يسعدني مرة أخرى أن أساهم في الاحتفاء بأعمال الصديق الفنان والمبدع عبد الله بلعباس بمناسبة صدور كتابه الموسوم ب»مقام الإشارة». والذي يتضمن واحدا وستين شذرة شعرية يقابلها نفس العدد من الرسومات المصاحبة لها. ويشكل هذا العمل مرحلة جديدة في مسيرته الفنية والجمالية المتعددة والمتنوعة التي واكبتها شخصيا على مدى أربعة عقود.
سأنطلق في هذه الورقة من إضاءة فلسفية عميقة للألماني فرديدريك نيتشه التي تقول:» لا أحب من الكتابات كلها، إلا تلك التي تكتب بالدم الشخصي، أكتب بالدم وستعلم أن الدم روح». إضاءة تأملية تدفعنا إلى قراءة هذا الكتاب انطلاق من عنوانه الدال والذي يعكس على المستوى الفني بنية الكتاب حيث تقيم الذات الكاتبة في منطقة ما بين الكلمة واللون. وعلى مستوى المضمون تدل الإشارة على التلميح والإيجاز باعتبارهما من خصائص الكتابة الشذرية، علما أن الإشارة لايستطيب لها مقام إلا مقام الترحال واللاستقرار وهذا هو جوهر المفارقة في عنوان الكتاب. اختارعبد الله بلعباس في هذا العمل الأدبي/الفني تكسير الحدود بين الأجناس التعبيرية من خلال المزاوجة بين الممارسة التشكيلية والكتابة الشذرية ذات الطابع التأملي والصياغة الشعرية، داخل فضاء تخييلي يهجس بالمراوحة بين اللون والكلمة ضمن أفق جمالي يسعى إلى إغناء هذه التجربة الشعرية والفنية معا، حيث تشتبك الممارسة التشكيلية كصنعة لإنتاج رؤية فنية مع الومضة الفلسفية/الشعرية بماهي كلمة وجيزة/شاردة ومنفلتة من كل قيد وعقال.أكيد أن الكتابة الشذرية ككل كتابة جديدة تبحث عن مشروعيتها ومبرر وجودها ،لكن قراءة هذا العمل تدعونا إلى الإنصات إلى هذه الرسوم والنظر إلى نصوصه الشذرية التي تحتفل بالمحو والانفتاح على اللانهائي..بل تكون قراءة مفتوحة على آفاق التأمل والتأويل مما يدفع القارئ إلى استحضار الكثير من الأسئلة الوجودية التي تقربنا من هذه التجربة في تفاعلها مع قضايا الذات والآخر والهوية والثقافة والنظر في مجريات عالم الحياة بما يتضمنه من تفاصيل صغيرة تذيبها آلة النسيان وتجرفها أمواج اللغة الطبيعية في زحمة الوجود اليومي..نحن أمام يد واحدة تمسك بالقلم وبالفرشاة في الوقت نفسه لكي تؤسس لفعل التصادي بين عالمين متوازيين لالتقاط تلك التفاصيل واتخاذها كقاعدة للممارسة الإبداعية كتابة ورسما. ليس المقصود بالتصادي كما يمكن أن نعتقد التماهي بين الكلمة واللون من أجل بناء معنى واحد، بل المقصود هو العلاقة المرآوية بين النص الشذري والرسم علما بأن الشذرة بطبيعتها هي رفض لكل انعكاس آلي ينشد الصورة الثابتة، وهذا ما يؤشر عند عبد الله بلعباس على تمثل طرائق جديدة تنتمي إلى الكتابة الحداثية التي تحتفي بالشذرة، باعتبارها صياغة شعرية للفكر كما يقول الفرنسي موريس بلانشو. في هذه المنطقة المابين تقيم الذات الشاعرة لتنسج عبر الإشارة خيوط رؤية للعالم تتأسس على علاقة جوار بين العلامة اللغوية والعلامة البصرية.. في الجملة الشذرية لاوجود لمعنى جاهز يمكن الكشف عنه لأن من خصائص الكتابة الشذرية اتخاذ مسافة من المعنى، ليس من أجل محاكاته بل من أجل انتهاك الحدود التي تسوره وتجعل منه هياكل ممتلئة وفي الانتهاك كما يقال مخاطرةتقول الشذرة 25
القرب،
شتات
لا أفق يجمعه..
