اللغة وتنسيب الوعي في رواية «دموع الصمت» لجمال الفقير

 

صدرت بحر الأسبوع الماضي عن جمعية المبدعين المغاربة رواية بعنوان «دموع الصمت» للكاتب الفقير. وتقع الرواية في 130 صفحة من القطع المتوسط، تتبع فيها السارد مسار شخصية سهام منذ أن كانت طفلة إلى أن صارت موظفة، وهو مسار يكشف عن الكيفية التي تبلور بها وعي هذه الشخصية من خلال الفضاءات التي تحركت فيها (القرية، المدينة، المدرسة، الجامعة…) ومن خلال اختلاف وعي الشخصيات التي احتكت بها، فكل شخصية تتكلم بلغة تعبر عن وعيها، وعن تمثلها لقضايا الواقع وإشكالاته. لذلك نعتبر المعيار اللساني في هذه الرواية من المعايير الفنية التي أسهمت في تنسيب وعي الشخصيات، وإبراز تأثير ذلك على الشخصية الرئيسية (سهام). لقد استثمر الكاتب تخصصه في مجال اللسانيات الاجتماعية، واشتغل على الازدواجية اللغوية اشتغالا مرنا مكنه من التعبير عن التفاوتات الحاصلة بين شخصيات الرواية التي لا تتكلم اللغة نفسها؛ فلغة السائق الذي اصطحب سهام من القرية إلى المدينة غير لغة أستاذ اللغة العربية الذي كان يثني عليها ويحفزها لتواصل مسيرتها العلمية.
تترواح لغة «دموع الصمت» بين العربية الفصحى التي تشكل أداة التمثيل الأولى في الرواية والعامية المغربية التي استعان بها الكاتب في مواضع كثيرة للتعبير عن أفكار شخصيات شعبية في معظمها. ووعي سهام تشكل استنادا إلى هذه الازدواجية، فاللغة ليست أداة للتعبير فقط بل هي نمط للتفكير كذلك. وعليه، فإن اختيارات سهام لم تكن حاسمة، فهي في الجامعة تردد شعارات فصيل طلابي وتتعاطف معه، لكنها لا تتبنى مرجعياته الفكرية والإيديولوجية، ظل تفكيرها دائما يتأرجح في سياق الرواية بين نمطين من التفكير: تفكير تقليدي وشعبي ترمز له العامية، وتفكير حداثي ترمز له العربية الفصحى.
وعي سهام محصور بين النمطين السالفين، يتحرك في منطقة رمادية، شأنها في ذلك شأن العديد من فئات المجتمع التي لا تستطيع حسم قناعاتها الفكرية، فتبقى أسيرة ازدواجية تجعل منها شخصية إشكالية. ولا شك أن البطل الإشكالي مفهوم أساسي في نظرية الرواية عند لوكاتش؛ فسهام متحررة في فضاء الجامعة لكنها تقليدية في فضاء القرية، وهي صيغة أخرى للقول إنها حرة وليست حرة في الوقت ذاته.
لقد بلور المؤلف الطابع الإشكالي الذي يعد سمة أساسية من سمات الشخصية الروائية عن طريق الازدواجية اللغوية التي جعلت عوالم هذا النص منفتحة على أصوات متعددة (الحوارية عند باختين)، وهذا الانفتاح ترتب عنه تنوع في بناء وعي الشخصيات بطرائق مختلفة، لكن شخصية سهام شكلت بؤرة تلتقي عندها تيارات الوعي كلها، فهي الممر الفاصل بين القرية التي جعل السارد شخصياتها تتحدث في معظم الأحيان بالعامية المغربية وبين المدينة لاسيما الجامعة التي تعبر شخصياتها بلغة فصيحة، وبين الفضاءين تشكل لديها وعي مغاير، لا ينتصر بشكل صريح لأي فئة. ولعل الصمت الذي نعت به المؤلف الدموع في هذا الباب دال وبليغ. أليس الصمت لغة للحياد؟ لكنه حياد قد يتحول إلى شقاء يلازم مسار الشخصية.
وعندما نمعن النظر جيدا في هذا الاختيار اللساني القائم على الازدواجية يبدو أنه اختيار مقصود تحكمه مبررات فنية. فتوظيف العامية يوظف في المقام المناسب له داخل الرواية، وعندما تكون الشخصية في غنى عن هذا النوع من التعبير، فإن السارد يستغني عنه، وهذا التجاور المنتظم بين الفصحى والعامية هو ما أضفى على الشخصية في نظرنا طابعا إشكاليا. فالمجتمع المغربي الذي تحكي عنه الرواية يتحدث لغات متعددة تتخذ شكل ثنائية أو ازدواجية لغوية، وحتى العامية نفسها تختلف من منطقة إلى أخرى، إذ لكل لهجة معايير خاصة بها صوتيا وتركيبيا ودلاليا، وهذا أمر يعيه جيدا المؤلف بحكم تخصصه في دراسة اللهجات، ونرى أنه استثمره على نحو أمثل في بناء شخصيات الرواية وتشكيل وعيها.


الكاتب : الحسين أوعسري

  

بتاريخ : 11/05/2021