المتقاعدون وهواجس تدبير الزمن

في‮ ‬مختلف الفضاءات العامة بالعاصمة الاقتصادية،‮ ‬خاصة الحدائق والمقاهي‮ ‬الشعبية عامة‮ ‬،‮ ‬لا تخطئهم العين‮ ‬،‮ ‬لأنهم بكل بساطة ألفوا هذه الفضاءات وألفتهم،‮ ‬حتى خلقوا معها صحبة استثنائية،‮ ‬لدرجة أن أسماءهم تصبح معروفة على نطاق واسع لدى ساكنة كل حي‮ .‬
إنهم بكل بساطة جماعة المتقاعدين من العنصر الرجالي،‮ ‬الذين‮ ‬يتخذون من بعض النقط‮ ‬،‮ ‬مواقع للقاءاتهم اليومية من أجل تصريف فائض الزمن بعد فترات الحياة المهنية‮ ‬،‮ ‬وذلك بغية خلق أجواء حياتية من نوع مغاير،‮ ‬والحال أن القليل منهم هم الذين‮ ‬يتمكنون من مزاولة نشاط مغاير بعد الحياة المهنية‮ .‬
أما المتقاعدون من العنصر النسائي،‮ ‬فتلك حكاية أخرى تظل طي‮ ‬كتمان الفضاءات المنزلية‮ ‬،‮ ‬لأن جل المتقاعدات لا‮ ‬يجدن‮ ‬،‮ ‬بشكل عام‮ ‬،‮ ‬صعوبات في‮ ‬تصريف الزمن الضائع الذي‮ ‬يوفره التقاعد‮ ‬،‮ ‬لأن الحياة الاجتماعية في‮ ‬شقها المتعلق بالأنشطة المنزلية وحتى الاهتمام بالأسرة‮ ‬،‮ ‬يعد شغلا شاغلا‮ ‬،‮ ‬وتعويضا حقيقيا عن أنشطة الحياة المهنية‮ .‬
في‮ ‬تفاصيل الحياة اليومية للأشخاص المحالين على التقاعد‮ ‬،‮ ‬يتخذ زمن ما بعد الحياة المهنية أشكالا مختلفة،‮ ‬تمليها الظروف الخاصة بكل شخص،‮ ‬واهتماماته ورؤيته للحياة‮ ‬،‮ ‬ووضعه الاجتماعي،‮ ‬وإمكاناته المالية‮.‬
ذلك أن حياة ما بعد سنوات من العمل،‮ ‬تطرح إشكالات كثيرة،‮ ‬خاصة إذا لم‮ ‬يتم الاستعداد لها بالشكل الكافي‮ ‬نفسيا واجتماعيا،‮ ‬فتدبير زمن ما بعد الحياة المهنية‮ ‬،‮ ‬يعني‮ ‬بالأساس تدبير فترات الفراغ،‮ ‬والتي‮ ‬قد تشكل عبئا على المتقاعد خاصة إذا لم‮ ‬يملأها بأي‮ ‬نشاط معين،‮ ‬والذي‮ ‬قد‮ ‬يشكل طوق نجاه للصحة الجسمانية والنفسية،‮ ‬وهو ما أسر به لوكالة المغرب العربي‮ ‬للأنباء‮ ‬،‮ ‬السيد محمد‮ . ‬ج‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يشتغل مسؤولا جهويا في‮ ‬قطاع الصناعة والتجارة بالدار البيضاء‮ ‬،‮ ‬قبل أن‮ ‬يحال على التقاعد قبل سنوات‮ .‬
ويرى هذا المتقاعد أن تدبير زمن ما بعد الحياة المهنية،‮ ‬ليس بالأمر الهين‮ ‬،‮ ‬موضحا أنه‮ ‬يعرف عن قرب الكثير من المتقاعدين الذين نجحوا في‮ ‬ذلك‮ ‬،‮ ‬مقابل فشل آخرين لأسباب متعددة‮.‬
وحسب تجربته الخاصة،‮ ‬كما قال‮ ‬،‮ ‬فإنه كان‮ ‬يقضي‮ ‬جل وقته في‮ ‬مقهى بحي‮ ‬بورنازيل الشعبي‮ ‬بالدار البيضاء بمعية أصدقائه من المتقاعدين‮ ‬،‮ ‬‭ ‬من أجل التفاعل والتواصل بشأن شؤون حياتية كثيرة،‮ ‬وتبادل التجارب،‮ ‬علاوة على طرح مواضيع راهنة وطنية واجتماعية للنقاش من أجل تبادل الرأي‮.‬
وتابع أن انتشار فيروس كورونا المستجد في‮ ‬الآونة حرم المتقاعدين من اللقاءات والتواصل،‮ ‬لأنهم لزموا منازلهم خلال فترة الحجر الصحي‮ ‬كباقي‮ ‬الناس‮ ‬،‮ ‬وجعلهم بعد ذلك مكرهين على التقيد بمختلف الإجراءات الحمائية‮ ‬،‮ ‬حتى خلال العودة إلى لقاءاتهم على قلتها‮ ‬،‮ ‬وهو ما‮ ‬يعني‮ ‬حضور هواجس أخرى لها صلة بصحتهم‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬لم تترك الحياة المهنية منها الشيء الكثير الذي‮ ‬يمكن من مقاومة شراسة الجائحة‮ .‬
وفي‮ ‬مشاهد أخرى لتدبير الوقت المقتطع من حياة التقاعد‮ ‬،‮ ‬تعج مقهى بحي‮ ‬السدري‮ ‬في‮ ‬الدار البيضاء‮ ‬،‮ ‬بالعديد من المتقاعدين الذين‮ ‬يختارون لعب الورق‮ « ‬الكارطا‮ « ‬كوسيلة للتنافس والانتشاء بالانتصارات‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬لحظات فرح ممزوجة بالصراخ والضحك‮ ‬،‮ ‬من أجل التخلص من الزمن الضائع أو الفائض منه‮ .‬
قبل سنوات كانت حياة التقاعد،‮ ‬موضوعا مقيدا فقط بهواجس مالية‮ ‬،‮ ‬وانشغالات لها صلة بضيق ذات اليد في‮ ‬مواجهة متطلبات الحياة ومصاريف العلاجات،‮ ‬خاصة بالنسبة للذين‮ ‬يكون معاشهم قليلا‮ ‬،‮ ‬لكن الآن توسعت دائرة هذه الهواجس لتمس جوانب اجتماعية وصحية ونفسية وغيرها‮ ‬،‮ ‬وهو ما‮ ‬يفسر تأسيس جمعيات تعنى بشؤون المتقاعدين‮ ‬،‮ ‬بل ومنابر إعلامية تتناول مختلف أوجه حياة التقاعد‮ .‬
وبالنظر لتوسع مجال الجمعيات،‮ ‬فقد تشكلت فدرالية الجمعيات الوطنية للمتقاعدين بالمغرب،‮ ‬التي‮ ‬تروم الدفاع عن قضايا ومصالح المتقاعدين المغاربة الذين‮ ‬يمثلون حوالي‮ ‬10‮ ‬في‮ ‬المئة من المجتمع المغربي‮ .‬
وحسب معطيات عممتها مؤخرا هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي‮ ‬،‮ ‬فإن عدد المساهمين الجدد في‮ ‬أنظمة التقاعد الأساسية الثلاث بالمغرب انتقل من‮ ‬3‭.‬565‮ ‬ألف مساهم سنة‮ ‬2018‮ ‬،‮ ‬إلى‮ ‬9‭.‬572‮ ‬ألف خلال سنة‮ ‬2019‮.‬
ولقد‭ ‬عرف عدد المساهمين النشيطين الجدد في‮ ‬النظام الجماعي‮ ‬لمنح رواتب التقاعد والصندوق المغربي‮ ‬للتقاعد‮ -‬نظام المعاشات المدنية‮ ‬،‮ ‬انخفاضا على التوالي‮ ‬بنسبة‮ ‬1‭.‬13‮ ‬في‮ ‬المئة و5‭.‬2‮ ‬في‮ ‬المئة،‮ ‬في‮ ‬حين أن عدد المساهمين الجدد في‮ ‬الصندوق الوطني‮ ‬للضمان الاجتماعي‮ ‬ارتفع بنسبة‮ ‬3‭.‬2‮ ‬في‮ ‬المئة‮.‬


الكاتب : ‮ ‬عبد اللطيف الجعفري‮ ‬

  

بتاريخ : 10/02/2021