الكيتش أو الشر الجمالي

 

من المفاهيم التي ارتبطت باسم المفكر والروائي التشيكي ميلان كونديرا خاصة في تنظيراته للرواية الحديثة، مفهوم «الكيتش» Kitsch وهي كلمة ألمانية ظهرت في القرن التاسع عشر في الوسط الفني بمدينة ميونيخ الألمانية، وقد اشتقت من كلمة Kitschen التي تعني جمع القمامة من الشارع. كانت في البداية تدل على القذارة والنفايات، لكنها صارت في ما بعد تطلق على الأدب والفن الهابطين وعديمي القيمة، حيث يقبل الناس بشغف كبير على شراء الأعمال الفنية الرخيصة الثمن رغم علمهم بأنها ليست أصلية، وإنما نسخ مزيفة ومقلدة للأصل بطريقة مشوهة ورديئة.
على المستوى الاجتماعي يدل الكيتش على المواقف والسلوكات الرخيصة أو استغلال السياسيين لسذاجة الناس البسطاء من أجل تمرير خطاباتهم وقراراتهم، وتحويل اهتمامات الجماهير إلى قضايا زائفة تبعدهم عن واقعهم المعاش، مما يجعل مفهوم الكيتش مرادفا للإيديولوجيا التي تجعل الناس يعيشون في الأوهام. وفي هذا الاتجاه وصفت الفيلسوفة والمنظرة السياسية الألمانية «حنا أرندت» هذه الظاهرة باعتبارها تنتمي إلى ثقافة الجماهير. لكن ميلان كونديرا تبنى موقف الروائي النمساوي «هرمان بروخ « الذي اعتبر الكيتش شرا محضا داخل الفن الذي يكون جوهره هو التقليد الهابط للجميل، بعيدا عن الجهد الفكري والتسامي الإبداعي.
في كتاب «الستارة» يقول كونديرا بأن كلمة «كيتش» تعني البقايا المشربة بالسكر لقرن الرومانتيكية العظيم، مضيفا أن رأي هرمان بروخ الذي يعتقد بأن العلاقة الكمية بين الرومانتيكية والكيتش متناسبة عكسا هو الأقرب إلى الحقيقة.» فالأسلوب السائد في القرن التاسع عشر (خاصة في ألمانيا وأوربا الوسطى) هو الكيتش الذي برزت فوقه كظواهر استثنائية، بعض الأعمال الرومانتيكية العظيمة. أولئك الذين عرفوا استبداد الكيتش طيلة قرن(استبداد أساطين الأوبرا) يشعرون بسخط خاص جدا ضد الحجاب الوردي الملقى فوق الواقع، ضد العرض الوقح للقلب المنفعل باستمرار. ومنذ زمن طويل أصبح الكيتش مفهوما دقيقا جدا في أوربا الوسطى، حيث يمثل الشر الجمالي المطلق.»(كونديرا/الستارة ص45)
إن مصطلح الكيتش الذي يستخدمه ميلان كونديرا يبالغ في تبسيط مسألة المكننة التي نتقبل الحياة من خلالها، ونفتح أذرعنا لمواقفها الأساسية. كل الكتاب المتألقين من هوميروس إلى إرنست همنغواي امتلكوا نسخهم الخاصة من الكيتش، وإذا قبلنا تعريف ميلان كونديرا، فلأن كل الفنون تكون ممتلئة بالصيغ الكيتشية، أي الصيغ المبتذلة للعيش الكريم، مثل فيلم من أفلام هوليود أو الاتحاد السوفيتي. وما يهم بالتأكيد، كما يدرك كونديرا، كذلك هو الغرض الذي يقف وراء الكيتش اليوم، والطرق التي سيطرت وتحكمت بالتجارة والسياسة من خلالها بالحاجات الإنسانية الأساسية. (كونديرا/كتاب الضحك والنسيان ص 66). في القسم السابع يتمتع قارئ رواية «كائن لا تحتمل خفته» لكونديرا بصفحات رائعة يمتزج فيها الخيال بالحديث عن الفن والسياسة والمجتمع وعلاقة كل ذلك بالكيتش، (وبالمناسبة فإن كونديرا كتب هذه الرواية سنة 1984 وجعل خلفيتها التاريخية اجتياح الجيش السوفييتي لبلده تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 إثر الأحداث التي عرفتها هذه الأخيرة تحت اسم « ربيع براغ»). ففي مجتمع متعدد تتعايش فيه تيارات مختلفة، يمكن أن يصبح تأثيرها محدودا مما يجعل الإفلات من محاكم «الكيتش» ممكنا، هنا يستطيع الفرد أن يحقق ذاته، ويستطيع الفنان أن يبدع أعمالا فنية رائعة، لكن في البلدان التي تسود فيها سلطة الحزب الواحد، (الإشارة هنا إلى الأنظمة الشيوعية) نجد أنفسنا في مملكة «الكيتش « الديكتاتوري ، هذه المملكة بنظامها الشمولي تحارب كل مبادرة فردية حرة، وتحارب ثقافة الشك والسؤال وثقافة السخرية الناقدة وكل سلوك تعتبره مملكة الكيتش شذوذا وخروجا عن الإجماع العام (كونديرا/كائن لا تحتمل خفته ص253).
في هذه المملكة الشمولية تتم محاربة السؤال لأن الجواب هو الشيء المهم الذي ينبغي أن يرتاح له الناس، والفرد المتسائل المشاكس الذي يتوسل الشك والنقد هو عدو للكيتش لأنه يمزق القماشة المرسومة للديكور ويكشف عن كل ما هو مختبئ وراءها، هكذا شرحت سابينا (عشيقة توماس) لتريزا(زوجة توماس) وهما شخصيتان رئيسيتان في رواية» كائن لاتحتمل خفته»، معنى لوحاتها: من الأمام الكذب الصارخ، ومن الخلف الحقيقة التي لا يدرك كنهها (كائن لا تحتمل خفته ص 255).
في أحد الأيام نظم حزب معارض في ألمانيا معرضا فنيا لسابينا، حيث تم تقديم كتيب يعرف بها كفنانة عانت من القمع المسلط على أمثالها، وناضلت ضد الهيمنة الشمولية والظلم حتى أرغمت على ترك وطنها الذي ترعرعت فيه. جاء في نهاية النص «من خلال لوحاتها تقاتل من أجل الحرية»، لكن سابينا اعترضت على هذه الجملة التي يفهم منها أن الشيوعية تضطهد الفن الحديث، قائلة بغضب «عدوي ليس هو الشيوعية، بل هو الكيتش».(كائن لا تحتمل خفته ص256). إنها الرداءة الجميلة والتفاهة الخلابة التي أصبحت نمط حياة نعيشها في الشارع وفي مقرات العمل وفي المدارس ترافقنا في هواتفنا، وتسهر معنا على الشاشات الكبرى والصغرى وفي الموسيقى التي نسمعها، الكيتش حاضر في كل مكان مادام يوجد بشر يتماهون مع مضامينه في كل زاوية من هذا العالم الذي عولمته الرأسمالية المتوحشة التي حولت كل شيء إلى سلعة رخيصة معروضة في سوق العرض والطلب .


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 14/01/2022