المجموعة القصصية «العربة» لمحمد زفزاف : تجليات التهميش وشعار الواقعية

1 . تأطير عام

. لا جدال في أن الكاتب القصصي محمد زفزاف يحتل مكانة مهمة، باعتباره أحد أعمدة كتاب القصة في المغرب والعالم العربي، بحيث يعد من الكتاب الذين اتخذوا من الواقعية شعارا لهم في العملية الإبداعية. فقد بصم على كتابات تحمل في عمقها العديد من الدلالات والمعاني. ولعل من بين كتاباته التي تندرج ضمن هذا الصدد مجموعته القصصية ” العربة” التي سنشتغل بها، محاولين تلمس تجليات التهميش فيها.
سنحاول من هذا المنطلق، الإجابة ضمنيا عن مجموعة من الأسئلة، من مثل: ماهي المواضيع والتيمات التي تتطرق لها المجموعة؟ وما تجليات التهميش فيها؟ ما هي الهواجس والأسئلة التي شغلت القاص وحاول التعبير عنها؟ كيف تضافرت المكونات الفنية في المجموعة لخدمة تيماتها؟ أي نوع من الشخوص استند إليها لأجل ذلك؟ ثم ما طبيعة الأمكنة المرتادة من قبل هذه الشخوص وما علاقتها بها والدلالات التي تأخذها؟

2. وصف المجموعة

تضم المجموعة القصصية التي نشتغل بها الصادرة عن دار الآداب بيروت، إحدى عشر قصة، لصاحبها القاص محمد زفزاف. وقد جاءت في صفحتين ومائة من الحجم المتوسط. لعل ما يجمع بينها هو كون جلها تجنح نحو الواقعية، وهو أمر تبينه عناوين القصص، فنلفي: 1 أطفال بلد الخير، 2 الكناس، 3 سردين وبرتقال، 4 عربة النساء، 5 النباش، 6 عندما يصير الرجل حمارا، 7 السلاح، 8 عربة الأطفال، 9 جريمة أخلاقية، 10 مملكة صغيرة، 11 مظاهرة.
إن كاتبها زفزاف يأخذ ظاهرة أو مشهدا يستقيه من الواقع المعيش، فيحاول إثارته والنبش فيه نقدا وتحليلا، وذلك وفق مصوغات فكرية وإيديولوجية وفنية معينة.

3. تجليات التهميش
في مجموعة ” العربة”

