ماهي العلاقة بين الكتابة والصحراء؟ وكيف تلازمتا منذ زمن بعيد؟ ألم تكن الكتابة مرتبطة بالصحراء، هل هناك حدود للكتابة في الصحراء أم لا حدود لها مثل كثبان الرمال؟ وأيهما أقرب إلى ثقافة الصحراء: الكتابة أم الشفاهية؟
إنها تساؤلات عميقة تنبعث ونحن نتأمل المتون والمؤلفات التي اتخذت من الصحراء تيمة لها. فلقد شكلت الصحراء دوما فضاء غنيا بامتياز وباعثا على الإبداع والتدوين. بإرثها التاريخي العميق ،وبتنوع تضاريسها، وغنى مواردها الطبيعية التي تجمع البحر والبر في التحام وتناسق جميلين ،كما شكلت ملتقى للحضارات المتعاقبة على المغرب ، لذلك نبغ منها شعراء عديدون ومفكرون كانوا من رموز زمانهم ، ومثقفون ألفوا وأنتجوا كتبا ما يزال بعضها رهين خزانة المخطوطات ينتظر التنقيح وإخراجه من ركام الأتربة ليستفيد منه الأحفاد بعدما أنتجه الأجداد منذ زمن غابر
يتكون الكتاب من أبحاث متفرقة ومستندة في معظمها على نصوص مخطوطة تم تأويلها واستنطاقها وفق مقاربة أنثربولوجية تاريخية لتحقيق عدة غايات: الأولى: تقديم رؤية شبه شاملة من خلال قراءة وتحليل أهم اللحظات التاريخية التي ميزت ماضي المجتمع البيضاني في صيرورة معينة، خاصة أن مجال هذه الأخير كان مصدرا للتجدد السياسي والديني بالنسبة لشمال إفريقيا والأندلس متجسدا في الحركة المرابطية وصلة وصل محورية بين البلدان المغاربية وإفريقيا السوداء اقتصاديا ودينيا وثقافيا.
والثانية إبراز غنى مجال الصحراء وخصوبته اجتماعيا وسياسيا .
وقد قسم الكاتب مؤلفه إلى سبعة فصول تؤكد جليا أن الصحراء لم تكن يوما ما مكانا عقيما وثابتا، بل عرفت ديناميكية ثقافية اجتماعية وسياسية :
الفصل الأول : تناول فيه الصيرورة التاريخية لتقسيم المجتمع البيضاني (الصحراء الجنوبية الغربية) حيث تطرق لهذا المجال الذي انبثق نتيجة مسلسل من التقسيمات الترابية وخلاصة مسار تاريخي طويل لعبت في تحديده عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية،بعد ذلك حلل دلالة الأسماء التي أطلقت على المنطقة إما على أساس جغرافي أو مناخي، أو على أساس إثني أو قبلي وذكر بأشهر الأسماء وهي :بلاد التكروز وبلاد شنقيط، لكن التسمية المشهورة هي بلاد البيضان حيث عرف البيضاني أنه ذلك الشخص الذي يتكلم اللهجة الحسانية، ويرتدي زيا مميزا،وله هوية ثقافية (بالمعنى الانتربولوجي) تميزه عن الساكنة المجاورة،وبالمقابل أطلق البيضان على جيرانهم تسميات كالأعاجم (بالنسبة للتوارق) ولكور (السنغال ومالي) والشلوح(بالنسبة لجيران الشمال)للتميز عنهم ثقافيا.
بعد ذلك فصل في التقسيم الاستعماري لمجال البيضان حيث أشار أنه إلى حدود بداية القرن العشرين كانت الحدود السياسية غير موجودة، لكن مع بداية الاستعمار سيبدأ مشروع تقسيم ورسم حدود سياسية لا علاقة لها بالتشكيلات الاجتماعية والبعد التاريخي والثقافي والمصالح الاقتصادية والإرادة الجماعية لسكان المنطقة، والتي ستراعي مصالح الإدارة الاستعمارية الإسبانية والفرنسية دون الأخذ بعين الاعتبار الوحدة الثقافية والاجتماعية لمجال غرب الصحراء الإفريقية مشيرا إلى أن الدولة الوطنية المغاربية عملت على تكريس الحدود الموروثة عن الاستعمار مع مارافق ذلك من نتائج وتناقضات وأحيانا صراعات لازالت شعوب المغرب الكبير تدفع ثمنها.