هكذا هي الكتابة المقطعية كما يصفها البعض تكون دائما في حالة شرود وتشتت وقراءتها لا تتطلب متابعة متسلسلة من البداية حتى نهاية الكتاب، لذلك سأعمل على تتبع هذا الشتات بدون ترتيب وفقا للإيقاع الذي تفرضه هذه الصياغة الشعرية وليس وفقا للترتيب المطبعي في صفحات الكتاب. الكتابة الشذرية التي اختارها بلعباس لصياغة هواجسه الإبداعية ورؤاه الجمالية تنهض على مفهوم التعدد والاختلاف واللانهائي تقول الشذرة 24 وبصياغة دارجة لها أكثر من دلالة خاصة وأنها الشذرة الوحيدة في الكتاب التي تم تدريجها:
الكتبة تغراز
كلها
ومخيطو.
ليس هناك نمط معين أو وصفة جاهزة سوى قدرة الكاتب على خوض المغامرة في النسيج دون تطابق أو محاكاة.تعمل هذه الكتابة بماهي تمارين على بعثرة العلاقة بين الدال والمدلول، تنشد النظر في أفق بعيد عبر آليات الانزياح والاستعارة المفرطة ولا تبالي بالامتلاء الذي يحتفل بنصوص جاهزة تستند إلى خطاب الحضور.. وفي نفس الوقت هي عبارة عن قبسات مشاغبة مستفزة تروم اللعب في الهامش والمشاكسة عند التخوم أكثر من الالتزام بالصرامة العقلية. تقول الشذرة 10 :
ممشاي
أثر
دون خطو،
خطو
دون أرجل.
لكن رغم ارتباطها العميق والعضوي بالبعد الفلسفي التجريدي إلا أن فعالية الكتابة الشذرية حسب نيشته تستمد من طابعها البلاغي والشعري. تقول الشذرة 17:
اليد تبني،
العين تحرس،
اللغة تستأجر..
رغم ذلك فهي كتابة تقاوم الترهات والحماقات السائدة في مجتمعاتنا المعاصرة والتي وصلت إلى اقصى درجاتها فيما أصبح ينعت اليوم بالرداءة. الكتابة الشذرية تجعل القارئ قريبا منها بتكسير الجدار بينه وبين المؤلف، بل تجعل المتلقي يحس وهو يقرأ كأنه يشارك المؤلف في كتابة نصوصه، لهذا وصفها الشاعر والناقد الألماني فرديريك شليغل بأنها فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة تقول الشذرة 11 :
ما أنا،
إلاك،
دوننا.
الكتابة الشذرية تحتفل بالانفصال والقطيعة وتقوم على الانزياح والهجاء اللاذع للكشف عن مظاهر التمزق واللامعنى ضدا على يقينيات اللغة وكل الأنساق الدوغمائية الصارمة التي تغلق المعنى على نظام المعقول النصي. تقول الشذرة 36:
تنهكه الأجوبة،
يتكلس شكه،
اليائس
الذي تستنفده
لغته..
تحيلنا هذه النصوص على التفكير في ما أنتجه الشذريون الكبار أمثال مونتين وفاليري وباسكال، مرورا بنيتشه وإلياس كانيتي وموريس بلانشووصولا إلى إميل سيوران ورولان بارث..الكاتب الشذري يحتفل بالنص المتشظي الملائم لهذه اللغة المنفلتة… الشذرة تحرر الكلام من سطوة المعنى القائم وتحررالكلمات اليتيمة من سلطة الحضور والامتلاء.. كما تحرر الدال من سلطة المدلول فتخرج من القوة إلى الفعل، الشذرة في النهاية شك في المعنى وتأسيس للاختلاف. في هذا الكتاب نحن أمام عالمين متوازيين: عالم التشكيل الشعري وعالم التشكيل البصري، حيث يلتقي المرئي المحسوس باللامرئي المتعالي. لكن بين هذين العالمين تجري مياه كثيرة، ليست الشذرة دالا والرسم مدلولا، وليس هناك تطابق بينهما. في هذا العمل لا يعرض علينا بلعباس أفكارا جاهزة لأن الكتابة الشذرية ليست وسيلة للتعبير، وإنما يكشف أمامنا إمكانية الإقامة الرمزية المترحلة في حقل لإنتاج معانٍ متعددة وغير مستقرة.الشذرة رقصة،بل هي رقصة المخاض عند تخوم التعدد والاختلاف.
