المبادرة الأطلسية تفتح خريطة النفوذ الإفريقي على 33 دولة ومشاريع عابرة للحدود تعيد هندسة موازين القوة بالقارة

وزير الخارجية النيجري: مبادرة الملك محمد السادس شكلت لنا «منفذا استراتيجيا وطوق نجاة» في لحظة كانت فيها النيجر معزولة تحت حصار إقليمي شامل

 

 

خلال ندوة»إفريقيا والتعاون الأطلسي: بناء فضاء متكامل واستراتيجي» المنعقدة يوم الخميس 27 نونبر ضمن منتدى «ميدايز»، تم وضع المبادرة الملكية للتعاون الأطلسي في صلب نقاش دولي رفيع المستوى جمع رؤساء وزراء ووزراء خارجية وممثلين عن عالم الاستثمار. وجاء هذا النقاش في سياق التحول العميق الذي تعرفه القارة الإفريقية منذ إطلاق جلالة الملك محمد السادس، للمبادرة الملكية سنة 2023، والتي هدفت إلى جعل الساحل الأطلسي فضاءً موحدا للتنمية والتكامل وربط الدول غير الساحلية – خصوصاً النيجر ومالي وبوركينا فاسو – بالمحيط الأطلسي. ومع التقدم المؤسسي الذي تحقق سنة 2025 عبر تأسيس مجموعة الدول الإفريقية الأطلسية (GEAA)، وتفعيل التعاون الأمني والاقتصاد الأزرق والبنى التحتية الإقليمية، أصبح النقاش موجهاً نحو كيفية تحويل الرؤية إلى نتائج ملموسة على الأرض.
جاءت المداخلة الأقوى في الجلسة من وزير الخارجية النيجري، باكاريياوسانغاري، الذي قدم شهادة حية عن أثر المبادرة الملكية على دول الساحل، مؤكدا أن إعلان 6 نونبر 2023 شكل بالنسبة لبلاده “منفذا استراتيجياً وخط نجاة” في لحظة كانت فيها النيجر معزولة تحت حصار إقليمي شامل. وأوضح أن حرمان النيجر من الوصول إلى ميناء بنين عطّل اقتصادها بالكامل، وأن المبادرة الملكية منحت دول الساحل بديلا وعمقا استراتيجيا جديدا. واعتبر سانغاري أن الربط الأطلسي ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل «تحول جيواستراتيجي» سيغيّر مستقبل المنطقة عبر تمكينها من الاندماج في التجارة العالمية وتطوير موانئ جافة وطرق وسكك حديدية. كما كشف عن تقدم ملموس تمثل في تشكيل قوة عمل مشتركة لدراسة المسارات والربط الطرقي والسككي، معتبراً أن التنفيذ قد يبدأ فعلياً قبل نهاية 2025. وربط الوزير بين المبادرة الملكية ومشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب الذي سيمر عبر 11 إلى 13 دولة، مؤكدا أنه مشروع سيغير قواعد اللعبة الاقتصادية في غرب إفريقيا، وسيمكّن دول العبور من الولوج إلى الغاز بكلفة منخفضة ومن خلق فرص عمل واسعة وتحسين القدرة التصديرية. ورغم تفاؤله، شدد على وجود شرطين حاسمين: الأمن وتطوير البنى التحتية، مؤكداً أنه لا يمكن لأي مبادرة أطلسية أن تنجح ما لم يتم تأمين محاور العبور ومواجهة الإرهاب العابر للحدود.
وفي مداخلة غنية بالمعطيات الاقتصادية، قدم رئيس وزراء هايتي السابق، لوران لاموت، رؤية واسعة حول التحول الذي يشهده الفضاء الأطلسي الإفريقي، موضحا أن 33 دولة تطل على الأطلسي وتنتج أكثر من 55% من الناتج الإجمالي للقارة و90% من تجارتها، ما يجعل الأطلسي “الخزان الحقيقي للنمو الإفريقي”. وخص المغرب بنقاش معمق، مبرزا أن ميناء طنجة المتوسط أصبح المعيار الإفريقي الأول وأحد أفضل 20 ميناء في العالم بفضل 9 ملايين حاوية سنوياً وارتباطه بـ 180 ميناء عالميا. وأوضح لاموت أن تحديث الموانئ الأطلسية – داكار، أبيدجان، لاغوس، نواكشوط – يمكن أن يخفض كلفة اللوجستيك بين 15 و40%، لكنه نبه إلى «النزيف الاقتصادي» الناتج عن الازدحام والبيروقراطية في بعض الموانئ، خصوصا ميناء لاغوس الذي يتسبب في خسائر تفوق 1.5 مليار دولار سنوياً بسبب الازدحام. واعتبر أن الحل يكمن في الرقمنة الشاملة، من استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين تدفق البضائع، إلى اعتماد البلوكشين لتتبع الحاويات، مبرزاً أن “أفريقيا لا يمكن أن تصبح قوة أطلسية دون ثورة رقمية في موانئها”.
أما من زاوية الاستثمار الدولي، فقد قدم أنطونيو هنريكيسدا سيلفا، مؤسس ومدير INVEST-A التابعة لمجموعة TOPSON SA، تحليلا دقيقا لمدى قابلية المبادرة الأطلسية للتمويل. واعتبر أن المستثمرين لا يخشون المشاريع الكبرى، بل يخشون انعدام الوضوح، مؤكدا أن القابلية للتمويل تبدأ من “الرؤية الواضحة والقواعد المستقرة والحوكمة الشفافة”. وشدد دا سيلفا على أن أي ميناء أو طريق أو أنبوب غاز لا يمكن أن يكون قابلا للتمويل إذا لم يكن جزءاً من شبكة إقليمية متكاملة، موضحاً أن العزلة تقتل الاستثمار بينما التكامل يولده. كما ركّز على مشكلة نقص البيانات في إفريقيا، مشيراً إلى أن غياب قواعد بيانات دقيقة يحدّ من قدرة المستثمرين على تقييم المخاطر ومردودية المشاريع، داعيا إلى استراتيجية قارية لجمع البيانات ودمجها ورقمنتها. واعتبر أن المبادرة الملكية تشكل “منصة استثمارية واعدة” لأنها تخلق رؤية مشتركة بين دول الساحل والدول الأطلسية، وهو ما يجعلها قابلة للتحول إلى أصول استثمارية طويلة الأمد.
وشهدت الجلسة أيضاً مداخلات ديبلوماسية مهمّة، أبرزها كلمة السيدة آسيا بنصالح العلوي التي أكدت الدور القيادي للمغرب في بناء فضاء أطلسي إفريقي موحد، ودعت إلى جعل التعاون الأطلسي إطارا للسلام والتعاون المناخي والأمن البحري. كما تدخل سعادة السيد لويس فيليبي لوبيز تافاريز من كابو فيردي مبرزاً أهمية الأمن البحري والتنسيق الإقليمي، فيما تناول رئيس وزراء غرينادا، سعادة السيد ديكون ميتشل البعد العابر للأطلسي بين إفريقيا ومنطقة الكاريبي وإمكانيات بناء شراكات جنوب–جنوب أكثر فعالية.
ومن خلال تفاعل هذه الرؤى المختلفة – الأمنية، الاستثمارية، الدبلوماسية، والتنموية – بدا واضحا أن المبادرة الملكية للتعاون الأطلسي أصبحت اليوم حجر الزاوية في إعادة رسم الخريطة الاستراتيجية للقارة. فقد أكدت المداخلات أن الأطلسي لم يعد مجرد فضاء بحري، بل تحول إلى محور جيو-اقتصادي قادر على توحيد إفريقيا، وتعزيز أمنها، وفتح أسواق جديدة لاقتصاداتها، وتمكين دول الساحل من تجاوز هشاشة موقعها الجغرافي. إنها مبادرة تجمع بين البعد الاقتصادي والطاقي واللوجستي، وبين الأمن البحري والدبلوماسية الاستباقية، وبين التنمية المستدامة وحماية البيئة البحرية، ما يجعلها أحد أكثر المشاريع طموحا في إفريقيا خلال العقد الحالي، وقوة دافعة نحو فضاء أطلسي إفريقي متكامل ومؤثر على الساحة الدولية.


الكاتب : n منتدى «ميدايز» طنجة: عماد عادل

  

بتاريخ : 29/11/2025