المخرج الأمريكي تيرانس ماليك: صائد الارتباك وشاعر التوحش

لكل فن جوهره الشعري، والسورياليون هم أول من اكتشف هذا الجوهر في السينما حتى قبل السينمائيين أنفسهم. يكتب «لوي آراجون» عام 1918:
«إذا كانت السينما اليوم لا تكشف عن حقيقتها، أو ما ينبغي أن تكونه بوصفها استحضارًا قويًا لروح الشعر حيث يتحرر شعر الشاشة من فوضى الاقتباس المسرحي، فذلك لأنها لا تزال تعيش طور طفولتها. الفيلم لم يدرك بعد خاصياته الفلسفية، رغم أنه أحيانًا يمتلك وعيًا حادًا بجماله. كنت أتمنى أن يكون صانع الفيلم شاعرًا أو فيلسوفًا».
تحقق سينما «تيرانس ماليك» أمنية آراجون، فأفلامه تطمح إلى مقام الفلسفة وتحلق في سماء الشعر. «ماليك» القادم إلى السينما من أرض الفلسفة كان مفتونًا بالفيلسوف الألماني «هايدجر»، نقاد «ماليك» طالما رأوا أفلامه تجسيدًا سينمائيًا للتيمات الكبرى في فلسفته.
السؤال الأساسي في فلسفة هايدجر، هو سؤال الوجود، وجود الإنسان في العالم وعلاقته بالطبيعة في داخله ومن حوله. يرى هايدجر أن الوجود الإنساني موسوم بالغرابة. الإنسان المقذوف وسط العالم باتجاه الموت يناضل من أجل خلاصه. يرتبط الوجود في العالم لدى هايدجر بحالة من الشرود والتيه، شعور الكائن بأنه ليس في بيته، بأنه غريب. ربما هذا هو الوصف الأمثل لأبطال «ماليك» فهم تائهون داخل أنفسهم وداخل الوجود، ضائعون بين السماء والأرض كلما لامست أقدامهم أرضًا صارت هواء.
لا يتوقف أثر هايدجر على ماليك عند هذا الحد، فأغلب الظن أن اتجاه «ماليك» نحو السينما جاء أيضًا بوحي من كتابات هايدجر. في محاضرة لهايدجر بعنوان «ما نفع الشعراء؟» مستخدمًا أشعار «هولدرلين»، و«ريلكه» كأساس لتأملاته، يستعير شطرًا شعريًا لشاعره المفضل «هولدرلين»: «ما نفع الشعراء في أزمنة الوحشة؟» وأزمنة الوحشة عند «هايدجر» هي أزمنة أغتراب وتيه ليس لأفول آلالهة في زمن الحداثة بل لأن الإنسان قد نسي نفسه، تناسى محدوديته وفناءه، أضاع الأرض التي يقف عليها فضاع في الوجود.
ومهمة الشاعر أن يعيدنا إلى أنفسنا، يردنا إلى ما هو طبيعي فينا وحولنا، ما سلبته منا التكنولوجيا، يذكرنا بآلالهة الآفلة. ستجد في سينما ماليك صورًا تتكرر بشكل استحواذي، صورة أشعة الشمس تتخلل أوراق الأشجار، التماع الضوء على المياه، لقطات مصورة من تحت الماء ترى السماء، طائرات تعبر السماء، بالإمكان أن ترى في هذه الصور ما يشير إلى الإلهي، أو ما هو طبيعي، أو ما هو أصيل وحقيقي في هذا العالم، فهي تحتمل كل ذلك أو مثلما تقول الناقدة الأمريكية «بولين كايل» واصفة صور تيرانس ماليك: «إنها أشبه بشجرة أعياد ميلاد خالية يمكنك أن تعلق عليها ما تشاء». هكذا يترك ماليك الفلسفة مضطلعًا بمهمتة كشاعر بإمكانه أن يعبر عن ليل العالم واغتراب الإنسان، واختار لشعره وسيطًا ربما لم يخطر ببال «هايدجر» هو؛ السينما.