نؤثر بداية وقبل الغوص في هذه القراءة المتواضعة أن ندرس العنوان باعتباره جزءا من هذه القراءة، ولكونه عتبة مهمة لأي نص سردي مهما كان جنسه.
إن عنوان المجموعة هو ” العربة”، فعن أي عربة نتحدث؟ هل الأمر يتعلق بوسيلة النقل التي يستعملها الإنسان من أجل قضاء حاجياته في الركوب عليها أو نقل البضائع وأشياء أخرى؟ هل نحن بصدد الحديث عن عربة منتشرة في صفوف المهمشين، يختلف شكلها وتختلف وظيفتها باختلاف الأشخاص المهمشين المستعملين لها فتصير في هذا النطاق ذات ارتباط أكثر بالطبقات الكادحة الفقيرة؟
تبقى هذه مجرد تكهنات. لكن إذا ما ربطنا العنوان ” العربة” بالقصص المكونة للمجموعة، سنجد أن غالبيتها ذات صلة بعربة ما، بحيث إن الشخوص على اتصال وثيق بعربة ما في كل قصة من القصص ، وذلك لأجل أن تقضي بها حاجاتها. فكانت تارة عاملا مساعدا، وتارة أخرى عاملا معارضا. نقول هذا، ونحن نستحضر عربة بائعة البرتقال في القصة الأولى، وعربة الكناس في القصة الثانية، وعربة النباش ن وعربة إبراهيم المعاق، وعربة الرجل التي صار يجرها عوض حماره، وعربة القطار، والعربة المقصود بها السيارات، وغيرها.
بذلك، يظهر أن العنوان يرتبط ارتباطا بينا مع غالبية النصوص القصصية، الشيء الذي يفسر بأن زفزاف جنح نحو الوضوح والواقعية، فكان صادقا مع قرائه الذين ينبغي عليهم معرفة الدور الذي تلعبه ” العربة” في كل قصة من القصص المشكلة لمحتوى المجموعة. أمر سنحاول التعرف عليه في ما سيأتي.
لابأس وبغية إشراك المتلقي ووضعه في صلب القراءة أن نعطي فكرة عن مضمون بعض قصص المجموعة.
ونبدأ بالقصة المعنونة ” أطفال بلد الخير”، وهي تتحدث عن “الضاوية” التي تبيع البرتقال في إحدى الساحات، وبالقرب منها وليدها الذي حاول أطفال مشردون صغار متربصون به إقناعه بتمكينهم من برتقالة عن طريق سرقتها. وهو ما حاول القيام به خوفا منهم فلم يفلح. وما إن هم الأطفال بسرقة الضاوية حتى حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ برزت ما سمي بمعركة ربع ساعة مع السلطة، فتركت الضاوية عربتها واحتضنت ميزانها وأخذت في الركض بصحبة وليدها. فاستغل الأطفال المتشردون الوضع وهموا إلى العربة يلتهمون البرتقالات المتبقية بنهم.
أما قصة “الكناس”، فتتطرق ليوميات هذا الأخير الذي يظل يجول في الأزقة والدروب بغية تنظيفها، مستغرقا في ذلك فترة زمنية غير هينة، وهو يحاول أن يتعايش مع وضعه، فينفث السيجارة تلو الأخرى، ومعها السعال الذي لا يكاد يفارقه. هذا الكناس له بنتان هاجرتا إلى أوربا للعمل، حاولتا فيما بعد إقناعه بالابتعاد عن مهنته وإعطائه كل ما يريد لأنهما تخجلان من الأمر أمام الناس. إلا أن الكناس لم يأبه لكل هذا، كيف لا وقد تعود على المكنسة وعلى الطقوس المصاحبة لعملية التنظيف؟فهذا يجود بكسر خبز، والآخر يجود بصينية شاي، وغير ذلك. وهو يرد على بنتيه بأن المكنسة المقرفة هي التي جعلتهما تذهبان الى أوربا وتسكنان في عمارة مريحة عوض السكن في الكوخ. إذ كبرتا من أجره الزهيد الذي يجنيه من عمله المتواضع. لذلك يرفض ترك هذه المهنة رغم متاعبها الجمة.
ينقلنا زفزاف في قصة ” عربة القطار” إلى الحديث عن شخص كان في سفر على متن القطار، فصادف أن جلس في عربة لم تضم إلا النساء، اللائي أخذن يتجاذبن أطراف الحديث. واستمرت الأمور على هذا النحو. وكان في العربة امرأة مع وليدها. وبعد مغادرتهما للعربة ستكتشف المرأة الأخرى التي كانت بالقرب من الشخص بأن محفظة نقودها قد سرقت، فأخذت في الصراخ. فما كان منه إلا أن ينسل وينزل من القطار الذي كان قد وصل إلى وجهته المعلومة، وهو في حيرة من أمره.
