بلاغة اللغة السينمائية المقترحة في «بيت الحجبة» نابعة من صميم الموضوع الذي يطرحه الفيلم
يشارك فيلم «بيت الحجبة»، وهو الأول للمخرجة والباحثة في مجال السينما، جميلة عناب، في المسابقة الرسمية للفيلم الوثائقي بالمهرجان الوطني للفيلم المقام في طنجة من 27 نونبر إلى 4 أكتوبر 2023؛ وهو الفيلم الذي يطرح على مستوى لغته واختياراته الجمالية جملة من القضايا المرتبطة بالوثائقية والتخييل، فضلا عن العناصر التقنية المؤثرة في موضوع الفيلم، خاصة أنه يتصل بموسيقى كناوة وعوالمها الموازية، بل تحديدا بتلك العلاقة الغامضة التي تربط «المعلم الكناوي» بآلته الموسيقية (السنتير) على مستوى الصنع والتعميد والاشتغال.
في مايلي نص الحوار مع المخرجة:
– ما يسترعي الانتباه، أولا، في فيلمك الوثائقي الأول، هو العنوان: «بيت الحجبة»، لماذا هذا العنوان تحديدا، وما علاقته بموضوع الفيلم؟!
– قبل الحديث عن العنوان (بيت الحجبة)، أريد أولا الحديث عن الفيلم. هناك من سيعتبره حكاية عن كناوة، والحال أنه يتحدث عن «تاكناويت» في بعدها الروحاني والطقوسي والأسطوري، ليس كممارسة موسيقية كما جرت العادة كلما تحدثنا عن كناوة، بل كعلاقة لا يمكن تجاوزها بين «المعلم الكناوي» وآلته الموسيقية (السنتير أو الهجهوج أو الكنبري). استرعى انتباهي ذلك الانصهار الضروري والحتمي بين «المعلم» و»الآلة»، ذلك أنه لتتحقق «تاكناويت» في «الليلة» الكناوية الموعودة (الطقس الاحتفالي الأبرز عند كناوة)، لا بد أن ينجح المعلم في صنع آلته بنفسه، ويجعلها تمتلئ بالأرواح على اختلاف أنغامها وتنال «بركتها»، وإلا فإن الآلة ستكون فاسدة أو غير مكتملة، ولن يستطيع المعلم أن يجعلها «تتكلم» اللغة التي يفهمها «لمْلوك». ومن ثمة، فإن العلاقة بين الطرفين لا تبنى على أي قيمة مادية أو عقلانية، بل على ما يقع في «بيت الحجبة»، ومن هنا جاء عنوان الفيلم. «بيت الحجبة» هو معزل مقدس يُحجب داخله آلة السنتير لمدة سبعة أيام (عدد المْحَلات والألوان) حتى تمتلئ، ولا يمكن لأي كان اقتحامه عدا «المعلم/ الصانع»، وإلا فإن «الامتلاء» سيفسد، وستهرب الأرواح من ذلك المكان الذي وقع تدنيسه، حسب الطقوس الكناوية. وبمعنى من المعاني، فإن «بيت الحجبة» هو المكان الذي يتحقق عبره الانقطاع. المكان الحقيقي، بينما كل الأمكنة الأخرى امتداد له بشكل غير محدد. إنه النقطة الثابتة والتوجه المركزي لكل توجه آخر، حسب ما يراه الأنثروبولوجي الفرنسي مورسيا إلياد في كتابه «المقدس والدنيوي». هذا هو سبب اختياري لـ»بيت الحجبة» عنوانا للفيلم، أما علاقته بالحكاية فتكمن أساسا في أنه حاضن للامتداد المتجانس واللانهائي بين المعلم والآلة، كما أن له قيمة وجودية مهمة، إن لم تكن الأهم على الإطلاق في هذا التوجه الطقوسي لدى كناوة، كما يحكيها الفيلم.
-الفيلم تتجاذبه حكايتان: حكاية المعلم الصديق، وحكاية تودا. ما هي العلاقة التي يؤسسها الفيلم بين الحكايتين؟!