أين تكمن شاعرية
«تيرانس ماليك»؟

تقول المخرجة الطليعية مايا ديرين
دائمًا ما توصف سينما «ماليك» بالشاعرية، لكن من أين تنبع هذه الشاعرية؟
يمكننا أن نقسم الشاعرية عند «ماليك » إلى قسمين شاعرية غنائية (مرتبط بالتعبير عن مختلف المشاعر والعواطف الإنسانية)، وشاعرية بصرية. الشاعرية الغنائية عند «ماليك» هو استخدامه المكثف للتعليق الصوتي من خارج الكادر، وهو ما يمكن أن نعتبره بصمة ماليك السينمائية، هذه التعليقات تماثل ما تسميه المخرجة الطليعية «مايا ديرن» بالحركة الرأسية لما هو شعري، فهي لا تدفع الدراما للأمام بل تضيء روح هذه اللحظات، وهي لحظات تجسد التيه الذي يضرب أعماق هذه الشخصيات، كما تعزز حالة اغتراب ووحدة هذه الشخصيات فهي موجهة في الأغلب لشخص غير مرئي كأنها لا تجد ما تتواصل معه داخل الفضاء الفيلمي فهي تأتي من خارج الكادر وتذهب خارجه أيضًا كصلوات ضائعة.
كذلك محاولة الإمساك بالعواطف المضطربة في دواخل الشخصيات التي يمنحها ماليك صوتًا داخليًا وهي شخصيات يستخدمها ماليك كذريعة لتقديم رؤيته الذاتيه للعالم بما يتماثل مع تعريف «بازوليني» في نظريته عن «سينما الشعر» لما سماه: «الخطاب الحر غير المباشر» كأحد مكونات اللغة الشعرية. يمنح «ماليك» صوته الخاص في فيلميه «الأراضي الوعرة»، و«أيام الجنة» لفتاتين مراهقتين تتسم رؤيتهما للعالم بسذاجة طفولية وبراءة مفرطة تجعلهما عاجزتين عن فهم قسوة العالم.
بعد «أيام الجنة» يختفي «ماليك» عن السينما عشرين عامًا قبل أن يعود بتحفته «الخيط الأحمر الرفيع» فيها يتوزع الصوت الداخلي بين عدد من الشخصيات، يعبر الصوت عن رحلتهم الداخلية لاكتشاف جوهر وجودهم في هذا العالم. وإن ظل صوت «ويت» هو الأكثر حضورًا وهو على الأرجح صوت ماليك المحمل برؤيته الخاصة للعالم. ما زال «ويت» يؤمن بالضوء رغم كل الظلمة المحيطة. يقول ويت: «أرى عالمًا آخر، أحيانًا أظن أنه غير موجود إلا في خيالي. يرى رجلًا طائرًا يحتضر فيظن أنه لا يوجد شيء في هذا العالم سوى ألم لا جواب له وحيث الموت يكتب كلمة النهاية، رجل آخر يرى نفس الطائر فيشعر بالمجد، يشعر بشيء ما يبتسم عبر هذا الموت».
أفلام ماليك تجسد شوقه إلى عالم مثالي لا سبيل إلى بلوغه، شوق الإنسان إلى جنة عدن هذه الجنة نراها متجسدة في المشاهد الافتتاحية للخيط الأحمر الرفيع ولفيلمه التالي العالم الجديد، حيث يصور لنا عالمًا يخلو من أي صراع، وحالة من الانسجام التام بين الإنسان والطبيعة. دائمًا ما تلتهم النار جنة ماليك لكنه يعاود الحلم من جديد.

الشعرية البصرية

الشعر في نظري لا يتشكل عبر خصائصه المميزه كالشكل، والإيقاع، والقافية. الشعر هو مقاربة لخبرة ما، الشاعر ينظر إلى نفس الخبرة/التجربة التي ينظر إليها الكاتب الدرامي لكن من زاوية مختلفة. فبينما تنشغل الدراما بما يحدث في لحظة ما، ينشغل الشعر بنوعية هذه اللحظة وعمقها. الدراما تتحرك للأمام عبر تطور أفقي، بينما الشعر استقصاء رأسي للحظة ما. تخلق القصيدة في نظري شكلًا سمعيًا وبصريًا لما هو غير مرئي مثل عاطفة ما أو المحتوى الميتافيزقي للحظة ما. ربما سيكون الأمر أكثر وضوحًا إذا نظرنا اإى نص شكسبيري يجمع الحركتين معًا. في النص الشكسبيري تتحرك الدراما للأمام عبر «حركة أفقية» حيث يقود فعل ما إلى آخر حتى يصل إلى لحظة ما يريد أن يضيء معناها، أو العواطف الهائجة تحت جلد هذه اللحظة، هنا يلجأ شكسبير إلى الشعر فمونولوجات هاملت الهذيانية «حركة رأسية» لا تؤثر في الدراما ولا تحركها بل هي تكثيف وإضاءة لروح هذه اللحظات.
الرب لا يتحدث مع كل إنسان إلا قبل أن يصنعه، ثم يمشي صامتًا خارج الليل. هذه الكلمات السحابية هي: مع حواسك المرسلة بعيدًا، سر إلى حدود شوقك، انم خلف الأشياء كاللهيب حتى تمتد ظلالها. دع كل شيء يحدث لك: الجمال والفزع. عليك أن تمضي فحسب، ما من إحساس ببعيد. لا تهجرني، قريبة هي البلد التي يسمونها الحياة، سوف تعرفها. أعطني يدك. (راينر ماريا ريلكه – «كتاب الساعات»).
يعيد ماليك إلى الصور نصاعتها التعبيرية التي كانت عليها أيام السينما الصامتة. تجسيدات بصرية مذهلة للطبيعة. تنتمي صور «ماليك» إلى ما سماه بازوليني بـ«الصور الإشارية»؛ صور تنتمي لعالم الذكريات والأحلام وتعمل كخزان رئيسي للصور الشعرية. صور ماليك تنتمي لعالم الذكريات وتتم استعادتها بنوع من الحنين، حنين مفعم بنحيب طفولي. أما بالنسبة للأحلام فنادرًا ما يحلم أبطال ماليك وإذا حلموا يتم التعبير عن الحلم في التعليق الصوتي من خارج الكادر، لكن صور ماليك هي صور حلمية لأنه يصور أبطاله المستلبين من الواقع في حالة أقرب إلى أحلام يقظة لا تنتهي. فسينماه هي سينما الاستغراق في التفكير الحالم.
مصدر آخر للشاعرية في سينما ماليك هو الحضور الطاغي لكاميراه، إنه يجعل الكاميرا تشعر. يمكنك من خلال حركة كاميرا، أن تشعر بتيه شخصياته وترددها.
قال «هولدرلن» ذات مرة عن الشعراء: «إن روحهم تتردد في الأغنية». روح ماليك تتردد في قصائده، قصائده أثيرية وشفافة. ثمة بريق في كل صورة، صور مجنحة تظهر الكائنات بها كما لو كانت أسيرة حلم أبدي. خفيفة كالروح. أشباح جائعة لوجود حقيقي.
يغيب اليومي عن مادة قصيدته، تحتدم قصيدته بشوق أصيل إلى عالم لا سبيل اليه. ليس هناك حافز شعري عند ماليك لأن الشعر يسكن عمق نظرته فالعالم بالنسبة له فردوس مفقود قد أحيط بالظلام والموت.


بتاريخ : 07/08/2021