تحكي قصة ” عندما يصير الرجل حمارا ” عن رجل كان يملك عربة وحمارا يقوم من خلالهما بنقل البضائع للزبناء مقابل دريهمات معدودة ، لكن حدث له يوما وهو يحمل بضائع أحدهم أن عجز الحمار عن المسير بالرغم من إفراغ الكثير من حمولة العربة، حيث استحال الأمر وأخذ صبر الزبون ينفد. وخوفا على ضياع الدريهمات فسخ الشخص العربة عن الحمار وأخذ مكان هذا الأخير، يجر بغية تلبية مطلب صاحب البضائع في مشهد مقزز.
نكتفي بهذه النماذج لأنها تعطينا فكرة عامة عن طبيعة النصوص القصصية الأخرى، وتبرر العنوان الذي اخترناه في هذا العرض
إن استنتاجا أوليا يفضي بنا إلى القول بأن صاحب المجموعة القصصية “العربة” يعبر بشكل صريح عن الواقع الذي يعيشه المجتمع وتعيشه بالأخص شريحة اجتماعية معينة من داخله، فينقل هموم فئات بعينها ومعاناتها، ويصورها وفق رؤية مؤدلجة تحمل الكثير من المعاني والدلالات.
لاشك إذن، بأن زفزاف يناقش هنا المشاكل والهموم التي تعتري الطبقات الكادحة و المهمشة بنوع من السخرية ، والتي تدخل في صراعات متعددة مع الذات التي تشبهها من جهة أولى، ومع الآخر من جهة ثانية ، ومع الزمان والمكان من جهة ثالثة، كما أنها تصطدم بإكراهات وعراقيل أخرى. تواجهها كلها مجتمعة من أجل أن تحقق ما تسعى إليه في عالم مادي صرف، وواقع معيش لا يرحم.
إن طريقة تعبير زفزاف عن الواقع في هذه المجموعة لم تأت من فراغ وبشكل تلقائي، بل نلفيها تنطلق من موقف عرفي توافق عليه الكتاب والمبدعون في مرحلة معينة، حيث أخذوا من مفهوم الالتزام شعارا لهم. فبرزت لنا بناء على هذا في المجموعة التي نشتغل بها، العديد من التيمات الخفية في ثنايا النصوص القصصية، منها تيمات الضياع والتشرد والاضطهاد والاستغلال والعنف والسلطوية والحلم والخوف والرعب وغيرها. فنجد مثلا تيمات التشرد والضياع والعنف بارزة بشكل جلي في القصة الأولى المعنونة ب: ” أطفال بلد الخير” حيث تتصارع الطبقات الكادحة مع نفسها ومع الآخر. فبائعة البرتقال تبذل قصارى جهدها لتبيع بضاعتها وتدخل في صراع ضمني مع الأطفال المتشردين الذين يحاولون سرقتها عن طريق تهديد وليدها و دعوته إلى السرقة، فهم يتضورون جوعا:
” يصرخ فيه الطفل الأسود ذو العينين الحمراوين: اسرق برتقالة لأمك يا ولد…
لكنه لم يكن يأبه لذلك، إلا إذا ما حاول أحد أن ينقض عليه فإنه ينجو بجلده. كان الأسود يخيفه كثيرا، وأحيانا كان يلقي لهم ببرتقالة متعفنة استخلصتها أمه من الكومة وألقت بها وراء ظهرها. ويظل يراقبهم من بعيد وهم يتخاطفونها ويلتهمونها، وعصيرها وعفنها يلطخان أوجههم.”
هكذا يبين المقطع الصراع المرير بين بين هاته الفئات المهمشة ويصور حالة الأطفال المتشردين الذين لفظهم المجتمع، فصاروا يعانون الجوع والحرمان وانحرفت سلوكاتهم، حيث يجلسون في “مسكنة مثل جراء جائعة، في انتظار أن يلقي إليهم ببرتقالة متعفنة أخرى أو حتى بالقشور التي تلقيها أمه بين قدميها.”