– بالفعل، هذا الفيلم تتقاطع فيه حكايتان، الأولى وثائقية، والثانية تخييلية، رغم أنني أتحفظ على هذا التمييز. إذ لا وجود حقيقي لفيلم وثائقي خالص أو لفيلم تخييلي خالص. هناك تمازج عميق أو توحد عضوي بينهما تتيحه السينما أو لغة السينما. وهذا ما يراهن عليه هذا الفيلم، أي جعل التخييل جزءا لا يتجزأ من الوثائقي، وجعل الوثائقي في قلب العمل التخييلي، كيف ذلك؟ لقد وضعت حكاية تودا كمكون حكائي تخييلي لإضاءة الحكاية الإطار (حكاية المْعَلم الصديق الذي يشرع في صنع آلة سنتير أخرى بعد تعرض آلته الأولى للتلف). إن حكاية تودا، المرأة الأمازيغية الحامل، التي ترمز للأنوثة، والخصوبة، والأمومة والامتداد… هي كذلك امرأة تمارس حياتها المعتادة، بين بيع الحليب وأشغال البيت، ورعي الماعز، والاعتناء بزوجها المريض والتزين له. ليست إلا مرآة غير مجلوة أو استعارة أو انشطارا أو تقعيرا لحكاية «الصديق، وكلتا الحكايتين تعملان جنبا إلى جنب، من أجل كشف المحجوب، سواء أكان «سنتيرا» أو «صبيا». ذلك أن الاكتمال الروحي للسنتير يتحقق أيضا لحظة ميلاد الطفل ميمون (أي خروج الاثنان إلى الحياة)، مع كل ما يعتري هذا الميلاد من صعوبات.
-هل يمكن أن نقول إن حكاية تودا، المرأة الحامل التي تنتظر مولودا، هي ظل لحكاية المعلم الصديق الذي ينتظر مولودا من نوع آخر: الآلة الموسيقية (السنتير)؟
– نعم. بكل تأكيد. قصة تودا في الفيلم تحضر بوصفها أليغوريا، أي أنها تكشف في تفاصيلها الدقيقة، صور مجازية يتيحها الفيلم (تشبيه وكناية واستعارة… إلخ). ولذلك، يمكن النظر إلى حكاية تودا، لا باعتبارها حكاية موازية، بل بوصفها حكاية ذات طابع رمزيّ أو تلميحيّ، أي لا بد من التعامل مع شخوصها وأزيائها وأعمالها وحركاتها بوصفها علامات. فالأليغوريا تضم دائما، بحسب ميشيل أكيين، مظهرين: مظهرا مباشرا حرفيّا، ومظهرا ثانيا يتمثل في الدلالة الأخلاقيّة أو النفسيّة أو الدينيّة. فتودا، مثلا، امرأة قروية تنتظر مولودا، والأمر نفسه نجده في الحكاية الإطار. ذلك أن الصديق ينتظر ميلاد آلته الموسيقية (السنتير). كما نلاحظ في كلتا الحكايتين حضور مجموعة من العناصر: الحليب، الدم، الجدي، الليلة.. إلخ. وتبعا لذلك يمكن القول إن دلالة الفيلم، الذي يريد أن يجعل اللامرئي مرئيا، تنشأ داخل عالم تخييلي لمكوّناته أبعاد رمزيّة أو لنقل مع ميشيل أكيين هي «صورة تنجم في سياق سرديّ ذي بعد رمزيّ».
– هل يمكن القول إن تشكل السنتير، عبر مراحل صنعه وتعميده، ليس إلا ذريعه للحديث عن شي آخر أكثر عمقا؟ وبمعنى آخر، هل يحاول هذا الفيلم، حتى وهو يمزج بين التخييلي والوثائقي، إبراز الجانب الروحاني لموسيقي كناوة، أو على الأقل لآلة السنتير على وجه التحديد؟
-أكرر أن الفيلم لا يتحدث عن موسيقى كناوة، ولا يدعي ذلك. كل ما يمكنني قوله هو أنه فيلم يحاول إبراز العلاقة العضوية بين «المعلم» و»السنتير»، وذلك على أساس لغوي وبلاغي يميل إلى مفهوم التقارب والتشابه والتماثل. لقد سمح لي البحث الذي قمت به على هذا المستوى أن أدرك أن «السنتير» ليس آلة موسيقية فقط، إنه إن شئنا شيء آخر يعرفه الراسخون في «تاكناويت». هو امتداد لجسد المعلم وتعبير ظاهري وباطني وحرفي ومجازي عن كينوته. آلة حية تتكون تدريجيا، وعبر مسار زمني سحري، في «بيت الحجبة» (الرحم)، ولا يمكن أن تمتلئ بالموسيقى (الأرواح) إلا إذا نجح عبورها واستواؤها عبر مجموعة من الطقوس الوثنية الخاصة، وإلا فإن «التكوين باطل» كما تحدد ذلك الأسطورة الكناوية، فأي خطأ في العبور يعني فساد الآلة وبطلان إمكانية العزف عليها، وإلا فإن «المْلوك» سيثورون وسيغضبون.
– يحضر في الفيلم الحليب والدم، البحر والغابة، المدينة والكهوف أو الخرائب، المعلم وانعكاسه (المعلم الشيخ السوداني)، الوجوه والمرايا، الماء والتراب.. ما دلالة حضور هذه الثنائيات؟
– لا شك أن ارتكاز الفيلم على الثنائيات المتضادة يطرح بقوة مسألة الوعي بالبُنى الرمزية للثنائيات، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالمعتقدات الشعبية والأساطير التي ترتبط عادة بما تحتويه العناصر المادية من رمزية. فالسنتير في المعتقد الكناوي ليس مجرد مادة، بل ينبغي أن تكون له روح، التي بدونها لن يتحقق وجوده المادي، أو على الأقل الغاية من وجوده.
وتكمن أهمية الثنائيات، في رأيي، في إقامة توتر درامي بين مكونَين يحتاج أحدهما إلى الآخر لبناء قوة تعبيرية. في هذا الفيلم نعثر على برنامج ثنائي كثيف (الحليب/الدم؛ الفأس/الشجرة؛ النهار/الليل؛ الرجل/المرأة؛ الحياة/الموت؛ الحيوان/الإنسان؛ السماء/الأرض؛ الله/الوثن؛ البادية/المدينة؛ أعلى/أسفل؛ الطهارة/الخطيئة.. إلخ). ولذلك، فمن الواضح أن ترتيب مادة الفيلم على أساس الثنائيات عمل واع جدا، لأنه هو الذي يسمح بالتركيب المثالي لما يطرحه الفيلم الذي يتكئ في العمق على أسطورة الخلق. وعلى هذا الأساس، لا يمكن الفكاك على الإطلاق من إنتاج تصورات ترتكز على تقاطب الأضداد الذي يفرض الصراع والمواجهة.
مثلا يمكنك أن تلاحظ حضورا بارزا لثنائية الحليب والدم. فالحليب عنصر ينطوي على رمزية كثيفة تتصل بمعتقداتنا وتخيلاتنا حول الحياة (حليب الشجرة في بداية الفيلم، حليب الرضاعة…)، بينما يحضر الدم من خلال الرمزية المحيطة بسفك الدم الحيواني (الأضحية: الجدي). وعلى هذا المستوى يشترك العنصران أيضا في إبراز الرمزية التي يجسدها القربان على مستوى الممارسة الكناوية، إذ لا يقع التعميد إلا بواسطة الحليب والدم. تعميد السنتير، وتعميد العازفين وآلاتهم، وتعميد أركان (الليلة الكناوية).
– ويمكن على هذا المنوال أن تحلل رمزية الثنائيات الضدية التي يحفل بهذا الفيلم. وهي كثيرة..
– لا شك أن هذا الفيلم يحتاج إلى متلقي من نوع خاص، أي إلى متلقي مطلع وذي ثقافة عالية. أليست هذه مخاطرة منك؟
نعم، أعترف بأنني جازفت شيئا ما. لكن هذا اختيار واع قمت به عن عمد وسبق إصرار، لأنني اخترت تصوير فيلم يشبهني ويستجيب لفهمي للسينما. لا أسعى إلى إرضاء المتلقي، بل إلى استفزازه بكتابة سينمائية أخرى تهتم بجعل اللامرئي مرئيا. كتابة تتأسس على البحث والحفر والتقعير، وليس على»ملء الفراغات» و»افتعال المواقف». أتصور أنه علينا أن نجازف بإبداع أشياء قد لا تستجيب لعادات التلقي الفيلمي، كما أتصور أنه علينا أن نجرب «نحوا سينمائيا» آخر. اللغة السينمائية تضج بالممكنات، وعلينا فقط أن نتجرأ على الخروج عن الخط، وأن نكتب ما يشبهنا بالطريقة التي تحلو لنا. أما الوصول، فإنه لن يتحقق إلا إذا عرفنا كيف نخطو في الطريق. وعلى هذا الأساس، يمكن للبعض إدراج فيلم «بيت الحجبة» في خانة «السينما التجريبية»..
– ما معنى السينما التجريبية؟ وما هو «النحو السينمائي» المختلف الذي تقترحينه على متلقي فيلمك؟
– لا أريد أن أخوض في إشكاليات المصطلح، ولا في السياقات المعرفية التي أنتجته دوليا، إذ يتداخل في هذا الأمر ما هو سينمائي بما هو اقتصادي أو جمالي أو إيديولوجي. حسبي أن أقول، إن «السينما التجرييبة» تتصل بحرية الإبداع، وبالانفتاح على معارف وأشكال تعبيرية أخرى. مثلا، ترفض السينما التجريبية سيطرة الحكاية الخطية، وتتوافق مع انفتاح السينما على كلّ الأنواع الأدبية الأخرى، والموسيقية، أو التصويرية، بل انفتاحها على الوسائط والتكنولوجيات الجديدة، كفن الفيديو، والفن الرقمي، وأيضا انفتاحها على التأمل والتفكير الفلسفي.. إلخ. إن اللقطة، تأسيسا على معاييرها الجمالية، هي الدعامة الأساس للفيلم أثناء تشَكُله لبناء المعنى. لا شيء يترك للصدفة، وكل شيء يقدم نفسه فقط جزئيا، لخدمة الحبكة أو البناء العام الذي بإمكانه أن يكون انشطاريا أو متشظيا، أو حتى ملتبسا ومحجوبا.
