الكتابة والصحراء قراءة في مؤلفات فردية وجماعية 4- «جوامع المهمات في أمور الرقيبات» لمحمد بن لحبيب بن لحسين بن عبد الحي

ماهي العلاقة بين الكتابة والصحراء؟ وكيف تلازمتا منذ زمن بعيد؟ ألم تكن الكتابة مرتبطة بالصحراء، هل هناك حدود للكتابة في الصحراء أم لا حدود لها مثل كثبان الرمال؟ وأيهما أقرب إلى ثقافة الصحراء: الكتابة أم الشفاهية؟
إنها تساؤلات عميقة تنبعث ونحن نتأمل المتون والمؤلفات التي اتخذت من الصحراء تيمة لها. فلقد شكلت الصحراء دوما فضاء غنيا بامتياز وباعثا على الإبداع والتدوين. بإرثها التاريخي العميق ،وبتنوع تضاريسها، وغنى مواردها الطبيعية التي تجمع البحر والبر في التحام وتناسق جميلين ،كما شكلت ملتقى للحضارات المتعاقبة على المغرب ، لذلك نبغ منها شعراء عديدون ومفكرون كانوا من رموز زمانهم ، ومثقفون ألفوا وأنتجوا كتبا ما يزال بعضها رهين خزانة المخطوطات ينتظر التنقيح وإخراجه من ركام الأتربة ليستفيد منه الأحفاد بعدما أنتجه الأجداد منذ زمن غابر

 