أما الصراع مع الآخر بالنسبة للمهمشين، فنمثل له بصراع بائعة البرتقال مع السلطة عن طريق ما سمته بمعركة ربع ساعة التي يواجهها المتجولون، فيضطرون إلى ترك بضائعهم والنجاة بجلدهم وبما جادت به السويعات التي يقضونها في البيع. بهذا، نلفي أن المجموعة في قصة من قصصها تعالج قضية الباعة المتجولين في صراعاتهم اليومية مع السلطة، والتي ما فتئ يستغلها المتشردون التائهون في جنبات الشوارع و الساحات باحثين عما يسد الرمق ويشبع البطن” عندما اختفت وسط زحام الراكضين، القوا بأنفسهم فوق البرتقالات المتبقية في الساحة.اخذوا يلتهمون بنهم ” .
زيادة على هذا، تزخر المجموعة ببعض القصص التي تعالج مشكلة الغذاء والفساد الاجتماعي و الاقتصادي وسوء توزيع الثروات التي يتوفر عليها المجتمع. بحيث لا تستفيد فئة الضعفاء من كل هذا، ما يدفعها الى محاولة الحصول على ما تعتبرها حقها بطريقة غير مشروعة، كما هو الحال بالنسبة لقصة ” سردين و برتقال” ، حيث و من أجل أن يظفر هؤلاء الضعفاء بالسمك المتنوع اضطروا إلى سرقة صندوق ليس في ملكيتهم، و هي قصة حاول من خلالها السارد معالجة قضية الصيد البحري و ما طرحته و تطرحه من علامات الاستفهام في المغرب، حيث إن أبناءه لا يستفيدون منها، بل تصدر إلى أوربا، إلى جانب البرتقال. وهو ما حاول السارد التعبير عنه و إعطائه موقفه منه، يقول في هذا الصدد : ” في كل مرة كنت أفكر أن الأرض أصبحت لنا بعد الاستقلال ( أو لبعض الناس _ لا ادري) و لكن البحر ليس لنا. أرى أحيانا بعض الناس لهم عيون ضيقة و قامات قصيرة و لونهم لا يشبه لوننا. لكنهم طيبون و لا نعرف بأي لغة يتحدثون لكنهم يصطادون سمكا جميلا ملونا و نشيطا، و يأخذون معهم ذلك السمك الذي سرقنا منه صندوقا. ”
ويستدرك بعد هذا، وبنوع من القصد المضمر ليشير إلى الفساد الاجتماعي والسياسي، ويشير إلى الوعود الكاذبة التي يقع تحت طائلتها هؤلاء المحرومون، يقول السارد : ” لكننا، على كل حال، قد حصلنا على الاستقلال، وأصبحت الأرض لنا، وأيضا أصبح لنا وزراء مغاربة وسمعت واحدا منهم ذات يوم يخطب (..) وقال لنا بأنه ينوي أن يهدم البراريك التي نسكنها، ويبني لنا عوضها دورا فيها مراحيض ولها نافذة واحدة تدخل منها أشعة الشمس، لكن لم يعد منذ ذلك اليوم إلى تلك الساحة.”
يبين هذا المقطع بطريقة أو بأخرى، حالة النسيان التي يعيشها هؤلاء المحرومون الذين يعانون التهميش والقهر الطبقي ويسكنون البراريك في هوامش المدن، مستغلين من طرف أصحاب النفوذ بالوعود الكاذبة.كما أن زفزاف من خلال تطرقه لقضية ما بالوصف والتصوير ورصد الهموم والأوضاع المتردية والمعاناة اليومية- كما هو الحال بالنسبة لقصتي ” الكناس” و “النباش”- سعى إلى التنبيه لهؤلاء وإيجاد حلول لما يعانونه بالمقارنة مع الآخر المتقدم ، وهو نلمسه في قصة ” الكناس”، يقول السارد: ” قالت له احدى بناته بأن الكناسين في لندن يتقاضون راتبا جيدا. وكم تمنى لو كان كناسا في لندن.”
لاشك أن هناك العديد من الدلالات والمعاني لمفهوم الكناس في هذه القصة، وهو أمر لخصه السارد بالقول: ” فهناك من يريد أن يعيش في الأزبال وهناك من يريد أن يعيش بين الأزهار والبراعم. هناك حشرات سوداء قذرة وهناك فراشات جميلة” فمن هذا القول، نستنتج أن هناك من يعيش في الأزبال لأجل أن يقتات منها تارة، ويزيلها ويحاربها لمضراتها ومخاطرها تارة أخرى. وهناك ينأى عن ذلك ويسعى إلى كنس جيوب المواطنين ونهبها.
من هنا، نقول إن زفزاف قد أدلج نصوصه القصصية، ذلك أن مضامينها ذات الأسلوب الواضح والمباشر تحمل الكثير من الدلالات والمعاني الخفية التي تبرز أنها حاملة لإيديولوجيا صاحبها الذي ينتقد الواقع ويسعى إلى تغييره عن طريق الفكر والإبداع.