– من الملاحظ أنك اعتمدت بشكل كبير على اللقطة الثابتة، كحامل أساس للغة السينمائية التي تقترحينها على المتلقي، لماذا اللقطة الثابتة، وكيف تعمل من أجل إبراز التطور الدرامي داخل الفيلم؟
– ملاحظة جميلة، وأنا سعيدة جدا بها. فالاعتماد على اللقطة الثابتة اختيار جمالي مفكر فيه، وربما نظرا لتأثري بأفلام من السينما الإيرانية وأروبا الشرقية؛ لكن مع ذلك هناك انتقال ملحوظ داخل الفيلم بين أنواع اللقطات (لقطات واسعة/ ضيقة/ علوية/ سفلية)، وهذا يبرر اختيارنا الجمالي بصفة عامة، فاللقطة الثابتة مثلا اختيار يخص اللقطة البعيدة، لكن الثبات هنا خادع، لأن هناك مجموعة من العناصر الداخلية تتحرك داخل الإطار، وإن كان ذلك يتم بإيقاع بطيء يعكس إيقاع الشخصية. وهذا ما يغلب في اللقطات التي تظهر فيها المرأة الحامل تودا، وأيضا في اللقطات التي تظهر المعلم الصديق في خلوته بين الخرائب على سبيل المثال. لقد اخترت أن يكون السرد متنوعا ومبنينا. وهذا لا يعني على الإطلاق أنني ضد اللقطة القريبة إذا كان يفرضها الموضوع. وبالفعل، فقد لجأت إليها في مشهد احتراق السنتير، وأيضا للتوقف عند بعض تفاصيل نشوء (السنتير).
ونظرا لأن الفيلم يصور عالمين أو حكايتين متوازيتين، فإن عنصر الضوء يكتسي أهمية بالغة في الكتابة الدرامية للفيلم، خاصة أن الموضوع مرتبط بطقوس روحانية (التطهير، الليلة، الحجبة….)، وهي الطقوس التي تغلب عليها الحلكة أو الإضاءة الخافتة أو القوية. أما أهمية الصوت، فهو عنصر فيتمثل، تعبيريا في الصمت، والأصوات المحيطة وصوت السنتير وباقي آلات كناوة دون الاعتماد على أي موسيقى تصويرية أخرى خارجية أو مضافة.
وبطبيعة الحال، فإن بلاغة اللغة السينمائية المقترحة نابعة من صميم الموضوع الذي يطرحه الفيلم، وكل الاختيارات مفكر فيها على مستوى دقيق وقبلي.
-هل معنى ذلك ألا مجال للصدفة أو اللامفكر فيه بخصوص الاختيارات الفنية والجمالية داخل هذا الفيلم؟
– لا، إطلاقا. عندما أتحدث عن الاختيارات الفنية والتقنية، فهذا لا يعني أنها اختيارات مغلقة ولا تتعرض للتعديل. لا ينبغي أن ننسى أن للفيلم حياته الخاصة التي بإمكانها أن تفرض على المخرج التعديل والتحويل والتغيير أثناء التصوير، بل أيضا استقبال «العطايا الإلهية» التي لم تكن تخطر لك على البال. السيناريو بالنسبة لي كان مجرد خطاطة، ولا شيء معد سلفا بالمعنى الحرفي والصارم للكلمة.
يمكنك أن تشعر أثناء التصوير أن السيناريو في نهاية الأمر ليس سوى «تشويرا» للحفاظ على خط سير جيد، أما ما يحدث عند الشروع في التصوير فشيء آخر. هناك أشياء تفرض نفسها، الأمكنة والألوان والطقس والممثلين والمواقف، وأحيانا ما يحدث «خارج الإطار»الذي اخترته. هذا ما يمكن أن نسميه «العطايا الإلهية» غير المتوقعة.
وفي النهاية، أعتقد أننا لا نصور دائما ما نفكر فيه أو ما خططنا لتصويره، إذ نستطيع القول، إن الفيلم يتشكل من تلقاء نفسه لحظة تشكله في كل المراحل. وهنا لا أريد أن أتحدث عن الانشغالات الشكلية والجمالية التي ترافق المخرج أثناء التصوير أو أثناء المونتاج والميكساج..