المؤرخ والباحث الطيب بياض : الوثيقة لا تقُول ولكنها تُقَوَّل، ويمكنها أن تُوَظِف المؤرخ وتكتب به التاريخ

 التاريخ الجديد تاريخ إشكالي لا ينزلق إلى التفكير السهل

في إطار سلسلة اللقاءات التي دأبت على عقدها صفحة السوسيولوجيا الحضرية بالفايسبوك والموجهة لطلبة ماستر» سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية»، لقاء حول موضوع «المؤرخ والوقائع السوسيوسياسية»، استضاف المؤرخ والباحث الأكاديمي الطيب بياض يوم 9 ماي الجاري، وهو اللقاء الذي يستمد أهميته من كونه يجمع مجالين معرفيين هما السوسيولوجيا والتاريخ.
وقد سجل الدكتور الطيب بياض بخصوص العلاقة بين هذين المجالين ملاحظتين أساسيتين هما:
1-أن السوسيولوجيا في المغرب، منذ ولادتها، سعت إلى النهل من التاريخ، مستحضرا في هذا السياق أعمال كل من جاك بيرك»حد كورت» وبول باسكون «حوز مراكش» ورحمة بورقية حول «الدولة والسلطة والمجتمع» وصولا إلى الجيل الحالي كعبد الرحيم العطري «الحركات الاحتجاجية والعودة الى التاريخ « وعياد أبلال في «الجهل المركب». وخلص بياض الى أن هذه العلاقة بين التاريخ والسوسيولوجيا تميزت دوما بالتفاعل المنتج.
2- اختلاف المرجعيات: هنا ركز الطيب بياض على أن السوسيولوجيين المغاربة يميزون بين الحدث والواقعة والظاهرة حسب المرجعيات، فيما المؤرخون ظلوا يراوحون بين الاتجاه الوضعاني مع الحدث، أو الانفتاح على البنيات مع مدرسة الحوليات الفرنسية.
ولرفع كل لبس أو نشاز مفاهيمي حول موضوع اللقاء، انطلق مؤلف «الصحافة والتاريخ» من تحديد: أي مؤرخ نتحدث عنه؟ مؤكدا أن المؤرخ الذي يعنيه هو الذي يجعل الحدث لا يفهم إلا من خلال السياق والبنية الشارحة له للارتقاء إلى مستوى الواقعة في دلالتها ومحمولاتها ومفاهيمها السوسيولوجية المستندة إلى المرجعية الدوركايمية، أي الوقائع بالمفهوم السوسيولوجي، والأحداث حسب البنية الشارحة وفق مفهوم التاريخ المرتبط بمدرسة الحوليات.
وأشار بياض في هذه النقطة إلى إبراز ثلاث محطات لقراءة هذا التاريخ، انطلاقا من تحديد تفاعل كل من المؤرخ الفرنسي والمؤرخ المغربي مع الأحداث، مقدما ثلاثة نماذج لكل منهما:
-النموذج الأوربي، وميز فيه بين ثلاث محطات: الحرب العالمية الثانية، أحداث 8ماي 1968، أحداث باريس 2015 بعد العمليات الإرهابية.
-النموذج المغربي، وميز فيه بين محطة 16 ماي 1930 أو ما يعرف بالظهير البربري، متسائلا عن صعوبات قراءة هذه المرحلة من طرف المؤرخ، اعتبارا للسياقات المتداخلة في إخراجه كوثيقة يتداخل فيها السياسي بالقانوني بالاقتصادي بالجو العام وفترة الاحتقان الشعبي، ثم فترة 7أبريل 1947 أما يعرف بأحداث ساليكان بالدار البيضاء.
ثم مرحلة 29 يناير 1944 : والتي عرفت خروج مظاهرات بكل من فاس وسلا والتضحيات التي قدمت فيها لكن هذه الفترة تم شطبها من الذاكرة الجماعية مقابل التركيز على حدث 11 يناير تاريخ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال.

