كيف يمكن أن نكتب وتظل الورقة بيضاء؟
إنه السؤال العسير الذي توهمنا به ليلى بارع في ديوانها «همس الفراشة»، (1) كتابة طيفية مثل أجنحة الفراشة وهمسها الرفراف، عليك الاكتفاء بالتحديق إلى الرفرفة، وأن تبتعد عن جناية [يد الناقد]، تمتد إلى أجنحة الفراشة ف [تحترق]، بدل الفراشة.
ثمة بالتأكيد، في هذه الكتابة الشعرية، فراشة ترافق ضوءها المقدس إلى مشمول كمون الرماد، أي ما اعتبره باشلار [ نسيانا أصليا]، في كتابه «النار في التحليل النفسي ( 2 )، المعادل الرمزي لرماد الذاكرة، حيث في الديوان تتضاعف الرمزيات المعجمية للنسيان: تارة موتا، وتارة غيابا، وتارة فراغا، وتارة حنينا، انتهاء بمعنى الفقدان، الرحم الأم للنسيان.
في كل كتابة شعرية، هناك جذر أسطوري، لا يكف يعيد [ مشهد الكتابة ] إلى الذات الأصل، مشهد الكتابة اصطلاح فرويدي، يقابله عند جاك دريدا مفهوم
[L’ARCHI-ÉCRITURE ]، (3)، وهو مجاور بصيغة سيمياية لمفهوم «(النواة الأولى)، لدى مايكل ريفاتير في كتابه «دلائليات الشعر»،(4)، وهو الأقرب إلى تناولنا في سياق هذه القراءة.
أبلغ تمثيل لتجسيدات هذا الجذر الأسطوري في الديوان هو المتمثل في قصيدة (النساجة) التي تلجأ فيها الشاعرة إلى رمزية [ بينيلوب ] (Pénélope) زوجة البطل الملحمي عوليس في الإلياذة، هذه القصيدة التي تنعقد ترميزاتها الأسطورية على مماثلة للفعل الشعري بنسج قميص عوليس الغائب، كلما أوشكت على إتمامه، فكت مغازله لتبدأ النسج من جديد.
وهذا نص القصيدة:
( بإبرة الصبر
تعلمت نسج الفرح
خيطا خيطا
حتى الخيط الأخير
بإبرة الصبر
تعلمت رتق الأحلام الممزقة
جرحا جرحا
حتى الحلم الأخير
كما تغادر الطيور أعشاشها
أغادر
متناسية طعم الوقت الحزين
أعيد اكتشاف منحنيات الفرح
أصعد تلاله بأقدام حافية
أصطاد فراشاته
بصبر الدراويش
ومهل العارفين )
[صفحة 25]
قصيدة تمتاز بكثافة الرمز، لكنها «بارعة» النسج، في تضفيراتها المجازية التي تساوق بين النسيان والغياب الملحمي/ التراجيدي، ل «عوليس»، كدال سيميائي على كل معاني الفقد وتمزقات الأحلام وجراحات الفرح وكآبة الوقت الحزين.
تأخذ هذه القصيدة شكل [مضاعفة ميتاشعرية] أو [تأويلا استبطانيا]، لباقي القصائد الأخرى: قصيدة الأعمى (ص7) وشجيرة ورد (ص11)، وأسماء (ص13)، وحديقة سرية ( ص32 )، هذه الأخيرة التي نقرأ من نصها:
( من تحت الرماد
تولد الذكرى
لا جدار ولا تميمة توقفها
هل من طريقة للنسيان
هل تطوي من أجلي الطريق
والزمن
لأوقف الزمن داخلي
تقول العابرة )
( ص 33)
تصوغ ليلى بارع همس فراشاتها الشعرية وفق لغة لتسيد نجوى الأنا الشعرية بصيغة المتكلم المؤنث، لغة، ذات نفس استبطاني ووقع مونولوجي يتصادى داخله ضجيج العالم الخارجي، وصمت الأعماق.