يبرز المكون السيرذاتي في هذه الشذرات من خلال الحضور القوي لأصداء ذاكرة تشتغل عبر استذكار الأمكنة الاعتيادية التي يرتادها الشاعر. تقول الشذرة رقم 39:
من تسكنه
الذاكرة
يبيت
في مرآة
الإقامة في المرآة هي كذلك إقامة لانهائية، مادامت الصورة متغيرة بتغير الأحوال.إذا تأملنا الشذرة رقم واحد التي تقول:
في مكان ما
حلم يرقبني
لكنه العمى
يحاصر الحنين،
والشذرة الأخيرة رقم61 التي تقول:
«مازاغان
تراقص ليلا
ينحني للخديعة
ويبتسم
لأغنية.
نجد أن مابينهما ليس سوى محاولة لتأطير شظايا ذاكرة من خلالها تسعى الذات الشاعرة إلى رسم صورة متعددة لذات تواجه ليلا جائعا وترصد بكاء أيلول وهو ينصت إلى همس الريح والشجر وحكايات البحر، وفي أجواء مازاغان يستذكر الشاعر رفاق الدرب الذين تقاسموا معه تجربة حراك نضالي. جاء في الشذرة 51
المناضلون
بعضهم شهيد
والبعض قابيل،
ما تبقى شهود.
وتبقى ذكريات الأم الراحلة التي تشبه شجرة النارنج، وحيدة تغزل أيامها وتقطرها عسلا، تبقى الأم حاضرة رغم تمدد الوقت واستحالته إلى تابوت بين جنازتين في انتظار فضيحة يوم آخر..الزمن الليلي رغم تشابهه وأقنعته المتوالية يساعد بدوره الذات الشاعرة على استذكار لحظات الصمت وهي تنتظر إطلالة الصبح بعدما تغادر جوع الليل وطله الدامع.تقول الشذرة 15
لكل حجاب
ليل يحكيه
يعريه.
إذا كانت هذه الشذرات قد عكست لنا رؤية بلعباس للعالم عبر خصائص الكتابة الشذرية، فإن ذلك مانجده قد تحقق في رسوماته الفنية المصاحبة للمقاطع الشذرية الشعرية. مع إعادة التأكيد بأن العلاقة بين العلامتين الفنية واللغوية ليست علاقة مرآوية. فاليد التي تمسك القلم لتحرك الكلمات وتجعلها إشارات شاردة غير مستقرة في مقام محدد ، هي نفس اليد التي تجعل من الفرشاة أداة لخرق القماش/الورق لممارسة فعل محو الأثر بعدما يستوي اللون على البياض في صيغته الأولية، لتجعله منفلتا من القيد الأصلي..الفرشاة بدروها تمحو الحدود بين الأجناس التعبيرية لتتحول الرسوم إلى مقاطع شذرية تحتاج إلى القراءة بصوت مرتفع..تنطلق العملية التجريدية في هذه الرسوم من نفس هذه الروح المتمردة، فالقلق يصاحب كل من الإشارة كعلامة لغوية وتلك الأجساد غير المكتملة. ليس هناك جسد مكتمل..يد تشير إلى اللانهائي وعين ترقب التمازج الذي يتبعه المحو.. ذراع تمسك بخيوط اللامعنى عنق يرفض التماهي مع ظله. كتف تصنع فجرا من الأسود. نصوص بصرية بماهي دوال تقيم إلى جانب الإشارة لاتنتظر سوى إشارات الانزياح لكي تشرع في نسج خيوط سيرة زمن باهتوربما تسعى إلى ترميم شقوق تسرب منها زيف اليقين إلى ذوات ترنو إلى صباح آخر..
ختاما أقول إذا كان بلعباس قد اختار الكلمة الشذرية المتقاطعة مع رسوماته الفنية كأسلوب في الكتابة للتعبير عن رؤاه الفنية فبسبب وعيه بأن اللون باعتباره علامة تشكيلية يقع خارج منطق اللغة الطبيعية، وبالتالي فهو عصي على الخضوع لهيمنة القواعد الجاهزة، يبقى هذا التعالق بين الكلمة واللون محطة قادمة في انتظار تواز إبداعي بين المرئي واللامرئي يحقق تناغما جماليا يساعد المتلقي على التقاط بعض العناصر الفكرية لاستنطاق فصوص هذا العمل..وهذا ليس عصيا على من يواكب تجربة عبد الله بلعباس التي يمكن القول بأن من ثوابتها الاشتغال على معجم التشظي والمحو وجدلية الحضور والغياب منذ أعماله التي اعتمد فيها على التنقيط، مرورا بالحبرمائيات والوجوه والبورتريه إلى تجاربه الأخيرة..
اللون والكلمة أو جدل الإقامة والترحال في «مقام الإشارة»
الكاتب : محمد مستقيم
بتاريخ : 24/01/2025