الفصل الثاني: تطرق لدولة المرابطين في الصحراء بين صمت المصادر الخارجية وخصوبة الذاكرة المحلية، حيث قدم الباحث قراءة للحركة انطلاقا من كتابات لاتزال مخطوطة لمؤرخين من موريتانيا عاشوا في أواخر القرن 18 و19 محددا الهدف من ذلك وهو البحث عن حقائق تاريخية مركزا على البعد التاريخي للمرابطين كحركة مؤسسة للحظة أسطورية في الوعي التاريخي لساكنة منطقة البيضان متجنبا الدخول في التفاصيل الحديثة أو *تصحيح الأخطاء*التاريخية للنصوص التي اشتغل عليها .
وقد اشتغل الباحث بمنهجية طرح الحدث وتعضيده بنصوص معينة، ثم التعليق عليها ومقارنتها بما ورد في كتب أو مخطوطات أخرى، مقسما الفصل إلى جزأين: المصادر الخارجية وغياب البعد الصحراوي، والذاكرة المحلية التي حاول فيها تسليط الأضواء على زوايا لا تزال غير واضحة المعالم .
الفصل الثالث: العروبة والقرابة في غرب الصحراء انطلاقا من هجرة قبائل بني حسان إلى غرب الصحراء ومن نتائجه تعريب أغلبية القبائل الصنهاجية التي كانت تستوطن الصحراء الأطلسية مما تولد عنه ظهور الحسانية كلهجة لمجتمع جديد وليد التلاقح بين العناصر المعقلية والصنهاجية الأمازيغية، ولم يقتصر التعريب على اللسان بل أخذ عمقا اجتماعيا من خلال تعريب الجينيالوجيا وعمقا سياسيا بظهور نظام الإمارة .
الفصل الرابع : حرب شرببة أو وهم الصراع الإثني: عرب بربر
فلقد شكلت هذه الحرب التي دارت رحاها مابين 1671م و1677م في منطقة جنوب غرب البلاد لحظة حاسمة وعملا مؤسسا للعلاقة الصدامية بين رجل الدين ورجل السلاح/ السيف، فشرببة هي التي شكلت في بلاد البيضان امتدادا لظاهرة المهدوية المعروفة في بلاد المغرب الكبير. فالظاهرة المهدوية ليست من فعل دجالين ومدعين للنبوة ومتعطشة للسلطة، بل هي مصدر للتجديد السياسي وحركة ثورية وتعبير عميق عن أمل فئة عريضة وحركة سياسية اجتماعية تناضل من أجل تأسيس نظام سياسي وأخلاقي جديد، ولقد كانت شخصية ناصر الدين في بلاد البيضان المعبر والمجسد للمهدي في بعده الصحراوي، لكن تظافر عوامل عدة أدت إلى هزيمته ووفاته في مرحلة مبكرة. كما أن هذه الهزيمة يؤكد د رحال أنها أفرزت جيدا الخريطة السياسية مع إفراز مسار تشكيل إمارتي الترارزة والبراكنة، لذلك يؤكد أن تلك الهزيمة ليست عسكرية فحسب، بل هي هزيمة دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية ،فأول محاولة لتأسيس سلطة سياسية مبنية على إيديولوجية دينية تعرضت لفشل ذريع كان له وقع على مستقبل المنطقة، فشرببة قامت بقيادة رجل دين حمل مشروع بناء نظام أخلاقي جديد مؤسس على تطبيق الشريعة، لذلك فهزيمتها وضعت حدا لطموحات رجال الدين في محاولة خوض غمار حركة مماثلة لتأسيس دولة دينية .