ولعل ما يزكي انتقاد الكاتب للواقع ودفاعه عن فئة المحرومين والمهمشين قصة ” عندما يصير الرجل حمارا”، والتي تجعلنا نقف مشدوهين أمام الاستغلال والذل والمهانة التي تصل إليها الذات الإنسانية في سبيل قوتها اليومي، حيث عوض الإنسان الحيوان، وتم تبادل الوظائف بينهما، فصار الإنسان هو الذي يجر العربة عوض الحمار، في مشهد مقرف يبين الاستغلال الذي يعانيه هؤلاء في مقابل دريهمات معدودة، فتضيع الكرامة الإنسانية وتذل، لا بل تصير في الحضيض. أمر تأكد في قصة ” جريمة أخلاقية”، حيث عانت شخصيتا ” خديجة” و ” حبيبة” العاهرتين من التسلط واستغلال النفوذ، ووقوف المال حاجزا أمام العدالة عندما اعتقلتهما الشرطة دون أن تعتقل الضابط جون صاحب المال الذي كان ينوي استغلالهما جنسيا عن طريق إغرائهما بالمال مستغلا معاناتهما النفسية والمادية والاجتماعية والتناقضات التي تحيط بهما.
انطلاقا من كون أن القصة القصيرة ” جنس أدبي “إشكالي” بطبيعته، لا يمكن أن ترتع أو تترعرع إلا حيث تتأزم الأصول ويتكدر الإنساني. لا يمكن أن تعيش إشكالها الخاص إلا حيث يكون إشكال ما.” نجد أن الكتاب القصاصين ولكي يعبروا عن هذا الإشكال يستعينون بشخوص معينة ليلبسوها ثوبا يعبرون من خلاله عن موقفهم من هذا الإشكال فيحللونه وفق طرق وصيغ معينة.
بتمعننا في المجموعة القصصية ” العربة” نلفي أن الخيط الناظم بين قصصها هو كونها تتخذ غالبيتها من شخوص كادحة و هامشية أبطالا لها، فنلحظ أنها تعاني الويلات، كيف لا ؟ وهي الفئات المحرومة من وسائل الإنتاج التي تعيش التهميش والقهر الطبقي، وتعتمد على جهدها الخاص لتوفير لقمة العيش.
لاشك أن زفزاف ناب عن الطبقة الكادحة المهمشة، واتخذها بؤرة عمله، لذلك منح هاته القصص عن طريق السارد شخوصا تنتمي إلى هاته الفئة لتنقل همومها. من ثم، عبر بشكل عضوي عنها. فأصدر موقفا إيديولوجيا وتحيز لها بشكل جلي، وطبعا هذا ما نلمسه في شخصيات من قبيل: بائعة البرتقال الضاوية، والأطفال المتشردون، والكناس،و النباش، وعلي الذي اعتقل في قصة “مظاهرة”، وغيره من الشخوص التي بدت مكافحة تأبى الاستسلام، تصارع الحياة بمختلف مناحيها. ولا أدل على ذلك إبراهيم المعاق المتسول وغير القادر على المشي، حيث يتسول من أجل العيش، يزحف يصارع الناس ونفسيته المهزومة، ووضعيته الاجتماعية المكلومة، يسمح بالذل والمهانة من أجل أن يعيش ويحمي نفسه، وهو ما تجلى لنا في طلبه (إبراهيم) سيارة أجرى – بعد نزول الليل وعدم مجيء كلثوم إليه من أجل أن تنقله لكوخه- فأهانه سائق السيارة وشتمه بعد أن عجز عن تأدية الأجرة، ورضي هو بالأمر. يقول السارد: ” وعندما توقفت السيارة قرب كوخه أقسم إبراهيم للسائق أنه لا يملك قيراطا فتركه هذا الأخير وهو يلعن، وأخرج رأسه وبصق عليه ودمدم كالرعد بكلمات بذيئة وشعر إبراهيم لذلك بكثير من الارتياح، فتحمل اللعنات فهي أحسن على كل حال من إنفاقه كذا من الفرنكات.”
إن بؤس هذه الشخوص يبرز من طبيعة أكلها وشربها، إذ منهما يتبدى لنا القهر وتظهر معه حالة الحرمان التي يعيشونها ” زحف إلى برادة الماء ملأ مربى تقوم لديه بمثابة الإناء، وشرب منها حتى ارتوى ثم غسل وجهه ويديه، وتراجع الى الوراء حيث توجد كومة من الخرق البالية، وبعثرها ليخرج منها على الفور كسرا من الخبز وأخذ يقضمه كحيوان أليف.”
