المخرج الفرنسي جان لوك غودار: لم نحزن أبدا بما يكفي لأن يصبح العالم أفضل

في أحد آخر حواراته مع «لوموند»، قال جان لوك غودار (88 عاماً) ، أحد أعمدة «الموجة الفرنسية الجديدة»، وبالتأكيد أحد أهم المخرجين والسينيفيلين والنقاد الذين لا تنتهي أقواله الفلسفية حول السينما: «السينما ليست استنساخًا للواقع، إنها نسيان الواقع. ولكن إذا سجّلنا هذا النسيان، يمكننا عندئذ التذكّر، وربما الوصول إلى الواقعي. إنه بلانشو الذي قال: «النسيان، هذه الذكرى الرائعة».. وهذا ليس إلا عينة من التماعاته الفلسفية والنقدية حول السينما، إذ تتوالد أفكاره وتتشابك مع الأدب وعلم النفس والتاريخ وعلم الاجتماع.

ولد غودار في باريس لأبوين سويسريين/فرنسيين، درس في جامعة السوربون في باريس. أثناء دراسته انضم إلى مجموعة هواة سينما فرنسيين ضمت فرانسوا تروفو وجاك ريڤيت وإريك رومير وكلود شابرول وآخرين. وحين أسس أندريه بازان مجلته السينمائية الطليعية «دفاتر السينما» كان غودار من كتّابها الأوائل قبل أن ينتقل إلى الإخراج.
تكوينه النقدي أثّر في أسلوبه على مدى مشواره السينمائي. غودار هو أحد أكثر المخرجين الذين أعادوا اختراع أنفسهم بشكل دائم، مشتغلًا على التجريب في السرد السينمائي، وبناء الفيلم، متحديًا التقاليد السينمائية المعتادة.
فقبل 50 عاما، أي في مايو 1968، امتدت حركة الاحتجاج الكبرى التي بدأت بثورة السينمائيين، من باريس إلى مهرجان كان السينمائي، وكان جان لوك غودار، أحد رواد حركة الموجة الجديدة، في طليعة السينمائيين الذين عقدوا المؤتمرات وأصدروا بيانات الاحتجاج وأقاموا الدنيا كلها، ثم احتلوا قصر المهرجان ونجحوا في إلغاء الدورة في ذلك العام، ذلك أنهم اعتبروا المهرجان أحد صروح الاحتفاء بالسينما التقليدية القديمة.
ومع كلّ فيلم جديد خلال مسيرته السينمائية يعتقد المتتبعون أنه باح بكل شيء، ولكنه يفاجئهم بالمزيد من الأقوال والمزيد من أساليب القول. السينما لعبته وغرفة المونتاج ملعبه حيث يقضي معظم أوقاته.
ومن هذه الغرفة أنجز أحدث أفلامه التي عرضت للمرة الأولى في مهرجان كانّ السينمائي عام 2018 وحاز على سعفة ذهبية خاصة استحدثها المهرجان من أجله ومن أجل فيلمه المميز «كتاب الصورة» Le livre d›Image.
في آخر أفلامه «كتاب الصورة» قدم غودار مقالاً مصوراً. تاريخي، سينفيلي، أدبي، موسيقي، فلسفي، فوتوغرافي، اجتماعي، إيديولوجي، فيلم لا يشبه أي شيء مرّ قبله، يقوم على تاريخ الصورة والسينما والسياسة والثورات والبلدان. صور، مشاهد فيديو، تقارير إخبارية، اقتباسات صحفية، مشاهد من أفلام سينمائية، مناظر طبيعية، موسيقى كلاسيكية، صوت بدون صورة، وصوت غودار يعلو على كثيرٍ مما سبق. كل ما يمكن تخيله موجود بفوضوية عارمة خلاقة، بفن لا يمكن تفكيكه عن أي شيء وعن كل شيء.
في البداية هناك يد وأصابع خمسة، تدل على عدد فصول الفيلم. على الإثر ودون سابق إنذار تبدأ الأفكار بالتدفق، لغة سينمائية فريدة استثنائية لصانع أفلام حر، دقيق وخبير في مجاله، قادر على جمع القطع في فسيفساء حية، تحيي القرن الماضي وتضعه في حوار مع القرن الحالي، سلسلة من الأفكار المتقاطعة تتم مراجعتها مراراً وتكراراً في الطريق إلى إعلان نهائي غير متوقع، خاتمة تنطوي على بعضٍ من الأمل، على غودار الذي لا يزال «يؤمن بالثورة» كما يكرر على مسامعنا في النهاية.
