اللحظة السعيدة … وما بعدها

صيغة الأدب أن يعبر عن الواقع ، وفي هذا التعبير يكون الأديب مشبعا بأفكار مهيمنة ومتجذرة في تجاويف المجتمع . ومنه يحاول ـــ أي الأديب ــ صياغتها و إعادة إنتاجها بطرق متعددة، فغالبا ما يكون المبدع ، في هذه الحال ، لسان حال الطبقة التي ينتمي إليها . فإيديولوجية الطبقة المتوسطة، في المغرب ، تطمح إلى المساواة، وبعث الإنسان المغربي من هسيس النسيان، وهي موجة كما هو معروف ، اجتاحت كل مكونات الأدب السردي . فعندما نقرأ المجموعة القصصية ” السقف” لمحمد إبراهيم بوعلو الصادرة سنة 1970 ، نجدها تلهج بالرفض ، وعدم الاستكانة للحيف و الظلم الذي يمارس على الفرد ، فالمنطق الطبقي أصله صراع ضد الاستغلال الممنهج للطبقات الدنيا من المجتمع ، خدمة للبرجوازية المهيمنة .
فالمتخيل القصصي نابع من اقتحام هذا الطوق المتين و المحكم، الذي فرضه المستعمر على المغرب ، ومنه كانت شخصيات بوعلو ، ” في السقف ” ، لا تقف عند حدود الحقيقة التاريخية الماثلة في الصيرورة الزمنية ، وإنما تتعداها نحو تغيير معالم هذا الواقع ، الذي فرضه الصراع الأيديولوجي المهيمنة . إن من بين المبدعين المغاربة الذين جعلوا من إبداعهم السردي يتوخى اللحظة السعيدة ، نجد الروائي عبد الكريم غلاب في مجموع رواياته . وفي هذا رأى النقاد أن كلا من : ” دفنا الماضي ” و ” المعلم علي ” لم تستطيعا معا عبور حاجز الزمن ، واستشراف ما بعد اللحظة السعيدة ، أي ما بعد حصول المغرب على الاستقلال . وهذا القصور يحد من الدور، الذي يلعبه الفن الروائي في بناء تصوره الامتدادي، وانتشاره في الزمان و المكان .
فمن الكتاب المغاربة من تفطن إلى اللعبة السياسية، التي ارتهنت حاضر و ماضي المغاربة ، والتي سميت بأزمة البرجوازية الصغيرة ، حيث جعل الإبداع في قلب العاصفة التي تنذر بالصراع . فالواقع الحقيقي هو ما استقرت عليه الأوضاع الاجتماعية ما بعد اللحظة السعيدة ، حسب تعبير الناقد الوادنوني إدريس الناقوري . لقد كانت السيطرة مطلقة على مجموع الأراضي ، التي كانت في ملك الفلاحين الصغار لصالح الإقطاعية الناشئة بدعم من سلطات الحماية ؛ مما أفرز وضعا مريضا وموبوءا، يسوده الاستغلال والتفاوت الطبقي الصارخ، حيث يستغل الإنسان أخاه الإنسان .
استطاع عبد الله العروي، بعد رؤية فنية متبصرة للعمل الروائي، أن يجعل من اللحظة السعيدة، التي وقفت عندها أغلب الروايات السابقة ، نقطة ولادة الشقاء من نوع جديد ، حيث إن مواجهة المستعمر تقضي القضاء على كل مخلفاته في الميدان ، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية. فهذا كان سببا مباشرا في الخيبة ،التي تولدت عند شرائح عريضة من المجتمع المغربي. في رواية ” الغربة ” سلط العروي الضوء على فترة حاسمة من تاريخ المغرب، ألا وهي فترة ما بعد الاستقلال مباشرة ، وإن كانت بها أحداث تشير إلى الحرب العالمية، من زاوية الامتداد الزمني للحضارة المغربية ، وبهذا وجه عبد الله العروي تبئيره الروائي في رواية ” الغربة ” نحو المواجهة الناعمة بين الذات و الآخر ، والمتجسدة في شخصية ” شعيب ” ، الذي يعيش الغربة في الذات و المدينة و الشعور والإحساس أيضا . وعلى هذا المستوى يظهر مدى قوة الإبداع في إبراز الخصوصية الثقافية، أو أن يصبح مجلى البصمة الإبداعية التي تفرق بين أديب و أديب .
بالموازاة مع ذلك، طرح كل من أوستن وارين و رينيه ويليك، في كتابهما الذائع الصيت في الآداب العالمية ” نظرية الأدب “، أن الأدب هو كل شيء قيد الطبع، بغض النظر عن الوظيفة والغاية ، اللتين جاء من أجلهما الإبداع . فالفرق بين المرحلة التاريخية و أخرى، ماثل في قوة نفاذية التحليل المنطقي الخاضع للعقل الذي يتمتع بها الأديب ، استنادا إلى التحليل التاريخاني للواقع . فالوقوف عند اللحظة السعيدة دون سواها ، هو قصور للرؤية الفنية التي تعتبر من أساسيات البناء الروائي ، ولا تقوم قائمة الحبكة من دون هذا المتسع الذي يمنح الأكسجين للشخصيات و الأحداث والزمان والمكان .
إن خلو العمل الروائي من امتداده التاريخاني، هو خلو الإبداع من التاريخ الأدبي حسب ولك ووارين . وفي هذا يؤوب الصدى، ويتردد في قنوات اللغة التي استعملها المبدع ، من إشارات موحية قابلة ومنفتحة على متعدد التأويل ، وغالبا ما تكون قصور الرؤية الروائية صادرة عن التكوين الثقافي والفني الذي يشمل الكاتب . فالناقد الأدبي لا يهمه مدى مصداقية الأحداث التي تناولها الروائي في عمله الإبداعي ، بقدر ما يهمه انفتاح العمل الأدبي و حواره المستمر و الدائم مع كل ألوان وأطياف المجتمع الثقافي .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 15/09/2023