بذلك، يبين المقطع مدى المعاناة النفسية والجسدية والمادية التي تعانها هذه الشخصية، ولاشك تعانيها شخوص أخرى في قصص هذه المجموعة الآخذة في التحدي، ونذكر في هذا الصدد: الكناس، فمن البدء يعلن العنوان عن هوية الشخصية، ليعرج بالحديث عنها وعن همومها ومصاعبها. نفس الأمر تؤشر إليه شخصية النباش التي تؤنس نفسها بالعيش في الحلم تحلم بغد مشرق قد يسعف في تحقيق الرقي الاجتماعي. يقول السارد: ” أحلام النباش كثيرة بقدر القمامات التي نبش فيها. وهو يعرف أن كثيرا من النباشين أصبحوا الآن يملكون شركات ودكاكين يبيعون فيها السلع المستوردة ولهم علاقات مع رجال في الدولة ويسهلون له بيع السلع المهربة.”
بالإضافة إلى هاته الشخوص المهمشة تزخر المجموعة بنوع آخر من الشخوص هي شخصية البورجوازي الصغير المثقف، ونمثل لذلك بشخصية علي المثقفة في قصة ” مظاهرة”، والتي دخلت السجن بمعية آخرين لمشاركتها في مظاهرة ذات عمق إيديولوجي وسياسي.
نستنتج من كل هذا أن غالبية شخوص المجموعة عكست لنا موقف الكاتب زفزاف الذي عبر عن عدد من التناقضات الموجودة في المجتمع والهموم التي يعانيها أفراده، مع العلم أنه حاول أن يخفي شخصه، إلا أن وجود ضمير المتكلم في بعض القصص، مثل ” سردين وبرتقال” و ” عربة النساء” و ” السلاح”أسعفنا في القول بأن القاص عكس لنا انتماءه الروحي لهذه الطبقات الكادحة.
لا جدال أن المكونات الفنية قد تضافرت لخدمة تيمات ومواضيع المجموعة القصصية. ويدخل في هذا الصدد أيضا الحوار، حيث استعان السارد بالحوار المباشر الصريح مما أتاح للشخوص أن تحاور بعضها البعض لتخلق جدلية في ما بينها مليئة بالصراعات والتطاحنات الطبقية( ص:11، ص:84-85).
وبحديثنا عن طبيعة المكان ووظيفته والدلالات التي يتخذها في علاقته بالشخوص التي ترتاده، يظهر أن القاص السارد لم يخرج في مجموعته القصصية عن ذكر الأمكنة التي تخدم موضوعه. وهي أماكن ارتبطت أكثر بالشخوص المرتادة لها، فحصل نوع من التأثير والتأثر، بهذا نجد أماكن من مثل: الكوخ، المقهى، الشارع، مواقع الأزبال، الزنزانة، الشارع، وغيرها.
لقد حضر مكان الكوخ بقوة ليبرز لنا طبيعة المكان الذي يحتضن هاته الفئة من المجتمع المنسية التي تعيش قساوة وظروفا صعبة. يقول السارد في قصة ” عربة الأطفال”: ” كان مرميا في زاوية من الكوخ وعيناه تبحلقان وتدوران كعيني الحرباء. وأخيرا قرر أن يتحرك.. فتحرك ثم وقف وسط الكوخ وأخذ يفرك عينيه وجبهته ووجهه جميع.”
من هنا جاء ذكر الكوخ ليعكس حجم المعاناة داخله والتي ارتبط فيها الاجتماعي بما هو نفسي وغريزي ليصير ملاذا لممارسة الجنس كما هوا لحال بالنسبة لإبراهيم مع كلثوم المرأة المتشردة التي يقول عنها: “إن هذه المرأة المشردة تحب النوم كثيرا. سننام حتى نشبع.”
نلحظ أيضا أن الشارع اكتسى أهمية خاصة عند شخوص هذه المجموعة. إنه فضاء مفتوح يعد مقر عمل الكناس، تنظيفه هو الذي يبيح له توفير المال والعيش الكريم، كما أن الشارع مصدر رزق المتسول إبراهيم، وكذا النباش الذي ينبش في الأزبال وهي ملقاة في الشوارع.
تحضر الزنزانة أيضا في قصة ” مظاهرة” باعتبارها الفضاء المقيد لحرية الفرد والمانع لتحركاته، إلا أنها صارت مرتعا للتمرد والاحتجاج عندما احتضنت فئة من الشخوص التي لا تهاب المكان باعتباره رمزا للعقاب، وإنما تعتبره المحفز على الصمود والتحدي بحكم أنها صاحب مواقف سياسية وفكرية وإيديولوجية.

