لنسمه اقتباسا أو شاهدا، أو لنؤطره في خانة الفن أو الاستراتيجية، فإنه يظل تلك اليد الثانية التي تتساوق مع اليد الكاتبة، وتتجاور معها جنبا إلى جنب، وهي هامش متن الأولى وحاشيته، وهي الصوت الثاني، متصاديا مع صوت المؤلف. يخطئ الكثيرون ممن يحسبون الاقتباس سهل المنال؛ فبعضهم يحذرنا من صعوبته القصية، ك»فيليب سولرس»،ومنهم من يحفزنا إلى تثمينه؛لأهميته التي تضاهي النص عينه، كعبد السلام بنعبد العالي.وتتفرد تجربة عبد الفتاح كيليطو في حرصه على تجميع اقتباساته التمهيدية Epigraphesفي مداخلة حول فن الاقتباس،منبها إلى وظيفتها المدخلية المفضية إلى مضامين الكتاب. وقد سبقه إلى ذلك، الكاتب الفرنسي «بلزاك» وهو يعد الشهور المتبقية له؛لتجميع الاستشهادات وترتيبها وترصيدها. ويذهب جاك دريدا أبعد من هؤلاء جميعا لما يعد كل نص اقتباسا.
من يخفي مراجعه ومصادره؟ ومن يتستر على اقتباساته، ويتكتمها؟ في هذه الحالة فإن الكتابة تعدو خيانة أقبح من خيانة الترجمة. زعموا أن بعض الكتاب عندنا لا يفصحون عن مراجعهم ومصادرهم، وإن أثبتوها وأحالوا إليها؛ فهم يكتفون فقط بما هو متداول شائع، أو يمسكون عن ذلك، بدعوى حفز القارئ على الكشف عن المعلومة؛فلا يقدمون سوى نصف الحقيقة، أو أقل منه، لِمَا يستشهدون به أو يقتبسونه.
ماذا اقتبس الباحث كمال فهمي لحسابه الخاص في كتابه؟ وبمن استشهد؟ وما لْحْمَتُهُ التي يَلْحَمُ بها نسيج نصه؟ وما هي اقتباساته واستشهاداته؟ إن اللحمة الفلسفية للكتاب بادية طاغية على بقية الخيوط الأخرى، التي تلحمه، بنسبة متصدرة، أحصيناها ب: 34%، متبوعة بتلك الاقتباسات المحال إليها، من مصادر النقد والتاريخ الفنيين، بنسبة 24%. لكننا في الوقت ذاته، نلاحظ أن ملمحه السوسيولوجي يتوارى، تحث ثقل الهيمنة الفلسفية، فاللحمة السوسيولوجية، لا تتعدى استشهادين، بنسبة ضئيلة تقدر ب 4.88%.
كيف نرسم مسار هذا الباحث في الكتابة؟
بدأ المؤلف بإصدار كتاب فلسفي بيداغوجي: (مفاهيم فلسفية، مبادئ كتابة الإنشاء الفلسفي لطلاب الباكالوريا 2009)، تلته بعد ذلك مسرحية «لعبة الحلم» (2011)، ثم كتاب «الفلسفة والمسرح» (2014)، وبعده كتاب «في النقد الفني» (2016)، وأخيرا هذا الإصدار الجديد «الفلسفة والفن» (2022) هكذا يرتسم مسار الكاتب: فصل ثم فصل ثم وصل ثم فصل ثم وصل. وعبر الفصل والوصل تنبجس الفلسفة عرضانية اختراقية.. فمسرحية «لعبة الحلم»هي مسرحية مسكونة بالفلسفة؛ فيها شيء من ابن رشد، آخر الفلاسفة العرب كما تقول إحدى شخصيات المسرحية: عبد الحكيم المتفلسف (يقظان)، سليل ابن طفيل صاحب كتاب «حي بن يقضان» وبذلك نكاد نجرؤ على القول إن هوية المؤلف فلسفية، يكشف عنها منجزه جميعه.
ومن الطريف أن هذه الملاحظة المرصودة في منجزه الممتد على مدى ثلاثة عشر عاما أفقيا، تتطابق تماما عموديا وقطاعيا مع الخلاصة الإحصائية-المضنية- التي انتهينا إليها في «كتاب الفلسفة والفن». كما أن الاقتباسات التمهيدية لا تحضر إلا لماما في مؤلفاته الخمسة 2/5(مفاهيم فلسفية ولعبة الحلم). غير أن حمولتها الفلسفية لافتة مائزة.
لم يكتب كمال عن الفلسفة أو في الفلسفة، بل كتب بها؛ على غير عادة مدرسي الفلسفة أو المشتغلين بها الذين يستطيبون ذكر أسماء الفلاسفة وأطروحاتهم وأقوالهم، وتنحصر كتابتهم في التأليف المدرسي الفلسفي. «حذار من سلطة الفيلسوف وقوله الفلسفي» ذلك مبدأه في الكتابة، وهو يرفع شعار الفلسفة من دون أن يحبس ذاته فيها. والفلسفة ليست معبدا، إنها ورش في قول منسوب ل «جورج كأنغام».
تكوين كمال فهمي فلسفي سوسيولوجيا، وما كتبه في الفلسفة أو عنها وبها، يرجح على تخصصه الرئيس في السوسيولوجيا.من الواضح أنه دشن مشروعه-من دون أن يعلن هذا- فيلسوفا أو فيلسوفا موظفا Fonctionnaireكما وصف بيير تولييPierre Thuillierالفيلسوف سقراط.
تذكرنا كتابة كمال بكتابة المفكر محمد عابد الجابري؛ لحسها البيداغوجي وسلاسة تلقيها، من دون تشنج في الأسلوب أو قلق في الفكرة. وهذا له تفسير واحد، في تقديري، هو ممارسته التربوية بصفته مدرسا للفلسفة، ومؤطرا مكونا في الفن والجمالية. وبذلك تسللت البيداغوجيا إلى كتاباته بيسر ومرونة.هل يبني فهمي مشروعه أم أن المشروع يبنيه؟يشتغل الباحث كمال في إطار مشروع دائرة مركزها الفلسفة وشعاعها- من دون أن يفصح عن ذلك، إذن فالمشروع يبنيه-: فن التصوير الصباغي، الشعر، الرواية، المسرح، الفوتوغرافيا. هل قال كل شيء؟ ماذا تبقى؟ السينما الرقص النحت… تبقى الكثير من التعبيرات الفنية. وما ذلك عليه بعزيز. فالأرضية التي يتحرك عليها هو أدرى بشعابها، والأدوات المتوسلة إليها.
كمال فهمي مخالط دؤوب للفنانين، يجالسهم بانتظام، ويجد ارتياحه معهم، شغوفا بعالمهم الإبداعي وكأني به منجذبا إلى هؤلاء أكثر من الفلاسفة والسوسيولوجيين! -وأنا مدين له كثيرا بمعرفتي بالفنان عبد الكبير ربيع- كنت دائما أتساءل: كيف استطاع كمال أن يقتحم حلقة الفنانين ويخترق جماعتهم؟ وكيف نجح في أن يكسب صداقاتهم؟ وماذا كلفته مخالطتهم؟ وتلك لعمري، خصلة نادرة من حسن التواجد، يُغْبَطُ عليها.من المؤكد، أن احتكاكه بالفنانين يجني منه عناصر ثمينة، يدمجها في كتابته؛فهو يعبئ الفرص المتاحة، من لقاء أو فرجة أو مشاهدة… إلى ورش في الكتابة، وإنتاج نص يشبهه، ويتساوق مع هويته الفكرية والإبداعية. هذه خطوة أكيدة وثابتة، نحو النقد الفني. من الفلسفة إلى النقد الفني، هذا هو الترتيب التصاعدي، أفقيا وعموديا، كما تشير إليه المعطيات الإحصائية.
حينما نريد أن نؤطر،في خانة،أولئك الذين يكتبون عن الفن المعاصر،يتوالى علينا ضجيج من التوصيفات لهذا الكاتب أو ذاك: ناقد فني،مؤرخ للفن،باحث جمالي،ناقد تشكيلي،متذوق فني،سوسيولوجي للفن. من يجرؤ على القول، بوجود نقاد جماليين متخصصين عندنا، وإن وجدوا فهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة؛ إننا لا ننكر مبادرات فردية شغوفة بالفن، نصادفها في الكتابة الصحفية غير المتسرعة، وفي تعبيرات إبداعية بجميع لغات الجمال. وحتى لا ننسى، فإن أجمل ما كتب عن الفن، كتبه أدباء من أمثال: بودلير وبول فاليري وديدرو وغيرهم. هل نثق في كتابته عن الفن والفنانين؟ فنحن نثق في ممارسته النقدية،ونطمئن إليها بقدر ما وثق فيها الفنان،واطمأن إليها وهويصادقه، وكما تشهد على ذلك أعماله أيضا.
