تبرز أهمية أي مشروع علمي من خلال ثلاث ركائز تحدد مبتدأه وخبره، هي الموضوع والمنهج ووجهة النظر. وهي متطلبات مرتبطة فيما بينها ارتباطا عضويا، لأن تضافرها هو ما يحكم النتائج العلمية ويحددها.
والقارئ الحصيف لكتاب الدكتور زكرياء أرسلان:»النصوص العلمية، الأنواع والأساليب والبناءات التركيبية» (منشرات جامعة مولاي إسماعيل 2034) يجد في المؤلف مادة علمية رصينة، تجمع بين دفتين ببناء متماسك ومتراص، شتات موضوع لم تراكم في بحثه الدراسات اللغوية العربية إلا النزر القليل، وهذا النزر على قلته يشوبه ارتباك في التحليل وتسرع في الاستنتاجات. ومن هذه الناحية فإنه ليس من باب الإطراء أن أسارع إلى القول إن هذا الكتاب يعد إضافة نوعية إلى المكتبة العربية موضوعا ومنهجا ووجهة نظر.
فالكتاب من حيث الموضوع جاء ليسهم في سد ثغرة نعاني، بوصفنا متكلمين بلغة الضاد ومنشغلين بها، أثرها في حياتنا اليومية، ونحن نقرأ وصفات الأدوية على سبيل المثال، ونتكبد الخسائر الفادحة بسبب العوائق التي تعترض تدريس المواد العلمية بالعربية في المدرسة المغربية. وهما مثالان يلخصان الحاجة إلى وضع ضوابط للغة العربية كي تستطيع إنتاج نصوص «علمية».
إن الكتابينير الطريق إلى تلبية هذه الحاجة التي نحسها أفرادا وجماعات على المستويين الآني والبعيد. كما أنه يستجيب من حيث مراميه البعيدة إلى جعل اللغة العربية لغة تواكب العصر المتسم بشتى التحديات على المستوى العلمي والتقني خاصة.
والكتاب قبل كل شيء يقترح على القارئ إطارا عاما ودقيقا في نفس الوقت، يرقى باللغة العربية إلى درجة استيعاب التحولات العلمية والتقنية العميقة التي تطبع عصرنا، ويمنحها القدرة على احتواء تلك التحولات والتعبير عنها.وبعبارة شاملة ومانعة: الكتاب يضع بين أيدينا الآليات التي تجعل من اللغة العربية لغة علمية.
بهذا المعنى فإن كتاب «النصوص العلمية، الأنواع والأساليب والبناءات» كتاب تأسيسي في مجاله وتخصصه.وهو فضلا عن ذلك غني بالتصورات النظرية وبالمفاهيم والمصطلحات الإجرائية، مما يجعل منه كتابا موسوعيا في بابه، وذلك اعتمادا على المرتكزات الآتية:
1 ـ إن الكتاب ليس مرجعا ضروريا وأساسيا للمختصين في الدراسات اللغوية فحسب، بل هو ضروري وأساسي بالقدر نفسه لكل باحث يحتك بالخطاب وبالنصوص، ويكد من أجل البحث عن السبل الناجعة لتحليلهما. فكل من يشتعل بالخطاب وبالنص، سواء أكانا أدبيين أو علميين أو من طبيعة أخرى، سيجد في هذا الكتاب ما يشد أزره في فهم وتحليل ما يعرض عليه. وبالتالي فإن هذا المؤلف لا تتحدد أهدافه فيما يوحي به عنوانه فقط، ولا تحد مراميه في تخصص ضيق فحسب، وإن كان يصنف ضمن الدراسات اللغوية بمعناها الواسع، بل يمتد أثره إلى مجالات أخرى كالتواصل وتحليل الخطاب ولسانيات النص وغيرها من المجلات التي لها علاقة بالقراءة والتلقي.
2 ـ إن الكتاب برهن عن كفاءة قل نظيرها في توليد المفاهيم والمصطلحات توليدا يتماشى مع صيغ اللغة العربية وقواعدها. وهو ما يجعل منه، إسهاما حقيقيا يرمي إلى تحديث اللغة العربية. فهو لا يتعامل مع اللغة العربية باعتبارها لغة محنطة، كما يفعل بعض الدارسين من المتعصبين لها، ولا باعتبارها لغة هجينة كما يفعل آخرون ممن يرغبون في عصرنتها، وإنما سلك سبيلا يحافظ على أصالة العربية ويحترم قواعدها، وفي نفس الوقت يجعلها تتسع للتعبير عن روح العصر.
3 ـ إن الكتاب بما أنه تأسيسي في مجاله على المستوى العربي، فإنه يكشف عن مجهود علمي كبير، تبرهن عليه عشرات المصادر والمراجع التي استحضرها المؤلف باللغة العربية والفرنسية والأنجليزية. إن هذا الثراء المرجعي جعل من الكتاب قاعدة بيانات حقيقية لا يستغني عنها أي باحث. وبذلك فإن الكتاب يمكن أن يصلح منطلقا لأبحاث فرعية، يقوم بها باحثون محتملون لإنجاز دراسات حول المسائل الجزئية التي أثارها. وبهذا فإنه يفتح الطريق أمام الباحثين المهتمين بكل ما له علاقة باللغة العربية.
4 ـ إن الكتاب بالنظر إلى طبيعته الموسوعية، يبرهن على ضرورة مد الجسور بين مختلف التخصصات لتشكيل صورة شاملة عن الموضوع. فهو تقاطع بين تخصصات معرفية مختلفة تنتمي إلى العلوم الإنسانية. إن الرغبة في استكمال الرؤية إلى «النص العلمي» أدت إلى أن الموضوع هو مركز أو بؤرة، لعدة معارف أخرى. وهذا ما جعل الكتاب يشتغل على بلورة مجموعة من المفاهيم مثل مفهوم النص ومفهوم الخطاب ولسانيات النص وتحليل الخطاب والمدونة والسياق وغيرها من المفاهيم التي تضيء الطريق إلى تحديد النص العلمي بخصائص واضحة.ولتحقيق هذا الهدف فإنه لم يكتف بتوظيف ما توصلت إليه الدراسات اللغوية الحديثة. بل تجاوز ذلك إلى استثمار بعض مقولات علم الاجتماع وعلم النفس وغيرها.
إن المرتكزات السابقة تنبع من وعي الكاتب بضرورة تحديد المفاهيم تحديدا دقيقا، إذ المفاهيم معالم كما كان يردد أستاذنا المرحوم محمد مفتاح. والكتاب كما يتبين لقارئه بوضوح لا لبس فيه، يستخدم مفاهيم ذات حمولات متعددة حسب المدارس والاتجاهات التي تهتم بالموضوع. ولذلك فإنه رسم لنفسهمسارااتخذ شكل خطين مصاحبين ومندمجين: رصد استعمالات المفهوم عند أهم مستعمليه من الدارسين بمختلف اتجاهاتهم، والعمل على صياغة مدلول ينسجم مع الموضوع والرؤية الذين يحددان أهداف الكتاب واستراتيجيته البحثية.
ومن هنا يعمد إلى البحث عن تطور المفهوم ودلالاته عارضا حينا ومنتقدا حينا آخر، ومحاورا حينا ثالثا، كي يبني مفهومه الخاص الذي ينسجم بصورة عضوية مع الهدف العام الذي يرمي إلى تحقيقه.
إن هذا يصدر عن رغبة في الوضوح الذي ينبغي أن يطبع كل عمل علمي، ولكنه يشير بالدرجة الأولى إلى قوة شخصية الباحث وقدرته على فرز البيانات والمعطيات بما يخدم موضوعه ويبني وجهة نظره الخاصة تجاه الموضوع الذي يعالجه.
إن وضوح المفاهيم والمصطلحات هو من وضوح المنهج، ذلك أن موضوعا بهذه السعة وهذا السبق العلمي في الدراسات العربية، يحتاج إلى وعي حاد بأهمية البحث عن منهج ينسجم مع طبيعة الموضوع ويحقق الرؤية التي يدافع عنها المؤلف في نفس الوقت.
وقد اعتمد زكرياء أرسلان منهجا يزاوج بين الوصف والتحليل. ويقوم هذا المنهج على تتبع المفاهيم في مصادرها بالعرض والتحليل والنقد كي يتسنى له في النهاية بناء وجهة نظر خاصة، تراعي ما يراه مناسبا لخدمة الهدف العام من الكتاب، المتمثل في تحديد طبيعة اللغة العلمية وخصائصها ومن ثم الوصول إلى مفهوم دقيق للنص العلمي بمميزات واضحة.
ويمكن القول إن هذا المنهج أسعف المؤلف، على الأخذ بنزعة بيداغوجية لا تخطئها العين. إن اعتماد الأسس البيداغوجية في عرض موضوع «النصوص العلمية» جعل الكتاب ينطلق في جميع مراحله من العام إلى الخاص ومن البسيط إلى المركب ومن السهل على المعقد. وهذا ما ييسر مهمة القارئ ويساعده على استيعاب الكم الهائل من المعارف والمفاهيم التي تعج بها صفحات الكتاب من جهة، ويجعل الكتاب في متناول القارئ غير المتخصص من جهة ثانية.
وحرصا على مد يد المساعدة للقارئ فإن الكتاب ذيل بفهرس مصطلحات عربي أنجليزي غطى كل ما ورد فيه من مفاهيم ومصطلحات، وهو أمر طبيعي ومطلوب عندما يتعلق الأمر بموضوع غير مطروق باللغة العربية.