الفصل الخامس :القبيلة والسلطة السياسية والتراتب الاجتماعي :فالقبيلة لم يكن يحكمها نظام الغاب ولا تعيش في اللانظام أمام غياب سلطة مركزية مباشرة وحتى بحضورها. فهي مؤسسة منظمة وقائمة على أسس اجتماعية وسياسية وجهاز قضائي يراعي خصوصيتها وظروفها. كما لم تكن القبيلة على المستوى الديني جامدة في تعاملها وتأويلها للنص الشرعي بل خلقت مايشبه قانونا وضعيا يتكيف مع ظروفها. وهو ما ستنتهي له الدولة الوطنية بعد الاستقلال حين ستقوم هي بدورها بسن قوانين وضعية قد لا تناسب حرفيا النص الديني ولا ترضي الفقيه المتزمت الذي عارض أقرانه سابقا العرف بشدة، ولكن أمام قوة الدولة اضطر للصمت وفي الغالب إلى تبرير وشرعنة هذه القوانين الوضعية .
الفصل السادس: تطرق فيه لنظام الإمارة كتطور لبنية السلطة السياسية خاصة إمارات الترارزة وأدرار وأيدوعيش، والتراتبية الاجتماعية عبر الحديث عن النموذج التراتبي المحلي وتقديم نظرة على مختلف الفئات التراتبية والتركيز على الزوايا لدورها التاريخي دينيا وثقافيا وسياسيا ولطبيعة وظيفتها ومكانتها التراتبية التي تختلف في سلم الهرم الاجتماعي من جهة لأخرى وحسب التاريخ الخاص بكل مجموعة (حسان، الزوايا، ازناكا ) الذي لم يكن محصورا في المجتمع البيضاني بل هي ظاهرة عرفتها المجتمعات المجاورة وتميزت بالمرونة والحركية .
الفصل الأخير أمير العلماء وعلماء الامير الخطاب السياسي لعلماء البيضان: ناقش فيه د رحال بوبريك علاقة العالم بالأمير حيث أنتج العلماء البيضان خطابا سياسيا متمحورا حول شخص الامير أخذا بعين الاعتبار خصوصية المجتمع البيضاني ومكانة الفقيه في هذا المجتمع كممثل لمجموعة تراتبية دينية معروفة تحت اسم الزوايا.
ليخلص إلى أن التوافق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية أملته الظرفية السياسية والاجتماعية فكل طرف كان بحاجة إلى الآخر من أجل إثبات سلطته وتوسيع مجال تأثيره ونفوذه وكسب شرعية معينة. فلقد وجد الفقيه البيضاني نفسه في مأزق، فأما أن يقبل ويتكيف ويتعاون مع السلطة السياسية القائمة أو يرفضها. ولقد ظل ولا زال هذا الموقف هو السائد عند أغلب العلماء في تعاملهم مع الحكام .
وعموما فالكتاب الصادر سنة 2008 والممتد على 206 صفحة من الحجم الصغير هو مقاربة انتروبولوجية تاريخية للمجتمع البيضاني الممتد من واد نون شمالا حتى نهر السنغال جنوبا ومن المحيط الأطلسي غربا إلى أزواد مالي شرقا .وتهدف إلى تبيان مدى غنى هذا المجال وخصوبته اجتماعيا وسياسيا لأن الصحراء لم تكن ذلك المجال العقيم والثابت، بل عرف ديناميكية ثقافية واجتماعية وسياسية وكانت مصدرا للتجدد السياسي والديني بالنسبة إلى شمال إفريقيا والأندلس متجسدا في الحركية المرابطية وصلة وصل محورية بين البلدان المغاربية وإفريقيا السوداء اقتصاديا ودينيا وثقافيا إن بلاد البيضان كانت وبامتياز بلاد التلاقح الإثني والثقافي بين مجموعات بشرية مختلفة الأصول والثقافات وانصهرت مكوناتها لتنتج لنا المجتمع البيضاني بخصوصيات بنياته الاجتماعية والسياسية .