يندرج الكتاب ضمن سوسيولوجيا المصادر بالصحراء، وهو في أصله مخطوط كتب يوم الاثنين 15/5/1359 الموافق ل 21/6/1940 من طرف محمد بن لحبيب بن لحسين بن عبد الحي قاضي ركيبات الساحل،وقد سبق للكاتب أن اشتغل عليه سنة 1979 بترجمته إلى اللغة الفرنسية بمعية الأستاذة caratini، وهو تأليف يجسد عينة من التأليف ذات الاتجاه القبلي من كتب وأنساب وجرد لتحرك القبائل وهجراتها .
وتكمن أهمية الكتاب كما يؤكد د إدريس الناقوري إلى صاحبه (محمد بن لحبيب) الذي عاش بين ظهراني القبيلة وخبر أهلها وتقاليدها وعاصر عدد من أحداثها الجسام في القرن 20 واطلع على تاريخها بواسطة الروايات التي تلقاها من أعيانها وشيوخها أو استقاها من وثائق مكتوبة وأسانيد مضبوطة تمكن من الحصول عليها بحكم وظيفته القضائية التي شغلها وسط الرقيبات .
و قد قسمه صاحبه لجزئين :
الجزء الأول يتضمن سبعة أبواب تعتني بنسب قبيلة الرقيبات، ونشأتها ،وأعرافها الزوجية، ثم الإجارة والفلاحة، والمنحة فالجراحات فالإنصاف.
أما الجزء الثاني فيتمثل في الباب الثامن و15 فصلا ويشتمل على جرد للحروب التي خاضتها القبيلة
وتكمن أهمية التمهيد الذي قدم به ناعمي في أن المخطوط يفتح الشهية لدراسة المخطوطات ويغري بالنبش في المسكوت عنه ،إذ أن أهمية المصادر لا تكمن في تجميع الوثائق والمراجع وتهيئتها للباحثين والمهتمين فحسب،ولكن دورها الأساسي هو توجيه الباحثين نحو الميادين التي تم إغفالها رغم أهميتها بالنسبة للمستقبل.
كما يؤكد أن تحقيق هذا المخطوط يأتي في إطار *سوسيولوجيا الهياكل المحلية *انطلاقا من أن قبيلة الرقيبات شأنها شأن باقي القبائل تخضع في نشأتها وتطورها لمجموعة من العوامل الخارجية والداخلية التي يؤدي تفاعلها معا إلى بلورة القبيلة نفسها، ومجموعة العوامل الخارجية التي تؤثر في نشأة القبيلة وتطورها هي التي تتعلق بالأبعاد الحضارية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية ..فدراسة هذا النوع من المخطوطات -يؤكد ناعمي- يثبت أن كل فصيلة أو تجزئة قبلية مهما كانت صغيرة تخضع للمراقبة خضوعها للأعراف الجماعية والقوانين الخفية المسيرة لبنياتها التأسيسية.
كما أن دراسة المخطوط لا تنحصر في تطور فصائل الرقيبات فقط ، بل إنها تطرح الإطار الزمني والمكاني للإحاطة بجدول تتلاقى فيه السمات والرموز والمصطلحات المحلية، ذلك أن محتوى المخطوط يدفع الدارس إلى الارتقاء بالاعتبارات النظرية إلى مستواها الشمولي عبر الصحراء الأطلسية.
كما أن المخطوطات تكتسي أهمية خاصة في ضبط الخصوصيات المحلية وصيانة قواعد الاستنباط اللازمة للانتقال من قضايا متجاوزة إلى قضايا مستقبلية، وتحديد الوسائل التي تتمكن بواسطتها من إدخال مفاهيم جديدة أو إضافة قواعد معينة للنسق الاقتصادي والاجتماعي.
ولقد حاول المحقق استجلاء الأبعاد الهيكلية للتاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهذه القبيلة واستجلاء المنحنى السوسيولوجي للنص عبر محورين أساسيين :
1. تعريف ظاهرة انتماء القبائل المرابطة للنسب الشريفي وأثر ذلك على تطور الركيبات.
2. تحديد الجانب الاقتصادي والأنتربولوجي لمفهوم مراقبة المجال، وعلاقته بتربية المواشي وبالإيديولوجية المؤطرة للركيبات دينيا وعسكريا.
إن التركيز على هذين المحورين نابعان من محاولة رصد الديناميكية المرتبطة بتطور الركيبات، وضبط الآليات التي يتم بواسطتها الانتقال من قبيلة مسالمة إلى مسلحة تعمل على توسيع مجالها الاستيطاني في احتكاك مباشر بالظواهر العسكرية .
وقد اشتغل المحقق على منهجية علمية تعتمد على :
1. استخراج نسخة أصلية للمخطوط مع التعريف بالأماكن ومقارنة المصادر المتعلقة بمختلف الفترات.
2. الاكتفاء في رسم الأعلام والأماكن بالضوابط المتبعة في الحسانية خاصة في طريقة كتابة حرف الكاف والهاء.
3. الاقتراب من المحتوى الباطني للنص مبرزا أن الهدف من مثل هذه الدراسة ليس هو ابتذال أنماط المعرفة المتداولة خاصة وأن حذف أسماء الدخلاء خير دليل على الرغبة في عدم إثارة الحساسيات
4. التعريف بالنصوص الأساسية وتوفيرها للقارئ حتى يواجه احتكار الوسيط المعرفي ويكنس ظواهر التمييع والابتذال
لكن د ناعمي أثار ملاحظات وانتقادات لكاتب للمخطوط الذي هو محمد سالم بن لحبيب بن لحسين بن عبد الحي وهي:
• رغم استفادة الكاتب من تراكم الوثائق العائلية النادرة، فقد اقتصر على الأحداث التي لم تكن في حاجة إلى تدوين نظرا لما لها من أهمية من حضور في الذاكرة الجماعية .
• إهمال الأسانيد المكتوبة .
• إتباع طريقة كرونولوجية خاصة به في سرد الأحداث التي يراها جديرة بذلك.
• انطلق المؤلف في بلورته لمراحل تطور القبيلة من رؤيا متعددة الأشكال تبدو لأول وهلة واقعا قابلا للتصنيف، لكن بالإمكان استنباط تنافر المقاييس المعتمدة من خلال دلالتها المفاهيمية .
• الكتاب هو رؤيا معينة للأحداث والمتغيرات كما يراها عين من أعيان القبيلة، لذلك يجب أن تحظى مجمل المخطوطات والوثائق المحلية بالتحقيق والدرس حتى تتم مقارنة واستنطاق الذوات على تباينها سواء تعلق الأمر بهذه القبيلة أو غيرها، لأن هذه المرحلة الانتقالية التي أدت بالركيبات إلى دخول ميدان السلاح تعد شرطا لكل محاولة تنظيرية حول مفهوم العصبية القبلية كما تفترضها الخصوصيات المحلية .
• وضوح الوحدة السردية المنطقية وترتيب المعلومات وقلة الأخطاء التاريخية .
• احتياط المؤلف من الحكايات المبالغ فيها وقدرته على تجنب المبالغة بطريقة أو بأخرى.
• اعتماد تواريخ الميلاد وتحديد المواقع بدقة ، مبرزا منهجية في استغلال الوثائق والتنسيق بينها
كما ناقش الباحث أبرز أفكار المخطوط من خلال استحضار معطيات تاريخية وسوسيولوجية وجغرافية مع التركيز على المحاور الآتي:
الفصل الأول مشجر مولاي عبد السلام بن مشيش وحقيقة النظام القرابي الركيبي
المرحلة الأولى :التأسيس
المرحلة الثانية :حمل السلاح
المرحلة الثالثة : التحالفات القرابية الركيبية
المرحلة الرابعة :حقيقة تاريخية أم أداة دينية للتعامل السياسي ؟
الفصل الثاني :مراقبة المجال وتطور العصبية الركيبية
• مفهوم الملكية وصيغة بنو حفيان
• ادا اوبلال
• آيت لحسن
• آزوافيط
• الركيبات بعيدا عن ترابط الصلات الأعرابية
• القوى الإنتاجية الركيبية ومفهوم تراب الركيبات
• تكنة والملامح العسكرية للركيبات
1. الطابع التحالفي المستمر بين الطرفين
2. المعاهدات الحمائية
في الأخير قدم المخطوط بشكل كامل وهو مبوب كما يلي:
الباب الأول : نسب سيدي أحمد الركيبي واشتغاله وسبب انتقاله من وادي درعة
الفصل الأول :اشتغال سيدي أحمد الركيبي .
الفصل الثاني : سبب انتقاله من وادي درعة
الفصل الثالث :مسكنه
الباب الثاني : في تفصيل أبناء سيدي أحمد الركيبي
الباب الثالث :فيمن التحق برقيبات الشرق من دخلاء (محذوف)
الباب الرابع :رقيبات الساحل :
الباب الخامس: النكاح والتجهيز والعادة فيهما
الباب السادس :الإجازة والعادة فيها :الإنصاف
الباب الثامن :أول من تقاتل معه الرقيبات (15 فصلا)
وختم المحقق مؤلفه ببيليوغرافيا مختصرة وجرد للائحة المواد والخرائط والأمكنة وفصائل وأسماء القبائل ،كما قدم ترجمة للمخطوط باللغة الفرنسية .
وعموما فالكتاب الذي يتكون من 121 صفحة والصادر سنة 1992 تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي هو وثيقة غنية في التعامل مع المخطوطات في الصحراء وما أكثرها، فقد حرص د ناعمي على تناول مختلف فصول الكتاب بتقديم المعلومة الواردة، فاحصا لها برؤية السوسيولوجي المتقدة، مؤكدا ومحللا لها ،أو مشككا في جزء منها وفق منهج علمي يعتمد على المقارنة التاريخية محللا لبعضها ، متوخيا تجاوز المعلومة المقدمة من أجل تفكيكها وربطها بالسياق العام وفق المقشدة السوسيولوجية التي تجمع بين جغرافيا الفضاء وتاريخ القبائل والأنساب وكله ذلك يندرج ضمن سوسيولوجيا الصحراء .


الكاتب : تحقيق وتقديم د مصطفى ناعمي / م محمد البوزيدي

  

بتاريخ : 05/03/2025