«الكمان الأحمر» للمخرج الكندي فرانسوا جيرارد الوصول إلى الكمال عبر الموسيقى

الفيلم عبارة عن مدونة موسيقية كتبها الموسيقي (جون كوريجليانو) كتب لها السيناريو دون مكيلر..

(كوريجليانو) هو مؤلف مبدع متميز في الموسيقى الأوركسترالية، موسيقى الحجرة، الأوبرا، وموسيقى الأفلام، مثل «الدول المعدلة» و»الثورة البريطانية»، وقد أنهى تدوين قصة الفيلم عام 1997 كمدونة موسيقية تم عزفها في 25 نوفمبر من نفس العام، حيث قدمها (روبرت سبانو) قائد أوركسترا سان فرانسيسكو السيمفوني على شكل «تشاكون»* بين آلة الكمان و الأوركسترا بواسطة العازف المنفرد «السوليست» أو «الفرتيوزو» (جوشوا بيل) ثم تم تقديمها مرة أخرى في ديسمبر بمصاحبة أوركسترا بوسطن بقيادة (سيجى أوزاوا) مع (بيل) في القاعة السيمفونية في بوسطن، ثم قاعة كارنيجي في نيويورك، وأخيرًا في مركز نيوجيرسي للفنون.
أما في الفيلم فالموسيقى كانت بمصاحبة (بيل) أيضًا والأوركسترا الفلهارموني بقيادة (إسا بيكا سالونين)..
الفيلم إخراج الكندي فرانسوا جيرارد.
فريق العمل: صامويل آل جاكسون، كولم فيور، جريتا سكاتشي، كريستوف كونزس، وسيلفيا تشانج
حصل الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية، جائزة جيني لأفضل سيناريو..
أجمل ما في هذا الفيلم أن فكرته تدور حول علاقتنا بالأشياء وليس الأشخاص أو الكائنات من حولنا..
في هذا الفيلم نشعر بالحميمية لهذه الأشياء، فهي ليست مجرد جماد بل أشياء تربطنا بها علاقة من نوع خاص
توق.. شغف.. غموض.. عشق، موسيقى.. خيانة.. حزن.. و رمزية شديدة في مفردات الفيلم، دفعتني للبحث عن بعض الرموز الخاصة بأوراق التاروت الخمس التي استخدمتها العرافة، ليس هذا فحسب بل أنني من خلال بحثي وجدت أن هناك دراسة قدمتها أستاذة جامعية عربية حول توظيف الشفرة الثقافية في الفيلم لإنتاج المعنى..
عبر أربعة قرون وفي خمس دول يحكي الفيلم قصة الكمان الغامض الشهير ..تنتقل مشاهد الفيلم مابين الماضي والحاضر في مشاهد متقطعة، مابين أوراق التاروت الخمس..
تبدأ أحداث القصة في كريمونا، ايطاليا 1681 حيث صانع الكمانجات الايطالي نيكولو بوسوتي وزوجته آنا رودولف التي تنتظر مولودها الأول. يلازمها شعور بالخوف لأن سنها لا تسمح بالحمل أو الولادة وتتحدث مع خادمتها لورينزي شيسكا لتقرأ الطالع لابنها القادم..
تعرض الخادمة قراءة الطالع لآنا فهي لا تستطيع قراءة المستقبل لشخص لم يولد بعد مستعملة أوراق التاروت.
تختار آنا خمس بطاقات تناولها لها الورقة الأولى تكشف (القمر) موضحة أن آنا ستعيش عمرًا طويلاً!!!
ولنضع علامة تعجب هنا، سأعود لهذه النقطة فيما بعد..
في هذه الأثناء يعمل نيكولو حتى ينهي قطعته الأخيرة، كان متيقنًا أن هذا الكمان سيكون تحفة حقيقية هي أفضل ما صنعت يداه واثقًا أن طفله المنتظر سيكون موسيقيًا عظيمًا. كان يهم بطلاء الكمان حين تم استدعاؤه على وجه السرعة ليكتشف أن زوجته و طفله قد توفيا.
عاد نيكولو مذهولًا إلى ورشته في الطابق الأرضي لمنزله حاملًا على يديه جثة زوجته، وضعها على طاولة العمل في الورشة وقطع في معصمها شريانا ليعبئ من دمها زجاجة صغيرة خلطها بمواد الطلاء، و طلى الكمان بفرشاة صنعها من شعرها الذهبي، وكانت آخر قطعة صنعها نيكولو و قبل وفاته تبرع بكمانه العزيز لدار الأيتام في النمسا حيث تعاقب على التمرن عليه وعزفه أطفال الميتم لما يزيد على المائة عام..
وفي مشهد جديد تقلب شيسكا بطاقة ثانية فتكشف عن (الرجل المشنوق) وهو يعني المرض والمعاناة..
ثم مشهد ملجأ الأيتام فيينا، النمسا عام 1793 يصل الكمان ليد “كاسبار ويس” طفل صغير السن وبارع العزف.
ويتم استدعاء الأستاذ بوسين ليساعد الصغير على صقل موهبته الفطرية.. ويأخذ الصبي وكمانه معه إلى فيينا ليتبناه لأنه مقتنع أن موهبة الصبي ستدر عليه الكثير من المال فيما بعد.
وعندما يزور أمير بروسيا فيينا يبحث عن موهبة جديدة يأخذها معه فيقوم بوسين بعرض الصبي عليه ليعودا معا إلى “بروسيا”يدربه بوسين تدريبًا مكثفًا و يتضح مع الإرهاق وشدة التدريبات وجود عيب خلقي في قلب الصبي الصغير، ورغم تعلقه بكمانه إلا انه لم يستطع الاستمرار بالعزف.
يقرر بوسين بيع الكمان والاستفادة بماله في علاج الفتى الذي يتوفي ويدفن في دار الأيتام التي نشأ وترعرع فيها. وحين يسأل بوسين عن الكمان لتقدير قيمته وبيعه يبلغه الرهبان بأنهم دفنوه مع الصبي بسبب تعلقه به.
إلا أن لصوص القبور يكتشفون الكمان وتبدأ رحلته مع مواكب الغجر ويتنقل من يد إلى أخرى يعزف به الغجر في لياليهم. ويمضي قرن آخر قبل أن يتم نقله إلى انجلترا.
تقلب شيسكا البطاقة الثالثة ويظهر عليها (الشيطان) فتوضح لآنا أنها ستلتقي رجلًا يغريها بموهبته العظيمة وذكائه.
وهذا هو “فريدريك بوب” العازف الإنجليزي والذي يعيش باكسفورد بانجلترا عام 1890 يصادف موكب الغجر ويجلس إلى إحدى حلقات السمر عندما يرى ويسمع غجرية تعزف على الكمان الأحمر.
يقنعهم بالبقاء ويعرض ضيافته لهم مقابل الكمان. يلاقي فريدريك رواجًا كبيرًا وشهرة واسعة في حفلاته الموسيقية برفقة الكمان. وكان يعشق الكمان كما كان يعشق عشق “فكتوريا بيرد” ملهمته وهي كاتبة روائية تتنقل من بلد لآخر لتستوحي أفكار جديدة لكتاباتها. وتسافر فيكتوريا إلى روسيا من أجل إنهاء روايتها الأخيرة، وتدرك فكتوريا من خلال رسائلهما أن فريدريك فقد حماسه للتأليف الموسيقي وأدمن الخمر والكسل لاغيا أغلب حفلاته الموسيقية ثم تنقطع رسائله لفكتوريا.
ومع انقطاع رسائله لفكتوريا لمدة أسبوع كامل تقرر العودة فورا لتجده يخونها؛ مع الغجرية عازفة الكمان.
وتطلق فكتوريا الرصاص على الكمان الذي ينكسر وتنفصل الأوتار و الذيل ثم تهرول خارجة. ويكتب فريدريك رسالته الأخيرة لفكتوريا يعلن فيها انتحاره وتركه لكامل ممتلكاته لها…
أما الكمان فينتهي إلى يد خادمه الصيني الذي يعود إلى شنغهاي ويبيعه إلى تاجر انتيكات يقوم بدوره بإصلاح الكمان مستخرجًا منه جوهرة مرصعة كانت مخفية داخله.
يبقى الكمان في المعرض لثلاثة عقود قبل أن يباع إلى امرأة شابة مع ابنتها في ثلاثينيات القرن العشرين.
مرة أخرى تقلب شيسكا البطاقة الرابعة التي تكشف (العدالة) والتي تعني أوقات عصيبة قادمة توضح محاكمة ظالمة واضطهاد يواجه آنا وتدان بأنها مذنبة.
نحن الآن في شنغهاي، الصين 1960 مع فوضى الثورة الثقافية في الصين حيث كانت تعتبر أي أفكار أو أدوات برجوازية (خاصة من الغرب الرأسمالي) تهديدًا لمبادئ الثورة ويجب التخلص منها. كان من ضمن المضطهدين اجتماعيًا مدرس الموسيقى “تشو يان ” الذي تعرض للقبض عليه و التشهير العلني لولعه بالموسيقى الكلاسيكية الغربية.
ويقوم شرطي الأمن الوطني بالدفاع عن تشو من خلال اقتراحه أن يعلم تشو الموسيقى التقليدية الصينية. ويتم إطلاق سراح تشو بعد أن يجبر على أن يلقي بكمانه إلى النار إضافة إلى عدد آخر من المواد المحرمة.
تعود شيانج إحدى عضوات المجلس الشيوعي إلى منزلها وتبدأ بالتخلص من مجموعتها التي أخفتها من سجلات واسطوانات كلاسيكية ومقطوعات و الكمان الأحمر الذي تلقته هدية من والدتها.
وفي هذه اللحظة يدخل عليها ابن أختها مينج فتشرح له حكاية هذا الكمان ثم تعزف عليه مقطوعة وتحذره من إخبار احد بوجود الكمان لديها.
وبسبب زلة لسان مينج يقتحم عدد من الحراس الحمر شقة شيانج بحثًا عن الكمان لكنهم لا يجدون سوى سلة بها عدد من الاسطوانات القديمة والمعزوفات الكلاسيكية، و تصل شيانج هاربة من الحراس إلى منزل تشو وتقنعه بالاحتفاظ بالكمان، وعندما يرفض تشو تهدده شيانج بتحطيم الكمان أمامه.
يحاول تشو جاهدًا إخفاء الكمان في حين تعود شانج إلى شقتها لتواجه مصيرها. بعد ذلك بعدة سنوات، تتلقى الشرطة شكوى من جيران تشو، فيقتحمون الشقة ليجدوا جثة تشو وسط العشرات من الآلات الموسيقية الثمينة. وبناء على هذا الاكتشاف تقرر الحكومة الصينية وبعد انتهاء حكم الطاغية ماو تسي تونج بيعت هذه الآلات في مزاد علني بمونتريال.
وهنا تقلب شيسكا آخر البطاقات (الموت) الذي ينبئ عن الولادة من جديد حيث يحاول العديد الحصول على آنا “الكمان”
نحن الآن في مونتريال، كندا عام 1997 حيث يصل “تشارلز موريتز” الى مونتريال كمقيم للكمانجات والآلات الموسيقية القادمة بحرًا من الصين ومنذ الوهلة الأولى تقريبا يتعرف على الكمان الأحمر من بين الآلات ويوقن انه القطعة الأخيرة التي صنعها نيكولو بوسوتي.
يقنع خبير الترميم ايفان وليامز بتحليل أجزاء من الكمان ويرسل عينات من طلاء الكمان إلى مختبر في جامعة مونتريال لفحصها.
وفي نفس الوقت يقوم بشراء نسخة من الكمان الأحمر من هاوي لجمع التحف من لندن يعتقد أن فريدريك بوب بنفسه قام بصنعها كصورة الأصل قبل وفاته.
يقوم عازف كمان مشهور هو روسيلسكي بزيارة مكان وجود الآلات القادمة من الصين للنظر إليها قبل العرض، ويتناول الكمان الأحمر مبديًا رغبته بالعزف عليه معتقدًا أنه الكمان الأحمر المشهور لكن مورتيز يقنعه انه نسخة مقلدة وليست الأصل.
تصل نتيجة تحليل عينات الطلاء التي تصيب مورتيز بالدهشة لاكتشافه وجود دماء بشرية في الطلاء المستخدم مما يؤكد نظريته. و حين يواجهه مدير المعرض ومساعده بالتكاليف الباهظة التي أنفقها مورتيز يعترف لهما بأن هذه التكاليف كانت للتأكد من هوية الكمان مؤكدًا أنه قطعة نيكولو الأخيرة.