تركيب عام:

بذلك، تضافرت العديد من المكونات لخدمة تيمات وموضوعات المجموعة القصصية “العربة” المأخوذة من الواقع المعيش لتعبر عن أفكار إنسانية واجتماعية وإيديولوجية وسياسية تصب في التنبه لطبقة الكادحين والمهمشين. ولعل هدا ما نلحظه من طبيعة اللغة المستعملة من طرف الكاتب’ حيث نلفيه استعان بألفاظ وعبارات ومفاهيم موحية بكل ما ذكرناه سلفا، من مثل. الكناس، النباش، جريمة أخلاقية، مظاهرة، وغيرها. فجاءت معبرة عن الموضوع، إن لم نقل في صميمه.

أستاذ باحث،

المصادر والمراجع

زفزاف (محمد)، العربة، دار الآداب بيروت،ط:3، 2004.
العوفي(نجيب)، مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية من التأصيل الى التجنيس، المركز الثقافي العربي، ط:1، الدار البيضاء، 1987.
تحولات القصة بالمغرب، مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، مختبر الدراسات حول القصة الترجمة، طبعة 1، 2010.


الكاتب : جمال الفقير

  

بتاريخ : 17/07/2020

أخبار مرتبطة

ينظم المعهد الفرنسي بفاس، يوم 26 أبريل، لقاء أدبيا مع الكاتب جيلبيرت سينوي، حول إصداره الأخير «رائدات وبطلات تاريخ المغرب».

هيا اغتسل أو تيمم وصل واقفا على الطفل الشهيد الملثم ما قال آه ساعة الذبح أو راح هاربا بجرحه يتألم

لنبدأ بلون الغلاف والعنوان، وبعد ذلك نحاور العمل، الذي سمى نفسه نصوصا نثرية، للفنان والشاعر والروائي المصطفى غزلاني. كما يبدو،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *