هذه رؤية التحول الكفكاوية والعبثية ،تطفح عوالم المحكي الشعري بأشكال من الحلمي والرمزي ،في تعالق مع أدباء عالميين ،وذلك في تكسير سردي للنمطي. وكشف عن وعي كتابة جديدة تحتفل بذاتها وبالميتا سردي .نموذج من قصة» المعطف»
نموذج ص قصة المعطف 49
«مددت عنقي من حاجز الشرفة مستطلعا،…الشبح النحيل،الفارع الطول، المتلفع بمعطف ذي ياقة قطنية،يضع أصبعه على زر الجرس بمايشبه مشاكسة طفولية،بدأت عايدة تتملل،قلت بخفوت: من؟ أجبت بلكنة غريبة مرتعشة: ف.ف فيودور:
يا إلهي لا أعرف شخصا يدعى فيودور،فعاود بمايشبه الصراخ :
افتح …أنا فيودور دستويفسكي «
*الانشطار المرآوي:
تكثر ظاهرة التداعي والانشطار المرآوي في كثير من المقاطع القصصية في المجموعة،بقوة استداعائها لأعلام من التراث العربي والغربي والانساني حيث تتضمن القصة :الإطار –البذرة،ونوع من التناص من خلال الإشارة إلى تعالق الذات، بحياة أديب آخر في تكامل. وشعور نفسي . يسمى بالانشطار المرآوي :
«إن الناقد ريكاردو يميز بين التناص الخارجي، الذي يربط نصا بنص آخر، وبين التناص الداخلي الذي يتناول علاقة النص بذاته..وهي صفة نصية لما يسمى بالانشطار المرآوي.
على سبيل الختم:
الكتابة في هذه المجموعة خاصة وفي منجز الكاتب عامة، هي كتابةُ محو وبناء، قلق إبداعي ، وبحث عن جمالية ما. كتابة تقتنص النقص لتغتنيَ به؛ و معمار قصصي مخاتل، بلغة مخاتلة. لا تقول ما يقوله السائد قبله، أو تنساق مع جريان نهره . كتابة تكتب هي ما تريد . وكيف ماتريد؛ دون حجْر أو قيود.
1- منشورات المختبرات حول القصة والترجمة ،بكلية الآداب ابن مسيك (2010) :
2- محمد الدوهو. الكتابة والذات
3-محمد الحيرش. التأويليات وعلوم النص
4- أبو يوسف طه،سلة العنب،سلسلة إبداعات /شراع،1999
5- Jean Yeves Tadié, “Le Récit Poétique»
6- عزيز ضويو، التجريب في الرواية العربية
الكتابة على نحو مغاير .. قراءة في منجز أبي يوسف طه القصصي «سلة العنب» أنموذجا

الكاتب : أحمد بهيشاوي
بتاريخ : 18/07/2025