المخرج السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي:السينما أوصلتني الى المرأة والمرأة أوصلتني الى الحرية

المخرج ميشيل خليفي، مخرج فلسطيني ولد في إحدى قرى الناصرة بالجليل عام 1950، وظلت السينما هاجسًا لديه منذ طفولته، وكذلك القضية التي فطر عليها مثل سائر الوطنيين من أبناء جنسيته، فاتجه في العشرين من عمره لدراسة السينما في المعهد القومي العالي لفنون العرض في بلجيكا، وتخرج فيه عام 1977، بدراسة أعدها عن الأدب والثقافة عند العرب في إسرائيل، وفيلم تجريبي عنوانه «حدود» عن قصة
للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي. وعمل خليفي، في بداية مسيرته المهنية، مساعد مخرج مسرحي في فرنسا، ثم في التلفزيون البلجيكي مؤديًا الوظيفة نفسها، وقدم مجموعة من الربيورتاجات عن فلسطين والحرب في جنوب لبنان،
حتى استطاع أن يحصل على دعم من خمس شركات صغيرة في بلجيكا وهولندا لفيلمه الأول الوثائقي الدرامي «الذكرى الخصبة»، الذي دشن من خلاله مسيرته كمخرج سينمائي. فيما يلي حوار أجراه معه موقع «جدلية»

 

o o كيف بدأت مشوارك السينمائي؟

n n حدث هذا نتيجة لمصادفة! لم يكن هنالك في حياتنا النصراوية ما يفرض أنني سأكون يوماً ما مخرجاً سينمائياً! كل الأفلام التي كنا نشاهدها كانت أفلاماً شعبية تجارية ككل أطفال العالم في الستينيات. هذا ما شكّل لنا المتنفس الوحيد داخل «الجيتو النصراوي» الذي فرضه علينا الاحتلال الإسرائيلي من خلال الحكم العسكري القاسي الذي كان يحرّم علينا الخروج من الناصرة بدون تصريح، فالعالم كان يأتينا من خلال هذه الأفلام وبعض الصحف والمجلات اليسارية.
في مدينتي الصغيرة، كانت هنالك صالة عرض أفلام واحدة لـ 30 ألف نسمة! بالإضافة، طبعاً، لبعض الأفلام التي كانت تُعرض في مدارس الإرساليات المسيحية كبعض الأفلام الفرنسية والأسبانية. أنا كنت أحبّ المسرح منذ صغري، وكنت أحلم بشكل ساذج وليس بمفهوم واعٍ أن أدرس المسرح يوماً ما. في أواسط سنوات الستين شاهدت فيلم “أمريكا، أمريكا» لإيليا كازان (Elia Kazan). الفيلم يحكي قصة عائلة يونانية من تركيا قبل الحرب العالمية الأولى، أي قبل المذابح والتطهير الإثني والديني للأرمن والسريان والعرب المسيحيين، وطبعاً لأعداد هائلة من اليونانيين من قبل السلطات العثمانية أولاً والتركية من بعدها. العائلة تريد تهريب ثروتها مع ابنها البكر الذي يحلم بدوره أن يهاجر إلى أمريكا! هذه العائلة الروائية كانت تشبه إلى حد ما عائلتي، والتي هي من نفس بيئتها: مسيحييون روم أرثوذوكس. وفي الفيلم مشهد خطوبة يشبه تجربة عشتها في طفولتي وهي حفل خطوبة أختي الكبرى. وفوجئت كيف نجح المخرج إيليا كازان بالتقاط حيثية المشهد التي كنت أظن أنني الوحيد الذي عايشها! في هذه اللحظة بدأت نظرتي للسينما تختلف عن قبل، وأدركت أن السينما قادرة على الغوص في عالمنا الداخلي، وأنها ليست فقط سينما للتسلية، بل هي قادرة على التقاط لحظات حميمية ذاتية. إذاً نحن قادرون من خلال السينما على إعادة تركيب ونقل أحاسيسنا الشخصية والغوص في عالمنا الداخلي.
تركت المدرسة وعمري 14 سنة ونصف. اشتغلت في كراج للسيارات لمدة 5 سنوات (2 في الناصرة و 3 في حيفا).
حبي للمسرح دفعني إلى هواية غريبة بالنسبة لعمري، هي قراءة المسرحيات. ربما كانت تعطيني حرية أكبر لتحرير خيالي! وأينما كنت أذهب كان معي دائماً مسرحية أقرؤها. في تلك الفترة لم نكن نعلم أن المعرفة هي رأس مال مودع في رؤوسنا! لقد أصبحت الأشياء تتضح في ذهني بالنسبة لأهمية الثقافة في بناء مشروع وطني\\ثقافي\\سياسي يصل إلى العالمية وأن علينا أن نطور عناصر ثقافتنا ومعرفتنا.

o o حدثنا عن دراستك في بلجيكا.؟

n n لدى وصولي إلى بلجيكا في بداية السبعينات كانت ثورة الشباب الأوروبي في أوجها: ثورة ثقافية تعصف بكل ما هو قديم ومحافظ. وكانت التيارات الماركسية، من كل الاتجاهات السياسية والفلسفية مسيطرة على الفضاء الثقافي والفني والأدبي في أوروبا! في موازاة ذلك، كان هناك في أمريكا الجنوبية، حركة سياسية\\ثقافية تعمل على محو الأمية من خلال مفهوم «ثقافة الفقراء»، تعلمهم الفكر والتفكير من خلال تعلم القراءة والكتابة. في تلك الفترة تكونت عندي رؤية عن ما أحلم به للثقافة الفلسطينية: «ثقافة الفقراء، ضد الفقر الثقافي» ! علينا ان لا ننسى أن سنوات السبعينات كانت أيضاً سنوات حرب فيتنام، وهي مهمة بالنسبة لجيلي، حيث تمكن الشعب الفيتنامي من الانتصار على إمبراطورية عظمى، وأثبت للعالم أنه من الممكن للشعوب الفقيرة أن تنتصر وأن تبدع في السياسة والثقافة والنضال. يجب أن لا ننسى أنه كان انتصار على أكبر دولة في العالم. هنا بدأت أدرك أهمية نقل التجربة الفلسطينية من قضية شعب إلى قضية إنسانية عادلة، وما علي إلّا أن أبدأ بتكوين نفسي فنياً وثقافياً لأصل إلى المستوى الإنساني. إذاً علي البحث عن مفاتيح التعبير الخاص بي والصادر عن تراكم وزخم التجربة الإنسانية الفلسطينية.
أنا أحب الثقافة العربية، وأنتمي إلى حضارات الشرق الأوسط، مهد الحضارات الإنسانية. وفلسطين هي التي أوصلتني إلى حب المعرفة والفن والسينما: فلسطين من خلال السينما أوصلتني الى المرأة والمرأة أوصلتني الى الحرية. هذه هي العناصر الأساسية لأفلامي. أنا أنتمي إلى «هناك» كبرتقالة أزهرت وأينعت في يافا ليس أكثر. ومن الممكن أن نأخذ غصناً واحداً من برتقال فلسطين ونزرعه في أي مكان في العالم، أو العكس، أي أننا نأخذ من هذا العالم لنغني أنفسنا! إذاً الحياة هي تبادل وإغناء لي وللآخر !
أنا أبحث دائما عن أناس يحررون الأشياء: اللغة، الشكل، الفن، السياسة, والفلسفة والتقنيات، ولا يدعوها تتجمد! من المهم تحرير الأشياء وأن نمنحها فضاءً أوسع. فالفكر النقدي هو أساس بناء مجتمع حر وثقافة وذوات واعية ومدركة للعالم المحيط بها.
في بروكسل درست الإخراج المسرحي والإذاعي\\ التلفزيوني. لم أكن أعرف أن السينما فن يمكن دراسته! لكن منذ السنة الأولى، كان شيء خفي في داخلي يشدني نحو زملائي، طلاب الإخراج السينمائي، وبدأت أتطوع للعمل معهم على أفلامي.
في بلجيكا بنيت نفسي وهذبت معرفتي، واكتشفت مئات الأشياء. بدأ عالم جميل وممتع يدفعني لمغامرات لم أكن أحلم بها, وفي نفس الوقت يرجعني إلى عالمي الأول عالم طفولتي النصراوية.
أذكر في إحدى دروس تاريخ الفن البصري، تكلم المدرس عن «الفترة الزرقاء» عند بيكاسو، الرسام الأسباني العظيم وعرض علينا صوراً لبعض اللوحات لتلك الفترة الزرقاء. هناك حدثت صدمة داخلية: في طفولتي المبكرة أذكر أن السلطات الإسرائيلية كانت تفرض منع تجوال ليلي في الناصرة، وتطلب من السكان إطفاء الأنوار من خلال رجال شرطة أو حرس حدود، معهم رجل يصرخ بالعربية «أطفئوا الأنوار» وكان الناس ومنهم والدي يطلون «اللمبات» بمادة النيلي الزرقاء وهي مادة دهان مائي. وكنت أرى اللون الأزرق يطغى على كل شيء، تماماً كما رسم بيكاسو! وهنا تساءلت إذا كان بيكاسو قد عاش تلك التجربة القاسية معنا، أي «الفترة الزرقاء» للشعب الفلسطيني !
في سنوات طفولتي كان الشيوعيون الفلسطينيون يولون أهمية كبيرة للثقافة، الشعر والأدب، وكانت نتائجها بروز شعراء فلسطين المعروفين كتوفيق زياد، سميح القاسم، سالم جبران وخاصة محمود درويش. وكانت صحفهم ومجلاتهم نافذة مفتوحة على الأدب التقدمي العالمي، نشعر من خلالها بأننا لسنا وحدنا في مجابهة التعسف والاحتلال الصهيوني، وأننا جزء من الشعوب التي تناضل لتحررها، وأننا جزء من تلك الثقافة التقدمية المناضلة للحرية .
هذا هو «التيار الدافئ» للماركسية، والتي دافعت عنه مدرسة فرانكفورت التي كانت تقول بأن الثقافة تتوجه إلى إنسانية الأفراد وتحررهم، قبل ان تتجه إلى هوياتهم الإثنية أو القومية أو الدينية. من هذه النقطة تبدأ التناقضات بين العمل الثقافي والفكر الإيديولوجي, فمسائل الحرية هي الأساس:هل للحرية حدود أم أن لا حدود لها؟ ما الفرق بين الأخلاقي والقانوني؟
هذه التساؤلات أصبحت محور تفكيري وهاجسي اليومي، أبحث من خلالها على أجوبة ذهنية في بادئ الأمر، ثم انتقلت إلى البحث عن موضوعات (themes) لأنقلها إلى تجارب عملية، مسرحية أو سينمائية في فترة دراستي في بلجيكا.

o o لماذا بدأت بإخراج أفلام وثائقية وليس روائية؟

n n السينما فن مبني على علاقة الفكر- بالعين، بالكاميرا، وبما أمام الكاميرا أو بالعكس! هل ما أراه هو واقع من الحياة اليومية، أم هو واقع ممسرح يمثل أمام الكاميرا؟
ما هو الواقع؟ هل هو العالم المحيط بي، أو عالمي الداخلي الذي يلقي نظرة ذاتية عليه؟ ما هي العلاقة الديناميكية والجدلية بين هذين العالمين، الخارجي والذاتي؟ هكذا بدأت أطرح على نفسي تساؤلات إشكالية سينمائية عن كيفية استنباط الواقع الفلسطيني بدون ضغوط إيديولوجية مسبقة! هناك عنصر آخر وأساسي أصبح محور اهتمامي: كيف علي أن أتعامل مع التجربة الوجودية الفلسطينية سينمائياً؟ كيف أتناول «قصة» شعب بدون ذاكرة مصورة؟ ما هو المسار الفكري والذهني والزمني لكتابة الذاكرة إجمالاً؟ ثم أتت أسئلة جديدة كان علي أن أجد لها حلولاً في أفلامي: كم زمن متراكم نعيشه في نفس اللحظة؟ كيف نتعامل مع حاضر يصبح في نفس اللحظة ماضياً؟
هذا ما أوصلني لاكتشاف عدة مستويات للذاكرة، كما في فيلم «معلول تحتفل بدمارها”، من زمن آني إلى زمن ذهني، لتداعيات الذاكرة، للحنين. ثم هناك الذاكرة الكاذبة وكتابة التاريخ الكاذب أي التاريخ الإيديولوجي . إذا كان علي أن اختار خط الفيلم الوثائقي لأتمكن من تسجيل «الواقع» وتفكيكه، لكي أعيد تركيبه سينمائياً، وأتمكن من خلاله من محو الحدود بين الروائي والوثائقي، وأستنبط منه العناصر الشعرية في تجربتنا الحياتية، أعتقد أن هذه هي أسس كتابة الشعر ومواكبة الواقع.

o o هذا ما دفعك لإنجازفيلم «الذاكرة الخصبة»؟

n n نعم، فيلم «الذاكرة الخصبة» (1980)، كان فاتحة تجربتي السينمائية. صورت ما أحب : المرأة هي أساس الفيلم وتداعيات ذاكرتها هي التي ترسم التجربة الإنسانية الفلسطينية. في حين أن خطاب الرجل مبني على الهرمية الرجولية بشكل سلطوي.
المرأة في الواقع تعيش الأشياء جسدياً في كل حيثياتها: علاقتها مع الرجل ثم مع الطفل. هي النقطة المركزية التي تقوم عليها جدلية الضحية والجلاد. فإذا نظرنا إلى المجتمع الفلسطيني، فهو ضحية الاستعمار والسلطة والعنجهية الصهيونية، ومن خلال ذلك، كان أهم شيء في الفيلم هو ضرب الخطاب الرجولي السائد، وصار مرجع فلسطين هو المراة المتمثلة بتجربة الكاتبة سحر خليفة والسيدة رومية حاطوم.
من جهة ثانية، في مجتمع فقير كالمجتمع الفلسطيني، كان هذا الفيلم أول تجربة مستقلة عن الخطاب السائد الفلسطيني: أردت للفيلم ان يكون للمرأة، لفلسطين، وليس عنهما. أردت إظهار إنسانية الأشياء وعناصرها في هذا البلد الملغي: الشجر، النور، الأرض، العصافير، الأطفال، موسيقى الحياة اليومية … السينما الوثائقية، بمتطلباتها التقنية البسيطة، أقرب للواقع الفلسطيني منها للسينما الهوليودية ذات المطالب التقنية الباهظة. الفيلم أعادنا إلى تجربتنا الإنسانية وأكد بأن دور الثقافة يساعدنا على عدم التنازل عن إنسانيتنا، وصراعنا مع الفكر الصهيوني هو ضد محاولة إلغاء إنسانيتنا. نحن لا نريد إلغاء حق الآخر لكن لن نسمح له بإلغاء حقنا.
كان من الضروري تصوير فلسطين، أن تظهر فلسطين على الشاشة كما هي: هي الأرض ولها دور رئيسي في الفيلم. ورغم الإمكانيات المتواضعة، كان من المهم لنا أن نوصل الفيلم لمستوى عالمي لأنه يطرح بنفس الوقت تساؤلات عن السينما بشكل عام، وكان له دور مهم، ليس فقط لفلسطين بل للسينما الوثائقية، لأنه استحضر مسألة جديدة هي استنباط الحياة الداخلية لشخصيات حقيقية.
فيلم الذاكرة الخصبة، هو عن كيف تعيش تحت الاحتلال من خلال صورة (بورتريه) لامرأتين تناضلان، كل على طريقتها، لانتزاع حقها كفلسطينية وكامرأة.

o o كيف بدأت العمل على فيلم «معلول تحتفل بدمارها»؟

n n فكرة الفيلم جاءت أثناء تصوير فيلم الذاكرة الخصبة. في أواخر الستينات كنت أعمل في كراج «فولكسفاجن» في حيفا، وكان مدير العمل من قرية معلول المدمرة، وهو من سكان الناصرة كذلك، وكنا نذهب سوية إلى العمل، وكلما مرت الحافلة بجانب حرش الصنوبر، على اسم سيء الذكر «اللورد بلفور» ، صاحب الوعد المشؤوم، يقول لي: «ها هي معلول، بلدي!». أما أنا فما كنت أرى إلا أشجار الصنوبر! كما تعلمين، فإن سكان القرى الفلسطينية التي كانت موجودة في المنطقة وهدمتها القوات الصهيونية، لجأوا إلى مدينة الناصرة، وحافظوا على هوياتهم القروية، ولم يقبلوا إلا بمناداتهم باسم قراهم: هذا معلولي، هذا صفوري، وهذا مجيدلاوي…
في نهاية الأمر رأيت صليب كنيسة من بين رؤوس الأشجار. وعندها صورت فيلمي الأول، وكان هذا في شهر أيار 1980، وهو شهر تقام به احتفالات «عيد استقلال دولة إسرائيل» والذي أبدع به أهل معلول بجعله يوم ذكرى نكبتهم! فعيد استقلال إسرائيل أصبح هو ذكرى النكبة الفلسطينية . معلول هي تجربة وجودية عشناها منذ طفولتنا. كان هناك تناقض جذري مع الذات: هناك درس التاريخ المفروض علينا في المناهج التعليمية الإسرائيلية من جهة، ومعرفتنا لتاريخنا المعاش. هذا التناقض الذي نراه في تجربة سكان معلول وذكرياتهم، أعطاني فكرة إنجاز فيلم يحكي هذه المأساة: الناس تعرف أن تاريخ هذه الأرض، أي التاريخ المعاش، هو مغاير لما يُدرّس في المدارس، الذي هو خطاب إيديولوجي. فهذه البلدة كانت وما زالت موجودة في ذاكرة أبنائها وبناتها، وها هي أصبحت أحراشاً، وقد مُحيت عن وجه الأرض وبقيت حية لا تمحى من أعماق ذاكرتهم.

o o هل هناك علاقة بين فيلم»عرس الجليل» والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982؟

n n يجوز بشكل غير مباشر . السيناريو كتب سنة 1984، وتم تصوير الفيلم في سنة 1986، وعرض في مهرجان كان سنة 1987ً. طبعا طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان أثر علينا جميعا . وأضفنا هزيمة جديدة إلى هزائمنا . وولدت أزمة وأسئلة جديدة عن إمكانية استمرار الحركة الوطنية الفلسطينية. دخلنا في فترة ضياع، وبدت لنا الأشياء كأنها انهارت كقلاع من الرمال. بقي لنا الصراع الثقافي الذي يحاول الغوص بأسباب الهزيمة، فجاء ردي بكتابة وإنجاز «عرس الجليل”، الذي يحكي عن مختار قرية يريد الاحتفال بزواج ابنه رغم وجود القرية بحالة حصار ومنع التجول الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي. فيجد نفسه مرغماً على دعوة الحاكم العسكري وضباطه إلى حفل الزواج!
كتبت السيناريو على أسس بنية المأساة الإغريقية. فمقدمة المأساة هو تحدي بين مختار القرية (أي الأب البطريركي) والحاكم العسكري (أي سلطة القوة والموت). فهذا الأخير يعلن للأب:» لن تستطيعوا أن تفرحوا دون إذن منا»! هذا التحدي يدفع الشعب ليصبح البطل الحقيقي، ويأخذ زمام المبادرة، ليعيد توجيه دفة التاريخ! في نهاية الفيلم يخرج الناس ويطردون الجيش الإسرائيلي من القرية.
الفيلم هو نشيد فرح للإنسان في فلسطين: الطفل، المرأة، العروس، العريس، الفضاء والزمن الفلسطينيين. أردت القيام بعمل سيمفوني، وأوبرا جماعية .

o o وماذا عن «نشيد الحجر»؟

n n ميشيل خليفي: في بداية ديسمبر سنة 1987، أي ستة أشهر بعد العرض الأول لعرس الجليل في مهرجان كان، انطلقت انتفاضة شعبية في غزة والضفة الغربية، استشهد أثناءها الآلاف من الأطفال والرجال والنساء، فذهبت في أوائل سنة 1989 إلى القدس والأراضي المحتلة، أبحث عن مدخل لإنجاز فيلم يحكي قصصاً عن الأطفال الذين استشهدوا وهم يدافعون عن كرامتهم ضد الاحتلال، فكان الحجر الذي يحمله الطفل أقوى من سلاح الجندي الإسرائيلي. لكن تراكم القتل والنضال وَحَّد الخطاب السياسي الفلسطيني وأصبح الجميع يتكلمون بنفس المفردات، والتعابير الوطنية، وهذا ما أدى إلى انحسار الخطاب العفوي الصادر من قلب التجربة الإنسانية، وهو ما كان يهمني أكثر من الشعارات الرنانة. فرضت على نفسي التركيز على العلاقة بين الإنسان والنضال، بين الرجل والمرأة، وبين الحاضر والماضي، وكيف نستنبط منهما حركة المستقبل.
كتبت قصيدة بصوت رجل وامرأة، وبنيت حولها قصة عن حبيبين في أربعينيات عمرهما، يتقابلان بعد 15 سنة من الفراق، هو دخل إلى السجن وهي سافرت إلى الولايات المتحدة للدراسة. هذا أعطاني البعد التاريخي والذهني وتداعيات ذاكرتهما التي استحضرت الخلفية التاريخية للانتفاضة. هكذا أصبح بإمكاني أن أبني فيلماً يتعايش فيه الروائي (المسرحي) مع الواقع المعاش (الوثائقي) وكان هذا بمثابة تجربة جديدة في داخل العمل السينمائي.

o o ما هي انطباعاتك عن السينما الفلسطينية في تلك الفترة؟

n n للأسف، في تلك الفترة، أنا كنت المخرج الوحيد في المشهد السينمائي الفلسطيني. منذ سنة 1980 وحتى أوائل التسعينات لم يكن هناك مخرجون فلسطينيون. لكن في سنوات التسعينيات ظهر عدة مخرجين قاموا بإغناء وتوسيع مواضيع وأشكال سينمائية جديدة…إنهم من جيل “أوسلو»، وقد ركزوا أكثر على العولمة ورغم تفاوت المستويات إنما هذا كان إنجازاً رائعاً للسينما الفلسطينية. فأصبحت أنا بدوري جزءاً منهم وأنجزت عدة أفلام ومنها: «الزواج المختلط في الأراضي المقدسة» سنة 1994، وهوفيلم وثائقي يطرح قضية الأزواج المهمشة على أساس قصة حبهم، وهم الآتون من عائلات دينية أو عرقية مختلفة، تعصف بهم رياح القوميات الضيقة، والعنف الديني الذي يسيطر على المشهد العام في الشرق الاوسط.
«حكاية الجواهر الثلاث» سنة 1995، الذي يحكي عن الطفولة في قطاع غزة، حيث الواقع هناك بائس وأليم، يصارع فيه الطفل حول كيفية المحافظة على حقه في طفولته! صوّرنا الفيلم في غزة، وهو أول تصوير يحدث هناك! وقد أصريّت على إنجاز الفيلم في غزة ومع أهلها، وهذا جزء من التزامي وتضامني مع غزة المهمشة، التي لها الحق أن تدخل في العالم الحديث وتحافظ على كرامتها الإنسانية. من خلال الطفل يوسف وصديقته (محبوبته) عايدة، أردت أن أدفع المجتمع للاعتراف بالفرد، بكيانه، بحقه في التجربة وفي الإبداع، على أن يكون الأساس في بناء مجتمعه.

o o هل فيلم «الطريق 181» جاء كرد على اتفاقيات أوسلو؟

n n في بداية سنوات 2000، انطلقت الانتفاضة الثانية، والتي نتج عنها عنف لا يحتمل! بدا الخطاب السياسي الاسرائيلي والعربي ينزلق أكثر وأكثر نحو العنصرية. فكل المحاولات والتجارب التي قامت بها عناصر تقدمية فلسطينية\\اسرائيلية أو عربية\\يهودية انهزمت أمام عنف الخطاب العنصري، ليبشر بما نحن به الآن من خطاب داعشي أو يميني متطرف في إسرائيل وأوروبا، والغرب إجمالاً!
فكرنا، إيال سيفان (مخرج تقدمي إسرائيلي معادي للصهيونية) وأنا، بأن نقوم بإنجاز عمل مشترك ليكون عبرة ضد الخطاب العنصري الآتي من كل الجهات. كان مهماً أن نقول بأننا لا نريد إلغاء إنسانية أحد، فلا اليهودي باستطاعته إلغاء إنسانية العربي، ولا العربي قادر على إلغاء إنسانية اليهودي. كنا واعين بأنه من غير الممكن تخطي هذه المرحة الحاسمة بدون الحروب الأهلية التي ستجلب البلاء للمنطقة! لقد دخلنا مطبات وأزمات «الهويات القاتلة”، التي لم تعد تتحمل إيقاع التغييرات الجمة الناتجة عن تغييرات ديموغرافية جذرية، ووعي جديد مبني على هوية الفرد، لا هوية الجماعة المعتادين عليها منذ آلاف السنين. إنها نهاية المجتمعات الجماعية المبنية على الدين أو الطائفة أو القبيلة والعشيرة وحتى التجمعات الإيديولوجية الحزبية، وولادة مجتمعات جديدة مبنية على المواطنة والتي يكون فيها للفرد الدور الأساسي الذي سوف يقودها نحو الديمقراطية.
إننا نرى أمام أعيننا صراعاً اجتماعياً\\سياسياً وفكرياً بين العالم القديم الذي لا يريد أن يموت والعالم الجديد الذي عنده صعوبات كثيرة قبل الولادة من رحم الواقع المتأزم! هذه هي أزمتنا، وبدون أن يكون أولاً، مساواة بين الشمال والجنوب، الغرب والشرق، الأغنياء والفقراء، فكيف لنا أن نبني عالماً إنسانياً يأخذ بعين الاعتبار اللاعدل الذي نعيش به؟
لقد أصبح المجتمع الصهيوني\\الاسرائيلي مرجعاً في الشرق الأوسط، وحتى في العالم خصوصاً في الغرب ! انها مسخرة: الفكر الصهيوني الآن في بداية انحطاطه، لم يعش «شبوبيته» إلا سبعين سنة، وهو بدأ يترهل وسوف نشهد بداية انهياره ولكنه سوف يترك «إرثه» (تركته) لشراذم الشرق التي تفتّت بلادنا . النظام الصهيوني أصبح مرجعية لتلك القوى: كل تجمع قبلي أو ديني أو طائفي يريد أن يتمثل به. كلهم يريدون هويات قاتلة مبنية على أسس الهوية الصهيونية: أسطورة دينية، مرجعية تاريخية مبنية على الخطاب الكاذب، ولغة مفبركة!
أما بالنسبة للعالم الغربي، ولإمبراطوريته التي هي أيضاً في طور الأفول، فقد أصبحت الصهيونية آخر معاقل استعماره، يتعلم النظام الغربي آخر تقنيات وفنون الحروب التكنولوجية التي يقوم بها ضد العرب والمسلمين! هكذا يختلط الحابل بالنابل، فها هو القوي يفرض على الضعيف أن يتمثل به، وفي نفس الوقت يتمثل القوي بالضعيف ويقوم بنفس الوقت بتدجينه.عندما يفقد كل منهما “الأصالة»، تولد أزمات الهوية ويفقد كل واحد صورته، لا يعود يعرف من هو وما عليه القيام به: هل نحن هم وهل هم نحن؟ فالأصولي الإسلامي يصبح كاريكاتيراً للأصولي اليهودي الذي هو بدوره كاريكاتير للأصولي المسيحي الذي هو بدوره…الخ. فليس بينهم اختلاف إلا بطرق القتل والتنكيل والاستغلال.
نحن محتاجون لوقفة كبيرة أمام عالمنا الرمزي المسيطر على وجداننا: نحن يحكمنا الأموات، ونعيش في عالم غير موجود إلا في رؤوسنا، غير قادرين على القيام بالحداد الضروري لنفصل الماضي عن الحاضر، والحاضر عن المستقبل.
عندما ذهبنا إيال وأنا لنصور «طريق181»، وجدنا أنفسنا كالانسان الذي يسير في داخل جرح كبير، وعلى ضفتي الجرح أناس مختلفون يتألمون، كل على طريقته! الإسرائيليون من جهة، هم الآتون من جروح ورضّات ماضيهم اللعين، وها هم مجبرون على أن يواصلوا الكذب على أنفسهم لأنهم يعرفون ما قاموا به ضد الشعب الفلسطيني، وكيف محوا عالمه، لكنهم مجبرون أن يواصلوا الكذبة المبنية على أساطير ليس لها مكان في العالم الحديث وهذه صدمة بحد ذاتها. والفلسطيني غير القادر على مواجهة واقعه التعس ومحاولة فهم ما حدث له، واين هي مسؤولياته وهو قابع في صدمته التي تحجب عنه نور الحقيقة.
عندما بدأنا التصوير فرضنا على أنفسنا خطاً وشروطاً سينمائية\\أخلاقية واضحة: أن لا نهين أو نستهزأ بأحد، أن يكون اللقاء مع الناس عفوياً بدون تحضير، أي أن لا نقرر بشكل مسبق، وأن نحترم الجميع حتى لو كانوا من حثالة الفكر العنصري!

o o كيف تعتقد أنه بإمكاننا تخطي تحديات المرحلة الراهنه؟

n n في «الزنديق» 2009، الشخصية الرئيسية تبحث عن ذاتها ولا تتماهى مع القوة والعنف. فهو يعرف أن أساس التراجيديا الفلسطينية نابع من القوة والعنف الاستعماري. إن خلاص المجتمعات المقهورة لا يأتي إلا من خلال الإبداع والبحث عن الحرية والالتزام بالقضايا الإنسانية الأساسية. هذا يعني أن كل مرجعياتنا يجب أن تكون أخلاقية وقانونية. يجب علينا البحث عن تجارب الشعوب الأخرى مثل النضال السلمي في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وخصوصاً في جنوب أفريقيا حيث مانديلا أعطانا درساً في النضال الأخلاقي. الصراع السلمي رائع وفي الزنديق حاولت معالجة هذا الجانب قبل أن يصل النضال الفلسطيني إلى مازق العنف اللانهائي.
هذا كان استشعاراً للعنف الآتي الذي انفجر بعد التجارب الأولى لما سُمي فيما بعد «الربيع العربي». رجوع الشخصية الرئيسية في فيلم «زنديق» إلى بيت العائلة، ومرعى طفولته، حيث يجده منهاراً ومحتلاً، جعله يدرك ضرورة البدء بإنجاز الحداد اللازم لكي يفهم ما الذي جرى وأوصلنا إلى هذه الأوضاع.
مسألة الحداد على الماضي مهمة، لأن الماضي يسكننا ويحجب عنا رؤية المستقبل: في»الزنديق» كما في واقعنا الأليم، الماضي هو الذي يحكمنا! كل الشخصيات التي توجهنا هي شخصيات ميتة! الأموات يحكموننا! الحنين الذي ليس له معنى لا ينتج إبداعاً، وإذا كان مربوطاً فقط بماض مات سوف يمنعنا من طرح التساؤلات الأساسية ويشلّ حركة التاريخ. أنا مثّلت نفسي وهي الشخصية الرئيسية في الفيلم، التي أردتها أن تمثل الإنسان العربي الحديث (الجديد). لذا كان عليه أن ينجز حداده. هناك علاقة صحية مع ظاهرة الحداد حيث يجب أن يتم الفصل بين الإرث الرمزي والإرث المادّي، وعليه فإن إنجاز الحداد هو إعادة تنظيم لعلاقتنا المادية والرمزية بالأشياء. لهذا نجد أن كثيراً من العائلات تنفجر بعد موت الأب أو الأم لعدم إنجاز حداد صحيح.
التركيز هنا على إعادة العلاقة بالأشياء وليس على النسيان: فلسطين القديمة لن تعود، لكن إنجاز حداد صحيح يعطينا إمكانية رؤية فلسطين المستقبل، أي فلسطين الجديدة التي نسعى إليها. ما أردت طرحه هو: ماذا نريد أن نعمل بصورة فلسطين؟ هل نعيد تكرار نفس «القصة»، و»التساؤلات» وبنفس الأشكال؟

 


الكاتب : موقع جدلية

  

بتاريخ : 04/02/2023