ويبدأ المزاد وقد تركزت العيون على القطعة الفنية المميزة ويتسابق المهتمون لنيلها ومن بينهم روسيلسكي.
وفي طريقه إلى المطار عائدًا لبلاده يتوقف مورتيز لإلقاء نظرة أخيرة على الكمان ومعه نسخته الإنجليزية المقلدة..
وفيما تتم المزايدة على آلة موسيقية يحضر الكمان لتتم المزايدة عليه بعده مباشرة.
يقنع مورتيز ايفان ليساعده على تبديل الكمان الأحمر بالنسخة التي بحوزته. ينفذ مورتيز بسرعة وبهدوء موقعًا بالخطأ رقعة الكمان التي عليها رقمه.
يضع الكمان الأحمر في حقيبته ويخرج باتجاه صالة المزاد دون أن يلحظه أحد.
وعندما يحين الوقت لعرض الكمان الأحمر للمزاد تعترض مديرة المزاد إخراج الكمان للعرض بسبب عدم وجود الرقعة، يتوتر ايفان الذي كان لا يزال في المكان يرقب بحذر ثم يفاجأ بالرقعة الناقصة على الأرض تحت أرجله، يلتقطها ويناولها لمديرة المزاد التي تسرع بوضعها في مكانها ثم يُعلن عن فتح المزاد على الكمان الأحمر الذي يفوز به روسيلسكي بمبلغ 2.4 مليون دولار دون علمه بان ما اشتراه نسخة مقلدة وليست الأصل..
بينما يهرع مورتيز إلى الخارج حاملًا كنزه الثمين وفي طريقه إلى الشارع الرئيسي ينادي عليه أحد عمال الصالة، يتوقف مورتيز مترقبًا بخوف دون أن يلتفت ، يصل إليه الخادم وهو يحمل معطفه فيتناوله منه مورتيز شاكرا .
يستقل سيارة أجرة في طريقه إلى المطار عائدًا إلى نيويورك ويكلم زوجته هاتفيًا للاطمئنان عليها ويطلب منها التحدث مع ابنته ويخبرها بأنه أحضر لها هدية خاصة جدًا بمناسبة عودته..
وبهذه الجملة تبدأ رحلة جديدة للكمان الأحمر لا نعرف أين تنتهي!!
انتهى الفيلم وعلي أن أشير هنا إلى إشارتي بخصوص آنا التي تكون حياتها طويلة، آنا هنا هي الكمان، لذلك كانت حياتها طويلة امتدت لأربعة قرون،الرموز هنا كثيرة وهذا هو ملخص للرموز كما قرأتها في تحليل للفيلم..
(المرأة/الكمان) (الكمان/المرأة)
(الكمان/الحياة) (الكمان/الحنان) (الأنثى/الأم) (الكمان/الأم) (المرأة/الأم)
(الكمان/العاشقة) (الكمان/الأنثى)
(الكمان/الرمز) (الكمان/الأسطورة) (الكمان/الثروة) (الكمان/التاريخ) ..
العازف جوشوا بيل كان مبدعاً طوال أحداث هذا الفيلم، بموسيقاه انتقل معنا لجميع الشعوب باختلاف مشاعرها من اللحن الهادئ الذي تترنم به زوجة الصانع لابنها وهي حبلى، مروراً بالغجر المتجولين حيث النغمات الساحرة ذات الإيقاعات القوية، ثم إلى الصين وهذا اللحن الخافت الخائف الذي لا يريد أن يسمعه أحد!! منتهى الشفافية بنغمات يتردد صداها وينقلك إلى عالم واسع رحيب لأقصى حد..
مرة تشعر بأن الموسيقى ثائرة وغجرية مفعمة بالشوق والعاطفة والشغف، ومرة وكأنها مفعمة بالحزن والأسى والمفاجأة في مشهد الخيانة..
الكمان آلة موسيقية مثالية عبرت عن كل الحالات التي عرضها الفيلم الموسيقى والثقافة والسياسة والعاطفة، والجريمة ، والتاريخ، وحتى المؤامرات وراء كواليس المزاد..
نحن جميعا نتوق إلى الكمال، والكمان هذا أوصلنا إليه..


الكاتب : عبير عواد

  

بتاريخ : 22/06/2019