يزهر المعنى في مشهد البوح، يصفق مرفرفا، لكنه لا يملك [أكثر من عمر الفراشة] لتذوي ألوان أجنحته في ذبول الصمت والفراغ، لذلك تحدثنا في المبتدأ عن كتابة تأخذ شكل البياض. ذلك ما تشير إليه الشذرة الشعرية المعنونة ب»موجة سابعة»:
(كموجة سابعة
أبطل النسيان سحر الحب
الذي رفرف طويلا بيننا
قبل أن يتلاشى كلحظة مرت
وسقطت عن جدار
الذاكرة)
( ص28 )
مثل [ أثر الفراشة] الفراشة لا تعمر، لكنها كالشعر تخلد في الأثر العابر، شبيهة بلؤلؤة المحارة التي تكتنز الهدير الأبدي للبحر، إنها كتلك التعويذة، حين يكسر البحارة جرة من ماء اليابسة على سطح القوارب لكي لا يبتلعهم (البوسيديون) ويعودون إلى آثار خطوهم، تلمح الشاعرة إلى هذه النذور الكامنة في رمزية الكتابة قائلة:
(أجمع من وقع الخطى التي تعثرت
أثرا
أنثره في وجه الحنين
حتى لا أنسى)
ص [30]
يلزم، دائما التمييز بين «الذاكرة التاريخية»، و «الذاكرة الشعرية»، الذاكرة التاريخية تكتب بدال المرجع الذي يحين أثرا من الماضي، لكن ما يؤشر عليه فيليب لوجون، في كتابيه «الميثاق الأوتوبيو غرافي» و «الأنا هو الآخر» (5 )، في هذا الكتاب أبرز أن الذاكرة ليست معادلا للتاريخ .
على النقيض من ذلك تكتب الذاكرة الشعرية بدال المجاز، إنه الشيء يعود وقد أخذ هيأة الرمز، بهذا المسلك تشتغل الذاكرة الشعرية في ديوان «همس الفراشة»، حيث تنكتب الذاكرة بالنسيان، بأثر المحو الذي يوهم بالبدء. فتحت قشرة المجاز نسيانات كثيرة، إنه كالتفاحة في حلق الكلام، خطيئة بدئية في جسد اللغة، وزهرة تنمو تحت ماء النهر، كما ذلك العطر الذي يصفه بودلير في «الحقول المغناطيسية» ب (العطر الإكسيري) حيث كل مصب ينبوع (6).
أقرب مناخ شعري لهذا الاشتغال الرمزي، نتبصره من قصيدة «العنقاء»:
(أطل على العوالم
التي عبرتها كضوء شارد
بحياد كامل
ككائن أسطوري أقف
على نفس المسافة من البياض
والسواد
كما يفعل الملائكة كل صباح
لست حارسة ظلال
كشاعرة أكتفي برعي المعنى الذي
يلمع
كنجمة الشمال في دمي
أتجول في التفاصيل
أتفرس في وجه الأسماء التي
اخترناها معا
الآن
هي ملك للحقيقة…الآخر)
(ص38 )
أختم هذه القراءة بالإشارة إلى خاصية تربط هذا الديوان بديوانين سابقين وهما «أجنحة الفراشات السوداء» 2015، و «نسخة ثانية مني»، 2016، حيث يبرز أحد محافل الكتابة الشعرية عند ليلى بارع متمثلا في [قلق سؤال الهوية الشعرية]
ثمة الكثير من [طروس المعنى ] التي تؤثر على خلفية عميقة للقراءة لنصوص الشعر الحديث، إنها تقرأ وتنسى، وهذا في حد ذاته أبلغ ميسم للهويات الشعرية الحديثة، وهي بهذا تنأى عن قبيلة الشعراء الذين يرعون في حقول الآخرين، تأتي إلى الكلمة الشعرية من اليتم، لتقترف ميلادها في مهد المحو والنسيان، أو بتعبيرها الشعري البليغ من قصيدة «أسماء»:
(نحن لا نذكر
حين الموت
الأسماء….)