كيف أتى صاحب كتاب «الفلسفة والفن» إلى الفن؟ وأين هو من الكتابة في الفن؟ومن أين أتى إلى التشكيل؟ وهل قدم إلى التشكيل أم أن التشكيل قدم إليه؟ وإجمالا، كيف يصير المرء ناقدا فنيا؟ أتلمس خمس أطروحات، عن هذه الباقة من الأسئلة -أو بالأحرى خمسة اقتباسات-.
*الاقتباس الأول لأمبرطو إيكو:
بنكهة ساخرة يطرح هذا اللوذعي،كيف يصبح المرء مقدم كتالوغ فني؟ ويجيب «ليس هناك ما هو أسهل من ذلك. يكفي أن يمارس مهنة فكرية…ويمتلك هاتفا باسمه،ويتمتع ببعض الشهرة.» ثمة ثلاثة اختيارات أمام المقدم حسب إيكو: الصرامة،والتساهل،والمراوغة (ويمكن أن أضيف الصداقة المفكرة). والمراوغة يعدها إيكو «مفتاح قبة الكتالوغات،إذاما أراد المقدم حفظ كرامته وصداقته للفنان». إذا أخذنا هزل أمبرطو إيكو مأخذ الجد في معارضاته ومستَعاراته الجديدة ، فإن صاحب»الفلسفة والفن»يملك مهنة فكرية هي الكتابة،إبداعا مسرحيا وتأليفا فلسفيا ونقدا فنيا، وهي جوازه للمرور إلى الإستطيقا،وبها يكتسب ما شاء من الصفات والأسماء ذات الصلة بالفن المعاصر.
*الاقتباس الثاني لبيير تويليي:
«تظل الإستطيقا مؤسسيا ثاوية في جوار الفلسفة، لكن باستقلالية تكاد تكون كاملة» ويضيف «الاستتيقا وتاريخ الفن يستقطبان الفلاسفة كثيرا» .هل هو هروب الفلاسفة لما يتحول اهتمامهم إلى تاريخ الفلسفة، والاستطيقا أو البنيوية. كيف لا نتفلسف مع الحفاظ على المظاهر الفلسفية؟ هكذا تساءل تويليي وهو يحسب هذا الهروب، طريقة لحل المشكلة المطروحة.
*الاقتباس الثالث لمارسيل بروست:
«الفن مثله مثل الفلسفة يهتم بالشكل أكثر من اهتمامه بالمادة « .
*الاقتباس الرابع لجاك دريدا «عن سؤال، ما هو الجميل Le beau؟ فإن الفلسفة وحدها بمكنتها أن تطرحه وتجيب عنه».
*الاقتباس الخامس لبول فاليري: « كلما كتبنا أكثر فكرنا أقل»
هي خمسة اقتباسات احتفاء بخمسة مؤلفات (إصدارات المؤلف الخمسة).
كيف نتبين خيط السدى من خيط اللحمة؟ أيهما العمدة من الفضلة – بتعبير اللغويين العرب-؟وكيف ستكون حال كتاب خال من الشواهد والاقتباسات؟ ما ذا لو بترنا الشواهد والاقتباسات؟ وفرقنا بين اللحمة والسدى- على طريقة الرجل ذي المقص-؟
في مكتبته الخاصة، داخل إقامته التي تضم كتبا متنوعة، لما نتصفحها، نندهش؛ لكونها جميعها منقوصة بترت ونزعت أوراقها. فبعضها لم يعد يضم بين دفتيه سوى ورقتين أو ثلاث. وأخرى بقيت كاملة غير منقوصة «فأنا أقرأ مستعملا مقصا، اعتذر لكم، أقطع كل ما لا يروقني…أبقيت على أقل من عشر صفحات من [كتاب] du Voyage au bout de la nuit»»رحلة في أقاصي الليل» للكاتب «لويس فرديناند سيلين»Louis-Ferdinand Céline هكذا أجاب حارس الغابة في استجواب أجرته مجلة أدبية مع قرائها «الرجل ذو المقص سينتزع مني كل ما تبقى لي» يقول «سيلين».
يجيبنا جاك دريدا (كما دعاه سيناصر ففي اسمه أثر انتماء قديم، ومن حامليه الشاعر الجاهلي دريد بن الضمة، والعالم اللغوي ابن دريد) :»منذ البدء كان النص اقتباسا، والفكر لا شخصيا. لا يبدأ النص أبدا: إننا نحول دائما نصا سابقا» دريدا (La dissémination ) فلا يبقى إلا خيوط اللحمة لما نستل الخيوط جميعها؛ لأن الأصل هو الاقتباس.