السوسيولوجيا والتاريخ ومنطق الهيمنة

يقتضي تأصيل النقاش حول العلاقة بين التاريخ والسوسيولوجيا، التوقف – حسب المؤرخ بياض – على التفاوت الحاصل في آليات الاشتغال بين السوسيولوجي والمؤرخ، والتي تفسر إلى حد ما العلاقة المتشنجة بين المجالين، وبين الفاعلين في كل منهما. فقد عرفت العلاقة مراحل شد وجذب وصراع لإخضاع أحدهما للآخر. فالتاريخ صارع مبكر حسب بياض للافتكاك من أسر الأسطورة وللتخلص من شرنقة وهيمنة الفلسفة، متسلحا بالمعرفة المنهجية المستندة إلى الوثيقة والحدث ولمفهوم خاص للزمن.إلا أن التاريخ وجد نفسه أمام سوسيولوجيا فتية لم تتوان عن محاولة إخضاعه، بل لم تتردد في ازدراء صنعة المؤرخ، وترى أنها الحقل المعرفي الوحيد الذي يهتم بدراسة القوانين وهو ما جعل علم التاريخ يتعرض لهجوم عنيف، وهو الوضع الذي طالب فيه العديد من رواد السوسيولوجيا، المؤرخين بالانتقال من الفردي إلى الاجتماعي والبحث عن علاقات تسمح باستنباط قوانين علمية ومنظومات سببية، ما يمكن اعتباره انتصارا ودفاعا عن جعل السوسيولوجيا تستولي وتحجم أداء المؤرخين بل وتحاول إخضاعه لإشكالية هذا العلم الفتي، وبالتالي تحويل المؤرخين إلى مُجمّعين تجريبيين لمواد لا يمكن أن يفسرها إلا علم الاجتماع وحده.
بعد هذه المحطة، وبعد العديد ممن المطارحات النظرية والمنهجية، قلب المؤرخون المعادلة خاصة عندما أسسوا مجلة «الحوليات» في 1929 واعتبروا بدورهم السوسيولوجيين ضحايا تشتت الحاضر، إذ دعاهم لوسيان فيبر للعمل لفائدة التاريخ، كما وصف فيرناند بروديل السوسيولوجيين بـ»النتوءات والنباتات الناشئة»، موجها إلى السوسيولوجيا انتقادات أجملها في أنها تفتقر إلى مفهوم عميق للزمن يرقى إلى مستوى البنية العميقة لحرفة المؤرخ، بالإضافة إلى ضعف منهجها الذي لا يسعف في تحديد موضوعها وهو : ماهو المجتمع؟
بعد حرب المواقع التي انتهت بتكامل وجهات نظر المؤرخين المجددين ورواد السوسيولوجيا الدوركايمية ، تم الانتصار لفهم معين للتاريخ بعيدا عن أي تطاول عليه كحقل معرفي يمكن أن يطور أدوات اشتغاله، انطلقت مرحلة التدافع والتفاعل المنتج بين المجالين، حيث كان لسوسيولوجيا دوركايم أثر بالغ في تخصيب الحقل المعرفي للتاريخ بمواد جديدة ، وباستفادة مدرسة الحوليات من أدوات تحليل أعمق يساهم في حصر المشكلات وعدم الانزلاق إلى التفكير السهل.
هذا النوع من الفهم للكتابة التاريخية هو ما يؤمن به المؤرخ الطيب بياض، بل ويقترحه لفهم الوقائع السوسيوسياسية.

علاقة المؤرخ بالوثيقة؟

التحليل العميق وعدم الانزلاق نحو التفكير السهل هو النوع الذي يرى بياض أنه يمتح من التفاعل المنتج بين التاريخ والسوسيولوجيا، وهو فهم قائم في نظره، على طرح مجدد للكتابة التاريخ باعتبار أن التاريخ الجديد هو تاريخ إشكالي وليس تاريخا للحكي والسرد. فالمؤرخ المتمكن من صنعته، يتعامل مع مصادره ومراجعه وشهوده ووثائقه برؤية نقدية صارمة، وهو الذي يؤمن بأن الوثيقة «لا تَقُولُ» بل «تٌقَوَّلُ» وتُستنطَق، وفي عملية الاستنطاق هاته، يحتاج المؤرخ إلى عدة نظرية ومنهجية ومعرفية تجعله يتعامل مع الوثيقة كقاضي تحقيق يشكك في الأدلة التمهيدية التي تقدم له، ويتعامل مع وثائقه بهذا المنطق الذي لا يجعله يطمئن إليها.
ولم يفت الدكتور بياض التمييز هنا بين المؤرخ الحقيقي النبيه والحذر، وبين المؤرخ الذي لايتعامل بشكل نقدي مع الوثيقة ويوظفها وفق منهج علمي في استخراج مادته العلمية ، إذ الوثيقة في هذه الحالة ستكتب التاريخ بالمؤرخ عوض أن يحدث العكس، وبالتالي ما سيصل الى القارئ هو خطاب واضع الوثيقة ورسالته.
وأضاف بياض أن المؤرخ الحقيقي هو الذي يستدعي البنية لشرح الظرفية ، ويغوص في السياقات لسبر الأحداث التي أفرزتها، وهو الذي ينزع نحو المعقد والمركب لتفكيكه وفهمه ، غير مطمئن الى البسيط والجاهز أي ذاك المؤرخ الذي يؤمن بأن «التاريخ يكتب من الحاضر وبضمير خاص».


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 12/05/2020

أخبار مرتبطة

وفد كبير وغير مسبوق يرافق إيمانويل ماكرون وحرمه، وأجندة حافلة نحو تعزيز شراكة استثنائية بأفق واعد     يحل اليوم

تعد الزيارة المقبلة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب محطة مهمة في تعزيز العلاقات الثنائية بين هاتين الدولتين اللتين تربطهما

عبد الرحيم شهيد: حكومتكم هي الأضعف على مستوى خلق مناصب الشغل، بل هي الأكثر إنتاجا للبطالة في السنوات الأخيرة  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *