بحرقة الأب الذي رعى وليدا حتى شب عن الطوق واشتد عوده، فزاغ وضل وغوى، عبّر الروائي والناقد محمد برادة، وهو يستدعي أهم مراحل مساره في الكتابة، تجربة تأسيسه رفقة الراحل محمد عزيز لحبابي لاتحاد كتاب المغرب سنة 1961، عبر عن أسفه على مصير واحدة من أعرق المنظمات الأدبية العربية التي حققت لعقود حضورا عربيا ومغربيا ودوليا، بالنظر إلى التجربة الطويلة والصعبة التي تمكن خلالها الرؤساء السابقون من إرساء قواعد ديمقراطية داخلية تضمن سير الاتحاد وانتخاب هياكله بسلاسة.
ووقف صاحب «الضوء الهارب» ، وحيوات متجاورة» ، في اللقاء الاحتفائي بمساره الذي نظمته وزارة الثقافة بمعرض الكتاب يوم الأربعاء 23 أبريل، وقف عند مظاهر أزمة الاتحاد التي عمّرت أكثر مما يجب، معتبرا أن «تحايل « الرئيس السابق والحالي على القوانين التنظيمية للمنظمة وتشبثه بالرئاسة، يتم خارج نطاق الشرعية القانونية مما يعمق حدة هذه الأزمة.
أزمة شدد برادة على أن «حلها يقع على مسؤولية الدولة التي عليها أن «تتصارع» مع هذا الرئيس الذي لم يسبق لأي رئيس قبله أن عمّر في ذات المنصب وفق القانون الذي لا يتيح لأي رئيس البقاء في الرئاسة أكثر من 10 سنوات» .
وأبدى برادة تأثره البالغ بمآل هذه المنظمة، والفراغ الواضح الذي سببه الوحيد هو الرغبة في التأبيد بعد أن كان الاتحاد قوة اقتراحية بل «كان يمثل، تقريبا، الاتحاد الوحيد غير الحكومي البعيد عن الدوائر الرسمية، وهو ما كان محط تقدير وإشعاع في الخارج». وأضاف مؤلف «مثل صيف لن يتكرر» أنه :»إذا كانت هناك منظمة حافظت على الحد الأدنى من الحوار الديمقراطي، وجميع الاتجاهات ممثلة فيها، فهي اتحاد الكتاب» لذا «من حق الدولة أن تحافظ على هذه الجمعية الثقافية التي تكاد تكون الوحيدة التي تمارس هذا النوع من الحوار»، والتي أمامها اليوم مهام وأدوار جديدة تستدعي استيعاب الأصوات الجديدة التي تقع على عاتقها مسؤولية إحياء اتحاد كتاب المغرب من موقع المسؤولية التسييرية.
حياة منذورة للصدفة
في حديثه عن بدايات مساره، أكد صاحب «لعبة النسيان» أن مساره «لم يكن اختيار إرادة فردية، بل صنعته الصدفة أيضا»، مشيرا إلى أنه من الصعب التمييز في هذا المسار» بين ما أملته الصدفة وما خضع لاختياراته في الحياة» ، خاصة في حالته هو الذي عاش فترتين مهمتين: فترتي الاستعمار والاستقلال، جرب فيهما اليتم والترحال بين الرباط وفاس، بين المسيد والمدرسة الحديثة، ثم إلى القاهرة التي ذلل له صعاب الاندماج في نسيجها كل من الكتاب عبد المجيد بنجلون وأحمد بلمليح، علي أومليل وإبراهيم السلامي، قبل العودة إلى المغرب في 1960، حين كانت الأوضاع بالمغرب تتجه إلى تغيير العلاقة بين السلطة والشعب، وفي خضم تنامي مبادئ الاشتراكية وشعاراتها. تغيير لم يكتب له أن يكتمل، ما يُشعره اليوم وفي كل زيارة للمغرب بـ»الغربة» في بلد لم يقطع بعد مع مظاهر التقليدانية والتردد في ترسيخ قيم الحداثة والمساواة بين الجنسين، ولم تختف فيه البطالة والأمية. مغرب فشل في صناعة إنسان قادر على التفكير بحرية في غياب حوار حقيقي بين النخب والمؤسسات المدنية والسياسية، خاصة أننا «أمام تحولات ستكتسح العالم ومن المؤسف أن نكون متلقين فقط دون مساهمة فعلية في صناعته».
بدوره أكد د. محمد الداهي وهو يعرض لمسار الروائي محمد برادة أن هذا الأخير اضطلع بدور مركزي في ترسيخ أدب ونقد جديد بنفس حداثي ، أدب امتد من الرواية إلى القصة إلى المسرح والنقد، بالإضافة إلى بصمته التأسيسية لاتحاد كتاب المغرب، ودوره كفاعل ثقافي وعلمي داخل الجامعة المغربية ورعايته للأصوات الشابة، وربطه الجسور بين الثقافة المغربية والمشرقية.
الدينامو الثقافي الذي بنى أسطورته الشخصية
من جهته وصف الناقد الدكتور رشيد بنحدو صاحب»موت مختلف» بـ»الدينامو الثقافي» و»المصارع الحقيقي» الذي يحارب على عدة جبهات: في النقد الروائي ثم الاهتمام بالطاقات الشابة والإيمان بمشروعها الكتابي، وعليه فقد كانت له أياد بيضاء على عدد من الكتاب، يقول بنحدو، ممن اطلع على كتاباتهم ورافقها نقديا أو بالترجمة (جنيه، كيليطو، الطاهر بنجلون، اللعبي،شكري، وكتاب من مصر ولبنان وسوريا)، الى رئاسته لاتحاد كتاب المغرب لثلاث ولايات «أبان خلالها عن حنكة تنظيمية وكفاءة تدبيرية من خلال الندوات والمؤتمرات الكبرى التي تخطت البعد المحلي الضيق لتشمل روائيي المشرق العربي ودياسبوراه».
بنحدو أشار في هذا الباب إلى أن حرص برادة على ضمان تمثيلية كل الأقطار العربية في مؤتمرات الاتحاد» عرَّضه في أحيان كثيرة لخطر المتابعات القضائية، سواء الكتاب المغتربين أو المناهضين لأنظمة بلدانهم السياسية (برهان الخطيب، برهان غليون..)، لافتا إلى أنه طيلة هذا المسار، لم يكن برادة منشغلا بنزوات أو رغبات ذاتية محضة ومنها إبداع روايات تستمد جدتها الشكلية من روح الحداثة القائمة على التجريب والمغامرة لأنه «لو فعل ذلك لحظتها، لأجهض مشروع بناء أسطورته الشخصية التي تخصه»، مفضلا خدمة الآخرين وخدمة الأدب ونقده بكل تجرد ونكران ذات»، وهي الأسطورة الشخصية التي ستترسخ لاحقا بدخوله غمار الكتابة الروائية في سن الخمسين مع «لعبة النسيان»، وهو الاختيار الذي افتتن به وأخلص له طيلة حياته، تأليفا وترجمة ونقدا.