وبحسب غودار تقوم الرؤية البربرية للشعوب العربية اليوم على تحيز ونفاق العالم الغربي «من السهل جداً المطالبة بنهاية الحرب عندما نرى أن النتيجة هي انتصارنا،» كما يقول.
تسبق نهاية الأمل قصة سياسية عويصة، الفصل الخامس الأخير، هنا العالم العربي في فهم السينمائي الفرنسي، يحكي عن الثورات المحبطة، عن الصراع السياسي والعسكري، عن المنطقة العربية كمهد للحضارة لا يمكن للبرجوازية الأوروبية أن تستوعبها. يُظهر كيف أنّ الحضارة البشرية قد ولِدت هنا، وكيف يطول أمد الصراعات الكبرى في الشرق الأوسط حتى اليوم. إنها منطقة «مركزية» من حيث الأهمية الجيوسياسية، وأيضًا من حيث فهم التنظيم الاجتماعي للإنسان. الملف العربي، هو الثقل الأساس في الفيلم، يحكي عن الاشكالية بين الغرب والعالم العربي وهنا تتضح فكرة غودار. يبدأ بالتقاط العنف الذي فصله المجتمع الغربي ضمن معايير أخلاقية خاصة به. الخلاصة هي أن الغرب عنيف تماماً مثل أي مكان آخر. بحسب غودار تقوم الرؤية البربرية للشعوب العربية اليوم على تحيز ونفاق العالم الغربي «من السهل جداً المطالبة بنهاية الحرب عندما نرى أن النتيجة هي انتصارنا،» كما يقول.
بهذه الطريقة يعترف غودار بنون الجماعة، بأنه هو نفسه كفردٍ في المجتمع الغربي ضحية لهذا التحريف. هي لحظة صدق وسموٍ فكري نادرة في بانوراما السينما الحالية. ينتقل غودار بعد ذلك إلى توصيف العوامل التي أودت بالعالم العربي إلى عدم استقراره الحالي بعد ماضٍ ذهبي. القوى الاستبدادية الرأسمالية عامل ضخم في زعزعة الاستقرار، الطغيان لا يأتي بمفرده في بعض الأنظمة السياسية الدعم الغربي موجود دائماً، النفط، التجارة العالمية، الضغوط الإقتصادية… كيف وُضع الناس في زاوية بائسة، مما أدى بهم إلى اتخاذ تدابير يائسة: «إنهم يستخدمون تقنيات قوية للسيطرة. الناس ليس لديهم خيار آخر سوى اللجوء إلى القنابل. وهذا طرفٌ سأكون دائماً إلى جانبه.»
في لُبِّ هذه الفكرة لا اعتذار ولا تحريض على العنف. يتم تقديم المشكلة كأعراض لنظام غير متكافئ على المستوى الاجتماعي، نظام يجب القضاء عليه برأيه، في خطاب من التأنيب الثقافي الاجتماعي السياسي والاقتصادي للجميع وخاصة الغرب. من الفصل العربي الأخير نقفز إلى البداية. الفكرة العامة لـ «كتاب الصورة» هي التحدث عن الإنسان وعلاقته بالعالم من خلال هذا الكم الهائل من الصور التي اختارها المخرج، عن النزعة البشرية لتكرار الأخطاء نفسها على الدوام، كأن البشر نفسهم يتكررون على مرّ السنين ولكن بملابس جديدة، ومن هذه الفكرة يبدأ غودار.
ثم ينتقل إلى الفكرة الثانية إلى فلسفة الثورة الاشتراكية، هنا يستخدم الفرنسيُّ الإبهام أكثر. كان ملفتاً التركيز على وضع المرأة في نقاط مختلفة، مشاهد جمعتها الكآبة، المرأة المهانة والمغتصبة في الأفلام الروائية وفي الواقع، تشديدٌ يؤشر إلى ضرورة التأسيس لنضال نسوي حقيقي وواسع، فالاستغلال ليس اقتصادياً فحسب إنما شخصي كما يخبرنا غودار.
«كتاب الصورة» بقدر ما فيه حروبٌ وفنٌ ودمارٌ، إلّا أنّه يصبّ في مكانٍ آخر. إنّه يحكي قصة الفشل البشري المتكرر، فشلنا كجنس بشري على هذا الكوكب.
الجزء الثالث شاعري وغنائي أكثر، هنا يستخدم غودار الكناية، القطار حياة تمر ورحلة تنقضي. إنّه وسيلة نقل الناس جسدياً، وسيلة نقل المهاجرين، المهاجرين كاليهود على سبيل المثال (إلى معسكرات الاعتقال ولكن أيضاً إلى أرض الميعاد). هنا الأفكار أكثر مرونة وهنا أجمل لحظات الفيلم.
في الجزء ما قبل الأخير يجرّنا غودار إلى القوانين، يتحدث عن السلطة، الدولة، القمع القانوني والصراعات الإنسانية. هنا الجزء الأكثر دموية والأقل فرحاً. المفهوم واضح لا ريب فيه بعكس السرد المتذبذب والمبهم. هنا نخسر التأثير والمتعة البصرية اللذان حققهما الفيلم في فصوله الأولى لتكبر محفّزات التفكير، عبارات مثيرة للجدل عن الإرهاب والفن، وهنا مربض خيل غودار، يجدر بالفن أن يكون ذو قوة تغيير اجتماعي ولو عنفية.
«كتاب الصورة» بقدر ما فيه حروبٌ وفنٌ ودمارٌ، إلّا أنّه يصبّ في مكانٍ آخر. إنّه يحكي قصة الفشل البشري المتكرر، فشلنا كجنس بشري على هذا الكوكب. الفيلم، الكتاب، الصورة، اجتمعوا ثلاثة في انجاز جان لوك غودار الأكثر إنسانية رغم سوداويته. لكنّ أفكار وطروحات العظيم الفرنسي لا حدود لها، والصفحة الأخيرة من «كتاب الصورة» تشي بالمزيد..
وفي هذا الصدد، قال الإعلامي والناقد أمير العمري: «ربما لو كان «كتاب الصورة» يحمل توقيع مخرج آخر، لما كان ليثير كل ما يثيره من اهتمام، لكن لأنه «فيلم غودار» فلا بد من تناوله بما يستحقه من جدية واهتمام.لماذا؟ لأن غودار لا يمزح، ولا يعبث بالمادة البصرية والصوتية، بل إنه يستخرج منها دلالاتها الفلسفية التي تنسجم مع منهجه الراسخ وأسلوبه الخاص منذ أن كان يصنع «موجته الجديدة»، أي تحويله لغة الفيلم إلى لغة شعرية تمتلك إيقاعها الخاص من داخلها وليس من خلال الصدام الدرامي المصطنع».
وأضاف العمري: «غودار هنا، لا يعتمد كعادته منذ أن هجر “السينما”، وأصبح يحلق في عالم الصور بلا حدود، على قصة أو سياق قصصي واضح ومفهوم مهما تداخلت الصور والمواقف والأفكار، لكنه يستخدم في “كتاب الصورة” شذرات من الصور ومقاطع من نشرات الأخبار التلفزيونية، ولقطات من بعض الأفلام القديمة سواء من أفلامه مثل «الجندي الصغير» (1963) عن الحرب في الجزائر الذي منعته الرقابة الفرنسية، أو من أفلام غيره مثل «النهر» لرينوار، و»الفيل» لجس فان سانت و»سالو» أو «120 يوما من حياة سادوم» لبازوليني، مع لوحات فنية ورسوم ولقطات مشوّهة ربما تكون مصوّرة بالهاتف المحمول، مع كتابة عبارات تظهر على الشاشة مثل «أن تكون أو لا توجد».
كما يستغني غودار تماما عن الممثلين باعتبار أن التمثيل نوع من الكذب، تماما مثل الأحاديث، ليصوغ أفكاره من خلال التوليف المرهق لكل هذه اللقطات والصور ووضع الكثير منها في تعارض مع بعضها البعض، لكي تنتج معنى ثالثا حسب المونتاج الذهني أو مونتاج الصدمة ومرجعه إلى أيزنشتاين.
وكما هي عادته في أفلامه الأخيرة منذ «التاريخ الحقيقي للسينما» و»فيلم الاشتراكية» و»وداعا للغة»، يستخدم غودار التعليق الصوتي من خارج الشاشة، والمستويات المتعدّدة للأصوات التي تأتي من مناطق مختلفة في عمق الصورة، ويستغني أحيانا عن ترجمتها إلى الإنكليزية، ويتضح صوت غودار نفسه مع أصوات معلقين آخرين، يردّدون بعض العبارات التي لا تشرح الصورة، بل ولا يكتمل الكثير منها، كما يقطع في التتابع بحيث يرهق أي متابع للفيلم ويرغمه على أن يخضع لـ»تعويذة» غودار الخاصة.. أي يصبح طرفا من ناحيته في الفيلم، في مساره ومغزاه.
يؤمن غودار بالوظيفة التعليمية للسينما، كوسيلة للتنوير، لتحقيق الصدمة، صدمة الوعي: إنه يعرض على سبيل المثال لقطة قديمة لمجموعة كبيرة من السجناء الشباب الفلسطينيين الذين أرغمتهم قوات الاحتلال على الزحف على الأرض، ثم يقطع إلى اللقطة الشهيرة من فيلم «سالو» لبازوليني، حيث نشاهد مجموعة من الشباب والفتيات العراة أرغمهم الفاشيون على الزحف على الأرض أمامهم.
إلاّ أن غودار يبدو هنا أكثر تشاؤما بمصير العالم الذي يرى أنه يقضي على نفسه بنفسه، وهو يقول إنه يؤمن بالفقراء لأنهم المهزومون إلاّ أنهم يدمرون ثرواتهم الطبيعية بأيديهم.
وعلى حين أنه ما زال كما يقول، يؤمن بالثورة إلاّ أنه يرى أنها تأخرت كثيرا عن الإطاحة بالعفن الموجود في العالم، فالعالم كما يراه غودار يتجه اليوم نحو الدمار بسبب بلاهة القوى المسيطرة على مقدرات الأمور فيه.
وفي حين يعتبر أن أوروبا أدخلت العالم في حلقة جهنمية منذ الحروب الكبرى خاصة الحرب العالمية الثانية التي يعود إليها كثيرا، لكن أميركا الآن هي التي تشن وتدعم الحروب، إنه يعود إلى الحرب الأهلية الإسبانية ويشير في أسى إلى المصير المأساوي الذي انتهت إليه، ويقول إن سبب دمار العالم يكمن في البنوك التي هي «سبب شر الرأسمالية».
في الفيلم الكثير من اللقطات والأغاني التي لا تكتمل، حيث يقع قطعها قبل أن تحقق التأثير الدرامي الذي يولد المشاعر».
يقسّم غودار فيلمه إلى فصول مختلفة يمنحها عناوين مثل «الأرشيف والأخلاق»، و»روح الروح» أو Spirit of Soul و»فكرة مركزية».. إلخ، وتظهر على الشاشة عبارات «مع الشيوعيين سأمضي حتى الموت» (في سياق الحرب الأهلية الإسبانية)، لكن الموت لا يصنع النصر.
ويقول صوت غودار «إنني أحتاج إلى الدهر بأسره لكتابة قصة تدور في يوم واحد فقط»، وإن «الحرب ربانية» وإن «مالرو قال: يجب أن نجعل الأبوكاليبس يصبح جيشا وإلاّ سنموت»، و»نحن لم نحزن أبدا بما يكفي لأن يصبح العالم أفضل»، وتظهر على الشاشة لقطة صادمة لمجموعة من المشانق تتدلى منها العشرات من الجثث، تعقبها مباشرة لقطة أخرى لمجموعة من النساء يرتدين العباءات السوداء والبراقع، وهنّ يهرولن صوب قطار يقف في المحطة. فغودار مغرم بالقطارات وبالسفر وهو يخصّص فصلا يمنحه عنوان “نهاية الرحلات”، رحلة اليهود إلى المعسكرات.. إلى الهولوكوست، ورحلة رجال ونساء من الأفارقة لا نعرف إلى أين؟
وفي لقطة مذهلة نرى مقدّمة قاطرة تسير على القضبان وأمامها مباشرة تزحف مجموعة من الحمائم لا تريد أن تبتعد بينما تتقدّم القاطرة صوبها، لكن غودار يبدأ الكثير من اللقطات والأغاني، إلاّ أنه لا يكملها أبدا، بل يقطعها قبل أن تحقّق التأثير الدرامي الذي يولّد المشاعر، فهو لا يريد للمشاهد أن يتفاعل وجدانيا مع الصور، بل أن يتأمل في مغزاها، في مغزى تلك الفوضى البصرية الهائلة التي تمر أمامه كما لو كانت تصدر عن عرض من عروض “صندوق الدنيا”، بل ويمكن اعتبار الفيلم بأكمله أحد عروض صندوق الدنيا، فهو ليس أي فيلم سينمائي مألوف حتى في سينما غودار المركبة، بل إن “كتاب الصورة” سيتجوّل كعرض من عروض الصور في عدد من المدن العالمية مثل باريس ومدريد وسنغافورة ونيويورك.

 

جان-لوك غودار: فقدتُ الرغبة
في أن أنزل الشارع لمشاهدة فيلم

 

هذا جزء من حوار طويل أجرته صحيفة لوموند الفرنسية مع المُخرِج جان-لوك غودار في باريس، يوم الثلاثاء 27 ماي 2014، وقد استمرّ لساعتين، وهو حوار نادر لغودار ننشر بعض مقاطعه:

بدءًا من اللحظة التي تضع فيها هذا العنوان الفرعي تحت اللوحة، فأنت تُجبر العيون على الرؤية في اتجاه معيّن…

صحيح، ولكن بعد ذلك يمكنك الذهاب إلى أي اتجاه آخر تحب.

هل تفكّر حاليًا في فيلمك القادم؟

لا على الإطلاق. ربما لا أفعل، أو أفعل ذلك مع أفلام قصيرة مثل «رسالة إلى جيل جاكوب». كانت رسالة خاصّة، ولكنه قرر أن يجعلها علنية.
في الفيلم، تلجأ في عدة مواضع إلى تجريب تقنيات حول الصورة. فهل يعجبك ما يفعله فنانو الفيديو؟ بِل فيولا Bill Viola، هل ستذهب إلى القصر الكبير Grand Palais لمشاهدته؟

لا، أنا أكره ذلك. تمامًا مثل بوب ويلسون. إنه سيناريو ليس إلا. إنه نص مكتوب، صيغ في قالب صورة، عادةً ما يكون مبهرجًا.

أي سينمائيين يعجبونك اليوم؟

لا أعرف تسعة أعشارهم. في باريس، فقدتُ الرغبة في أن أنزل الشارع لمشاهدة فيلم. ربما أشاهد فقط الفيلم السوري المعروض في كانّ، ثم فيلم سيساكو Sissako، وكنت قد رأيت «باماكو Bamako» على الـ DVD. أما فيلم Mommy فلن أذهب لمشاهدته، لأنني أعرف ما سأجده فيه. نعرف أن ثلاثة أرباع الأفلام حاليًا هي فقط ما يُكتب عنها في مجلة Pariscope: طيار يحب طبيبة أسنان…

هل تعتقد بأن الديمقراطية ماتت؟

لا، ولكن يجب ألّا تُمارَس بهذا الشكل. ربما هناك طرق أخرى. عادةً نجد هذه الطرق مع ميلاد الأشياء. ولهذا، فمن المهم أن نعود إلى الوراء. مؤخرًا، أعدتُ قراءة رواية مالرو «غرقى الألتنبرغ»، من نشر مكتبة لابلياد La Pléiade في نفس المجلّد، وجدتُ نصًا ضخماً «شيطان المطلق»، كتبه مالرو عن لورنس العرب. لم أكن أعرف هذا النص، وهو مختلف كثيرًا عن كتبه الأخرى كـ «الأمل» أو «الوضع الإنساني». ولا يجب أن أنسى هذا النص المُسمّى «من الفيستولا إلى المقاومة»، الذي يصف فيه مالرو هجومًا غازيًا على الجبهة البولندية الروسية. ولا أنسى أن سارتر كتب «موتى بلا قبور»، الذي يناقش قضايا بلا حلول متعلّقة بالمحرقة.
كما أن مالرو أخرج فيلم «الأمل» قبل أن يكتب الرواية نفسها. كان بحاجة إلى صنع ما هو أكبر من الكتاب، إلى صنع شيء آخر، صنع فيلم. إن أحد أوائل النصوص التي ساعدتني هو «مخطط لسيكولوجية السينما» الذي كتبه مالرو في 1946، ولكني قرأته في مجلة Verve.
مالرو، وسارتر، بالنسبة لي، هما نصفا-آلهة. ما هو المقابل المذكّر لكلمة muses؟ (جان-لوك غودار: ميوزات، حوريات) ليس هناك كلمة مذكّرة. أحب كثيرًا كتاب «كليو Clio» لـ (شارل) بيغي Péguy. كليو، ميوزة التاريخ. كان بيغي يقول: «ليس عندنا سوى كتاب نضعه في كتاب…». وقد وضعته أنا في «تاريخ السينما» Histoire(s) du Cinéma (1988).
السينما ليست استنساخًا للواقع، إنها نسيان الواقع. ولكن إذا سجّلنا هذا النسيان، يمكننا عندئذ التذكّر، وربما الوصول إلى الواقعي. إنه بلانشو الذي قال: «النسيان، هذه الذكرى الرائعة».

الفيلم الوثائقي أم الفيلم الروائي، هل يمثّل ذلك مشكلة لك؟

الاثنان شيء واحد. وقد قيل ذلك في زمن روش Rouch، إنه أمر بديهي. وقد احتاج آلان رينيه Resnais، سريعًا، إلى سيناريو، إلى نص. الأمر نفسه ينطبق على سترَوب Straub. بعض أفلامه الرائعة مصدرها المقاومة أو بافيتزي Pavese. لقد أحببتُ وارهول Warhol عندما صنع فيلمًا عن الطعام أو النوم. لم أستطع مشاهدة أكثر من ساعة منه، ولكن مع ذلك فالأربعون دقيقة التي قضيتها أمامه ليست سيئة.

قال لانزمان، إنه يريد صناعة فيلم حول المشكلة الجدل هذه بين الوثائقي والروائي…

إنه سيناريست. وأحيانًا كنا نشتبك لفظيًا، فقط. أمّا فيلم «الألم والشفقة» لـ مارسيل أوفولس Ophuls، فهو فيلم لطيف أيضًا. لقد صنعه في وقتِ كان يجب عليه فيه صناعته، حتى لو أنه ليس أفضل أفلامه.

إذن أفضل أفلامه هو Hôtel Terminus؟

نعم. وإلى جانبه غروشو ماركس عندما يسأل الناس.


بتاريخ : 04/05/2019